تفاعلت رئاسة النيابة العامة مع الجدل الذي أثاره بلاغ المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، حول تجاوز عدد السجناء بالمغرب عتبة المائة ألف، في رقم قياسي بالمملكة نتيجة تزايد وتيرة الاعتقال، وتحذير إدارة التامك من انفلاتات أمنية بسبب هذا الاكتظاظ الشديد. وقالت النيابة العامة في بلاغ لها، اليوم الأربعاء، توصلت جريدة "العمق" بنسخة منه، إنها تشاطر المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج قلقها بشأن وضعية المؤسسات السجنية وفق ما جاء في بلاغها، لما لذلك من انعكاس سلبي على ظروف إقامة ساكنتها وعلى حسن تدبيرها. وفي الوقت الذي أشادت فيه رئاسة النيابة العامة بجهود المندوبية في تجويد ظروف إيواء الساكنة السجنية وحسن تدبير السجون، قدمت معطيات مثيرة عن الاعتقال بالمغرب وأسبابه ارتفاع وتيرته خلال السنوات الأخيرة، مشيرة إلى أن الاكتظاظ يحتاج المقاربات متعددة تروم أنسنة المؤسسات السجنية. وكانت مندوبية السجون قد حذرت من العدد "المهول" للسجناء بالمغرب، موضحة أنه بلغ 100 ألف و4 سجناء، بينما الطاقة الاستيعابية للمؤسسات السجنية حاليا لا تتجاوز 64600 سرير، مطالبة من السلطات القضائية والإدارية، الإسراع بإيجاد الحلول الكفيلة لمعالجة مشكل الاكتظاظ بالمؤسسات السجنية. وأضافت المندوبية في بلاغها، أن هذا الوضع الإشكالي المقلق من اختلالات أو حتى انفلاتات أمنية، علاوة عن المشاكل التي من المفروض أن تنتج عنه في ما يتعلق بظروف الإيواء والتغذية والتطبيب والاستفادة من برامج التأهيل لإعادة الإدماج. تطور نوعي للجريمة وفي تفاعلها مع الموضوع، قدمت رئاسة النيابة العامة، في إطار الحق في الحصول على المعلومة المكرس بمقتضى الدستور والقانون، بعض التوضيحات إلى الرأي العام، حول العوامل والإكراهات التي تتحكم في عدد نزلاء المؤسسات السجنية بالمملكة. وأفاد البلاغ بأن هذه العوامل والإكراهات يمكن إجمالها في التطور النوعي الذي عرفته مظاهر الجريمة في السنوات الأخيرة، سواء من حيث خطورة الأفعال المرتكبة أو الوسائل المستعملة فيها أو طبيعة الأشخاص الذين يقترفونها، لا سيما الذين يوجدون في حالات العود. إقرأ أيضا: رقم قياسي.. عدد السجناء بالمغرب يتجاوز 100 ألف والتامك يحذر من انفلاتات أمنية واعتبرت أن هذا التطور النوعي في مظاهر الجريمة انعكس على طمأنينة وسكينة المواطن والمجتمع، وهو ما فرض على كل الجهات الساهرة على إنفاذ القانون التصدي لكافة هذه المظاهر بهدف الحفاظ على أمن وسلامة الأشخاص وحماية ممتلكاتهم. وفي هذا السياق، يضيف البلاغ، بذلت المصالح الأمنية والشرطة القضائية بكل أصنافها ولازالت، جهودا مضنية لمواجهة كل الخارجين عن القانون، وضبطهم وإحالتهم على النيابات العامة المختصة حيث بلغ عددهم خلال النصف الأول من السنة الجارية 2023، حوالي 309 آلاف و259 شخصا. ووفق المصدر ذاته، فإن أغلب المحالين على النيابات العامة ضمن ملفات الاتجار في المخدرات، وشغب الملاعب المرتبط بالتظاهرات الرياضية، وجرائم