في الوقت الذي دخلت فيه أزمة التعليم مرحلة الخروج النهائي من النفق المسدود، عاش الأرشيف المدرسي قبل أيام، جريمة صامتة، مرت كسحابة صيف عابرة، دون أن تحرك لا مشاعر التنديد ولا عبارات الإدانة والاستنكار، ونقصد هنا، ما وقع بإحدى المؤسسات التعليمية التابعة للمديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتعليم والأولي والرياضة بسيدي سليمان، لما أقدم العشرات من التلاميذ على الهجوم على المؤسسة التعليمية المعنية باستعمال الحجارة والعصي، وعاثوا داخلها خرابا وتدميرا وتكسيرا وانفلاتا، في مشاهد مؤلمة، كان الخراب والدمار والانفلات عنوانها البارز، ولم تتوقف عجلة التخريب عند حدود تعييب مرافق وممتلكات المؤسسة التربوية، بل طالت حتى الأرشيف المدرسي؛ ما حدث في سيدي سليمان، قد يربطه البعض بتداعيات ما بات يعرف بالحراك التعليمي، على المدرسة العمومية وخاصة على سلوك التلاميذ الذين دخلوا في حالة غير مسبوقة من التيه والقلق والتوجس، في ظل التوقف المتكرر لعجلات الاستمرارية البيداغوجية لأزيد من ثلاثة أشهر، وقد يربطه البعض الآخر، بفشل ذريع للمناهج والبرامج، التي ثبت عجزها عن تسليح الناشئة بالقيم الوطنية والدينية اللازمة، في ظل ما يبرزه واقع الممارسة، من سلوكاتلامدنية في أوساط الكثير من التلاميذ داخل المؤسسات التعليمية بل وحتى داخل الفصول الدراسية، من غش مدرسي وملابس غير تربوية وحلاقات مثيرة وكلمات نابية، وانعدام ثقافة المسؤولية والجدية والمواظبة والالتزام، وقد يربطه البعض الثالث، بفشل مؤسسات التنشئة الاجتماعية وعلى رأسها مؤسسة الأسرة، في تحمل مسؤولياتها التربوية والتأطيرية، وقد يربطه البعض الرابع، بقصور التشريعات والضوابط المدرسية وعجزها عن الضبط وفرض احترام القانون في أوساط التلاميذ، وربما قد يربطها البعض الخامس بشيوع ثقافة العبث والتسيب داخل المجتمع، والتي امتدت عجلاتها في صمت، إلى داخل الفضاءات المدرسية... ومهما أسهبنا في استعراض الأسباب والمسببات، فالثابت أن ما حدث في المؤسسة التعليمية المعنية، من هجوم وتخريب وتعييب ، يعد جرائم مخالفة للقانون ومعاقب عليها بمقتضاه، والفاعلون هم تلاميذ قاصري السن، تركوا الكراسة والقلم في لحظة تهور واندفاع، وتحولوا بدون وعي أو إدراك، إلى أحداث جانحين ربما قد تطالهم سلطة القانون كلهم أو بعضهم، لأنهم انتهكوا حرمة مدرسة عمومية، كان يفترض أن يرموها بالورود بدل الحجارة، ويلجون إلى حرمها بمحبة ووقار واحترام وتقدير، بدل أن يقتحمونها بالعصي والهروات كما لو كانوا قطاع طرق؛ بين من نادى بضرورة تطبيق القانون في حق المتمردين والعابثين الصغار، ومن طالب بالتعامل معهم، بأساليب زجرية تربوية مراعاة لعمرهم وهشاشة وضعهم الاجتماعي، وحرصا على مستقبلهم الدراسي، وبين من رأى فيهم "الجاني" ومن رأى فيهم "الضحية"، فما حصل من مأساة مدرسية، يفرض دق ناقوس الخطر، لأن التجرؤ على المدرسة والعبث