إن ما حدث داخل الجسم التربوي في الأيام الأخيرة يحمل في طياته صراع بين حقان يقتربان من التساوي على الأقل دستوريا، فالمتعلم له الحق في الاستفادة من تعليم مجاني ذي جودة بقوة دستور 2011، وهو نفس الدستور الذي منح للأستاذ حق الإضراب والتظاهر، إذن المسؤولية صارت مركبة بالنسبة للجهة الوصية عن القطاع، لأنها أمام حقان دستوريان يستحيل التمتع بهما في نفس الآن على قدم المساواة. ولعل هذا هو الإطار الذي دفع الحكومة المغربية في شخص وزيرها في التعليم إلى إصدار مجموعة من التوقيفات في حق حوالي 500 أساتذة وأستاذ. إن النقاش القانوني حول مشروعية القرار من عدمه، ولماذا اعتمدت الوزارة في مجمل التوقيفات على الفصل 73 من الظهير الشريف 2.58.008 بدل الفصل 75 منه، نقاش نتركه للمرافعة القانونية، والقضاء هو الفيصل فيها. غير القضية تبدوا وكأنها معادلة مجهولة الحل، والحال أنها قضية بسيطة عندما نتذكر أن تنظيم القطاع والمسؤول عنه مهمته الأساسية هي السهر على ضمان الحقان، وهي بسيط كذلك عندما يكون التدبير الحكومي معقلنا وله من الشجاعة السياسية للتدخل ومواجهة المشاكل التي يفرزها التفاعل من داخل القطاع بالسرعة اللازمة وبدون حسابات شخصية ولا نيات سيئة. إن أزمة التعليم في المغرب التي ظهر جزء منها مؤخرا، ليست أزمة معدومة الحل رغم تضارب وتنازع الحقان، فهي أزمة طبيعية، ويرتقب أن لا تكون الأخيرة إذا ما استمر التدبير بنفس المنطق. لذلك فالرهان الحقيقي اليوم لتجاوز الأزمة الآنية والمحتملة مستقبلا بشكل جدري وضمان حق التلاميذ والأستاذ يقتضي: * توفر إرادة سياسية حقيقة للنهوض بالقطاع، من خلال الاهتمام بالموارد البشرية، وعلى رأسها توفير وضع مادي واعتباري مريح يمكنها من الاستمرار في مهمتها دون التفكير في غير المردودية والجودة والمتعلم ...، بالجملة جعلها تشعر بذاتها من داخل مهنتها. وبالموازاة مع ذلك تفعيل الحكامة في التتبع والمراقبة. * جعل التدبير الحكومي للقطاع بيد مسؤول سياسي، لأن قطاع التعليم قطاع مجتمعي، وبالتالي يجب أن يخضر للمساءة المجتمعية عبر الآليات الديموقراطية المتعارف عليها. فالتدبير التكنوقراطي للقطاع يخضعه للحسابات الرقمية لا الاجتماعية وهو ما ينعكس سلبا على القطاع. * التمكين المجتمعي للتعليم، من خلال رفع منسوب حضوره في الإعلام العمومي، والعمل على محاربة الصورة النمطية التي اقترنت به وبأهله، مما يجعله مشروعا مجتمعيا تحرض الأسر أبناءها عليه، على اعتبار أن تحقيق الجاذبية للقطاع لن يتحقق بانتقاء المتعلمين ذوي المعدلات العالية ولا بتحديد سن الولوج للقطاع وإنما برفع منسوب الثقة في مدبري القطاع وممارسيه. * جعل مهنة التعليم مدخلا للتسلق المادي والاعتباري المشروع داخل المجتمع، على اعتبار أن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها داخل المجتمع، وهي تلك الرغبة في مورد مادي محترم يستطيع من خلاله الفرد تحقيق متطلبات الحياة التي صارت كثيرة وضاغطة. فمواطن اليوم لم يعد منشغلا بمتطلباته البيولوجية وفقط بل برغبات تشكل بالنسبة له مدخلا للعيش الكريم ومقوما من مقومات إنسانيته. * النأي عن الحلول العقابية والزجرية في التعامل مع ما يفرزه القطاع من مشاكل، فالعالم اليوم وفي كل القطاعات يفكر في البدائل العقابية، لتجاوز تلك التقليدية التي تذهب حد الإجهاز على كرامة المواطن. فطلب الحق والتضحية من أجله ممارسة ديموقراطية، وبقدر ماهي طبيعية فهي تحرج عقل المدبر السياسي وتختبر قدرته على إبداع الحلول، أما العقاب المهين كالتوقيف عن العمل وتوقيف الأجرة فهو سلوك ينبغي أن يدخل حيز الإجراءات التأديبية البائدة. * توفير كل السبل التي من شأنها أن تدفع كل الفاعلين في القطاع، وعلى رأسهم الأستاذ، للتكوين المستمر ومسايرة المستجدات العالمية في مجال البيداغوجيا والديداكتيك والمعرفة التخصصية، وتجهيز فضائه بإمكانات تفعيل كل مكتسباته. خلاصة القول، إن المنطق العقابي مهما كان نوعه وشكله ليس حلا ناجعا لتجاوز الأزمات التي تطرأ داخل قطاع التعليم، بل تعتبر الإرادة السياسية الحقيقية، والتدبير المعقلن للقطاع، والتجديد في آلية التتبع والمراقبة، والتمكين المجتمعي، والظروف الجذابة، هي السبيل الوحيد لتجاوزها بل لقتل منبعها. وبذلك يمكن ضمان حق كل من التلميذ في تعلم ذي جودة وحق الأستاذ في الشغل بكرامة دون اللجوء أصلا لحق الإضراب، وفوق كل ذلك ضمان استمرار المرفق العمومي بسلام.