الأموال والجرائم المالية التي تندرج في إطار مواجهة الفساد المالي، والإعتداء على الأشخاص سواء في إطار عصابات إجرامية أو السرقات الموصوفة أو غيرها من الجرائم الخطيرة. وأسفرت مجهودات مصالح الشرطة القضائية بكل أصنافها، في إطار إسهامها في عدم الإفلات من العقاب وتطويق الفارين من العدالة، عن توقيف حوالي 162 ألف و545 شخصا كانوا موضوع برقيات بحث على الصعيد الوطني، خلال النصف الأول من هذه السنة 2023، تمت إحالتهم على النيابات العامة المختصة من أجل اتخاذ الإجراء القانوني المناسب في حقهم. وأشار البلاغ إلى أن النيابات العامة حرصت أيضا على تنفيذ الأحكام الباتة القاضية بعقوبات سالبة للحرية الصادرة في مواجهة المحكومين في حالة سراح، حيث أنه تفاعلا مع ذلكأ بذلت مصالح الشرطة القضائية مجهودات متميزة في سبيل ضبط هؤلاء المحكوم عليهم وإيداعهم بالمؤسسات السجنية المعنية. كما تم كذلك إيداع مجموعة من الأشخاص الصادرة في مواجهتهم أوامر بالإكراه البدني بعدما تخلفوا عن أداء الغرامات المالية، أو الديون العمومية أو الخصوصية المتخلدة في ذمتهم وفق ما يفرضه القانون، حيث اعتبرت رئاسة النيابة العامة أن كل هذه العوامل ساهمت في ارتفاع عدد ساكنة المؤسسات السجنية. نسبة اعتقال "معقولة" وشددت النيابة العامة على أن توفير الأمن والطمأنينة لكافة أفراد المجتمع وضمان حقوقهم وسلامتهم الجسدية، شكل أحد أولويات السياسة الجنائية. وأوضحت أنها عملت على حث النيابات العامة على التفاعل بالمسؤولية اللازمة مع الأشخاص المقدمين أمامها من أجل ارتكابهم للأفعال ذات الخطورة، في إطار الملاءمة والتوازن ما بين ضمان حماية سلامة المواطنين وممتلكاتهم من جهة، والحفاظ على حقوق وحريات المشتبه فيهم من جهة أخرى، مع مراعاة وضعية الطاقة الاستيعابية للمؤسسات السجنية. إقرأ أيضا: نادي القضاة يتهم مندوبية التامك بمخالفة الدستور ويعدد أسباب الاعتقال الاحتياطي وأضافت أنه انسجاما مع هذا التوجه، ووعيا من النيابات العامة بضرورة عقلنة تدبير الاعتقال، فقد دأبت على عدم اللجوء إلى إعماله إلا عند الضرورة، وهو ما تعكسه نسبة الإعتقال التي لم تتجاوز 24% من بين المقدمين أمامها والبالغ عددهم 309259، خلال النصف الأول من هذه السنة، معتبرة أنها نسبة تبقى جد معقولة مقارنة مع النسب المرتفعة المسجلة لدى بعض الدول الأخرى. وتابع البلاغ أن عدد المعتقلين احتياطيا بالمؤسسات السجنية، عرفت انخفاضا إلى غاية شهر يوليوز من هذه السنة، حيث بلغ حوالي 39% مقابل 40% خلال نفس الفترة من السنة الماضية، عكس النسب المسجلة خلال السنوات الفارطة الممتدة من سنة 2010 التي تراوحت ما بين 38 % و47 %، إذ بلغت هذه النسبة على سبيل المثال 43% في 2010، و47% في 2011، مما يوحي بأن تدبير الإعتقال يتماشى مع تطور الجريمة صعودا أو نزولا منذ أمد بعيد. وإذا كانت هذه النسب المسجلة بشأن معدلات الاعتقال الاحتياطي لا ترقى إلى طموح رئاسة النيابة العامة رغم الجهود المبذولة في هذا الإطار، يضيف البلاغ، فإنها