بمرافقها وتجهيزاتها ووثائقها بجرأة وبدون خجل أو حياء، معناه أن العبث المدرسي بات عنوانا لمنظومة تربوية لازالت تنتظر الرياح المرسلة للإصلاح، وإذا كان من "فاعل حقيقي"، فهو "المناهج المتجاوزة" و"البرامج الغارقة في الكم والمكرسة للرتابة"، و"المدرسة العمومية" التي باتت فضاءات بدون قلب ولا حياة، و"التشريع التربوي" الذي فشل في صناعة تلاميذ مسؤولين وملتزمين ومنضبطين، و"مؤسسات التنشئة الاجتماعية" وعلى رأسها "الأسر" التي تكتفي بلعب دور الكومبارس، و"المجتمع" الذي بات مطبعا أكثر من أي وقت مضى، مع ثقافة العبث والسخافة والتفاهة... وإذا ما تركنا الزجر والعقاب جانبا، فإذا كان التخريب الذي طال المرافق والتجهيزات، يمكن أن يخضع إلى الترميم والإصلاح والتجديد، فإن الأرشيف المدرسي الذي امتدت إليه أيادي العبث والاندفاع والإتلاف ، لايمكن البتة تعويضه، لذلك، فما تعرض له هذا الأرشيف من عبث، يعد اعتداء صريحا على تاريخ المؤسسة وذاكرتها الجمعية، وفي هذا الإطار، فمن اقتحموا المدرسة كاللصوص أو قطاع الطرق، وعاثوا داخلها تكسيرا وتخريبا وتعييبا، لن ننتظر منهم احترام الأرشيف المدرسي ولا توقيره، لأن العبث لا عقل له ولا روح ولا ضمير، لكن بالمقابل، فما أصاب الأرشيف من مكروه واعتداء، يفرض ليس فقط، استعجال فتح تحقيق إداري فيما جرى، من جانب المصالح المعنية بالمديرية الإقليمية المعنية، لرصد حجم الأضرار القائمة وتشخيص طبيعة الوثائق الإدارية التي تعرضت إلى الإتلاف، بل وفتح ملف الأرشيف المدرسي المحفوظ بمختلف مؤسسات التربية والتكوين، من حيث سلامته الصحية، ومدى خضوعه إلى مقتضيات القانون المنظم للأرشيف ومرسومه التطبيقي، ومدى حمايته من أية مخاطر محتملة كالحرائق والفيضانات والزلازل والنهب والسرقات وغيرها، ومدى "تثمينه" باعتباره مرآة عاكسة للذاكرة الجمعية المدرسية... ما حدث في سيدي سليمان من جرائم ماسة بالأرشيف، وإن شكل أفعالا معزولة في المكان والزمان، فهو رسالة مفتوحة، تدعو صانعي القرار السياسي والتربوي ليس فقط إلى تأمل ما جرى، بل واستنباط الدروس والخلاصات الممكنة، من أجل تنزيل إصلاح حقيقي شامل ومانع، يعيد للمدرسة العمومية رونقها وبهاءها، لأن "الجودة" التي يتم التسويق لها في أكثر من مستوى وسياق، لها شروط ومتطلبات، تمر أولا وأخيرا، عبر "متعلم/ة" مسؤول وجدي ومنضبط ومواظب وملتزم، و"مدرسة" جذابة، ببنيات استقبالها ومناهجها وبرامجها وطرائقها ووسائلها، و"تشريع مدرسي" يقطع مع ثقافة العبث والتمرد وانعدام المسؤولية، و"أسر" تتحمل مسؤولياتها كاملة في التربية والتنشئة، و"فصول دراسية" تقطع مع جائحة الاكتظاظ، و"معلمين" ينطبق عليهم قول الشاعر "كاد المعلم أن يكون رسولا..."، حينها، يمكن بناء ثقافة تحترم المدرسة وتقدر أرشيفها...غير ذلك، يبقى "العبث" ويبقى" التمرد" عنوانا بارزا في مدرسة عمومية لازالت عجلاتها معزولة عن سكة الإصلاح أو ما يسمى إصلاحا...