تبقى مقبولة مقارنة مع نسب الاعتقال الاحتياطي المسجلة في بعض دول الاتحاد الأوربي خلال 2022، كما هو الحال لهولندا 45،2%، وبلجيكا 38،4%، وفرنسا 28،5 %، وإيطاليا 31،5%، والدانمارك 41،3%، واللكسومبورغ 43،3%. وفي هذا الصدد، سجلت رئاسة النيابة العامة أن فئات مختلفة داخل المجتمع دأبت في مناسبات عدة، وعبر العديد من المنابر ووسائط التواصل الاجتماعي وغيرها، على المطالبة بتفعيل آلية الاعتقال لردع مرتكبي الجرائم حتى ولو كانت بسيطة بدل المتابعة في حالة سراح، انسجاما مع ما ترسخ من ثقافة لديها بأن تحقيق العدالة والزجر لا يكون إلا بالاعتقال وصدور أحكام بعقوبات سالبة للحرية. وشدد على أنه، مع ذلك، فإن قضاة النيابة العامة يلتزمون بالتطبيق السليم للقانون دون تأثر بما ذكر، حيث يجنحون في إطار اعتماد مبدأ الملاءمة إلى عقلنة تدبير وضعية الاعتقال، واعتمادها في مستواها الأدنى بالنسبة لأغلبية الأشخاص المقدمين أمامها، وهو نفس الاتجاه الذي يعتمده قضاة التحقيق في إطار سلطتهم التقديرية واستقلاليتهم. تصنيف السجناء وكشف المصدر ذاته، أنه تبعا للتفاعل الإيجابي بين رئاسة النيابة العامة والمصالح المركزية للشرطة القضائية بكل أصنافها الهادف إلى الرفع من النجاعة القضائية من خلال ترشيد إنجاز الأبحاث الجنائية داخل أجل معقول، فقد أصبحت الأبحاث تنجز في أغلبها خلال ثلاثة أشهر. كما تتم، وفق البلاغ، إحالة العديد من المعنيين بها على النيابات العامة المختصة، حيث يتخذ تدبير الإعتقال الإحتياطي في حق القليل منهم متى توفرت موجبات لذلك، لا سيما خطورة الأفعال أو انعدام الضمانات، كما هول الحال على سبيل المثال في جرائم الشيكات بدون مؤونة، والنصب والتزوير، والإتجار بالبشر وغيرها. إقرأ أيضا: جدل اكتظاظ السجون.. مندوبية التامك: تحسين ظروف الاعتقال رهين بتقليل حدة الاكتظاظ وبخصوص تصنيف الساكنة السجنية، فقد توزعت خلال سنة 2022 على حوالي 30% من أجل الاتجار في المخدرات، و31% في إطار الجرائم المالية وجرائم الأموال، و30% من أجل جرائم الاعتداءات الخطيرة على الأشخاص، كالقتل أو تكوين عصابات إجرامية أو استعمال السلاح الأبيض وغيرها. وبحسب البلاغ، فإن القضايا الزجرية بالمحاكم تشكل حوالي 62% من مجموع القضايا الرائجة بها، فيما يبذل قضاة الحكم مجهودات جبارة من أجل تصفيتها داخل آجال معقولة رغم عدة إكراهات مرتبطة بالجانب القانوني والواقعي، ولا سيما مسألة التبليغ. وأشار إلى أن ذلك تعكسه نسبة 87% من القضايا الزجرية المحكومة خلال سنة 2022، حيث يتجاوز معدل عدد الأحكام التي أصدرها كل قاض ألفي (2000) حكم، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصاص في عدد القضاة بصفة عامة، علما أن هذا المعدل يتجاوز ما هو مسجل لدى بعض الدول. مقاربات متعددة ولفت البلاغ إلى أن رئاسة النيابة العامة "ما فتئت تعمل جاهدة على مواكبة موضوع الاعتقال، والتفاعل مع وضعية المؤسسات السجنية التي تعرف بعضها اكتظاظا في ساكنتها من خلال توجيه عمل النيابات العامة بمقتضى دوريات أو عقد اجتماعات مع مسؤوليها، وأيضا عبر تنظيم دورات تكوينية في هذا المجال". وأوضحت أنها "تأخذ بعين الاعتبار التلازم بين مواجهة استفحال الجريمة وحماية المواطن والمجتمع من آثارها كأولوية، انطلاقا من مبدأ التزامات الدولة في هذا الإتجاه، وتفاديا لنسف جهود المصالح الأمنية والشرطة القضائية في محاربة الجريمة من جهة، وتكريسا لدور القضاء في تفعيل مبدأ حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحريتهم وأمنهم القضائي طبقا لمقتضيات المادة 117 من الدستور من جهة أخرى". إقرأ أيضا: بعد تنبيهها للاكتظاظ في السجون.. "قضاة المغرب" ترفض تدخل مندوبية التامك في القضاء وشددت رئاسة النيابة العامة على أن المبالغة في اعتماد المرونة في الإبقاء على المتورطين في جرائم تتسم بنوع من الخطورة، في حالة سراح، سوف تكون له عواقب وخيمة على أمن المجتمع والأفراد على حد سواء. وتابع البلاغ أن "مقاربة معالجة الجريمة تختلف من دولة لأخرى حسب خصوصيتها والثقافة السائدة لدى مواطنيها، موضحا أن الأمر في المغرب يتطلب العمل المتواصل من أجل تغيير الثقافة السائدة حاليا لدى فئات من المواطنين الذين يرون أن العدالة الجنائية الناجعة تكمن في الاعتقال، وأن الردع الصائب هو العقوبات السالبة للحرية في جميع القضايا، وإلا فإن هذه العدالة تبقى منتقدة وغير مجدية، علما أن القضاء بصفة عامة لا يأبه بهذا الاتجاه، وإنما يحرص على التطبيق السليم والملائم للقانون". وأمام هذه الوضعية، يضيف البلاغ، فإن الأمر يقتضي معالجة موضوع اكتظاظ المؤسسات السجنية من خلال مقاربات متعددة تروم أنسنة المؤسسات السجنية، وتوفير الظروف الملائمة للعاملين بها لأداء مهامهم بيسر، مع استحضار استمرارية ضمان أمن وسلامة المجتمع. وفي هذا الإطار، أكدت رئاسة النيابة العامة على أهمية ما ورد ببلاغ المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، من حيث تشخيص وضعية المؤسسات السجنية والمطالبة بالإسراع بإيجاد الحلول الكفيلة لمعالجة إشكالية الإكتظاظ بالمؤسسات السجنية لتفادي الإنعكاسات المشار إليها بالبلاغ. وشددت على أنها ستواصل دورها التأطيري والتحسيسي لقضاة النيابة العامة لإتخاذ ما يلزم من تدابير وفق ما يفرضه القانون، من أجل بذل المزيد من الجهود ما أمكن بهدف ترشيد الاعتقال الإحتياطي، في أفق تحقق الأهداف المأمولة السالف ذكرها. وأعلنت عزمها الدعوة لعقد لقاء خلال شهر شتنبر المقبل يجمع المؤسسات والجهات المعنية لمناقشة الموضوع، وكل الآراء والمقترحات والإمكانيات المناسبة لتجاوز كل الصعوبات والإكراهات التي ترتبط بتدبير الاعتقال الاحتياطي ووضعية المؤسسات السجنية. وأوضحت أن ذلك يأتي في أفق تدخل المشرع في المنظور القريب لإيجاد الحلول التشريعية المنتظرة، سواء ما يتعلق بسن مقتضيات حديثة من شأنها تعزيز بدائل الاعتقال الاحتياطي، والتعجيل بإخراج المقتضيات المتعلقة ببدائل العقوبات السالبة للحرية، وأيضا قانون المسطرة الجنائية والقانون الجنائي بصفة عامة.