نبهنا الله عز وجل في كثير من الآيات القرآنية إلى علل التدين المغشوش التي أصابت الأمم السابقة، كي لا نسقط في مثل ما وقعت فيه تلك الأمم، وكي تستمر رسالة الإسلام طاهرة نقية، سليمة من كل العيوب، تتلقاها الأجيال الإنسانية بدون نقص أو تشوه في المعاني والمباني؛ يقول الله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه نسو حظا مما ذكروا به) المائدة الآية 13، ويقول أيضا في سورة التوبة الآية 9 (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، فصدوا عن سبيله انهم ساء ما كانوا يعملون). فالقرآن الكريم وثيقة تاريخية وصلت إلينا بالتواتر الذي يفيد علم اليقين، وما حبانا الله به إلا ليرسم لنا خارطة طريق موصلة لا محالة – للمتشبثين به والمتمسكين بنواجده – إلى بر الأمان، بينما نجد في غير ما موضع في النصوص الدينية للأديان السابقة عبارات شابها التحريف فاختلطت في كثير من المواقع بكلام البشر فكانت سببا في تفشي الشرور، واختلّت الموازن الإنسانية ، فصارت المصالح مفاسد، وتحول الإنسان من صالح إلى طالح، وما يطفو على سطح هذا العالم من مظاهر الفساد لخير دليل على ذلك. وحتى لا نسقط في الفخ يتعين علينا أن نستيقظ، ونتجنب التدين المغشوش، لأن الأمر مفزع ومقلق، يقول الله تعالى في محكم تنزيله مخاطبا اليهود (يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض)، فالله سبحانه ينبهنا إلى علة الأخذ بالتشهي في الدين، فكل ما يناسب طبيعة النفس في أهوئها أخذوا به، وكل ما يردعها إلى طريق الحق تركوه، كما هو الشأن اليوم حيث طلعت علينا مثل هذه النماذج بدعوى التجديد في الدين، وأن التراث لم يعد صالحا لهذا الزمن، فمنهم من يقول بأن الحجاب غير واجب على المرأة، ومنهم من يقول بوجوب الصيام على الحائض، وبعضهم يقول لا دليل على حرمة الخمر... إلى غير ذلك من الأمثلة. فما أود التنبيه إليه هو أن تسلل علل التدين السابقة إلى المسلمين أصبحت ظاهرة بشكل مباشر، وجهلنا التحذير الإلهي في كثير من آية من تحريف الكلام، والأكل بكتاب الله تعالى، وأكل أموال الناس بالباطل، ولا شك أن لكل ظاهرة من ظواهر الشذوذ الفكري، والانحراف المنهجي أسبابها الداعية إليها، ووجذورها العميقة، ورصد هذه الظواهر واستقراؤها يكون وسيلة للتعرف عليها، واكتشاف مكامن الخلل فيها، وبالتالي تقديم الحلول قصد العلاج الفعّال لهذه الأمراض الخطيرة. فمنذ أن تقلص دور الثقافة الإسلامية في حياتنا اليومية، تقلص دور الدين في حياة الناس، وانتقل دوره من الضرورية إلى التكميلية، وأصبحت المواد الإسلامية الدراسية لطلاب العلم بالمدارس العمومية والخاصة حصص السؤم والملل، وصار الدين في إعلامنا مجرد فقرة عمومية لتنميق البرامج، فساد النفاق الاجتماعي في العلاقات بين الناس. فهذا المناخ الثقافي المنشود ساهم في انتاج ثقافة جديدة ليس لها من الدين إلا الاسم فقط، دين بدون جوهر ولا مقاصد تذكر، اقتصر الناس فيه على الشكليات والرسميات. إن انفصال الدعاة من فقهاء ووعاظ عن الواقع اليومي له تاريخ طويل وثيق الصِّلة بالاستبداد السياسي في التاريخ الإسلامي، فواقعنا في واد، وخطاب أهل الدعوة في واد، وساهموا بذلك في تربية جيل معزول عن الواقع، فكان الانتماء الحركي عنوانا للطهرانية ولغيرهم الفسوق والفجور. فعندما نتأمل في السيرة النبوية نجد محمدا صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين، تربى على يده جيل فريد وصل صداه إلى كل بقاع العالم، شكلوا مدارس إسلامية متفردة يكمل بعضها البعض، فخطابهم تجاوز جدار المساجد، بينما نجد كلام بعض دعاة اليوم يبقى حبيس أركان المساجد وقاعات العروض، أو نجد بعضهم يتكلم عن الدين بالتشهي، ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجامع المانع للعلل والتحديات التي لا تخرج في نهاية الأمر عن هذه الأمور الشكلية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، فالغلاة هم من يفرغون الدين من وسطيته وعدله واعتداله، إلى التطرّف والتشدد، ويحملون عليه ما ليس منه، ولكل عصر غلاته وخوارجه، ولعل من يقول بحق الصيام على الحائض من الغلاة الجدد، وغير هذا المثال كثير .... وأهل الباطل يحاولون تطويع النصوص الشرعية حسب تصوراتهم الذهنية باسم الدين، يحلون الحرام ويحرمون الحلال، وأما تأويل الجاهلين فيظهرون بجرأتهم في التوقيع عن رب العالمين بإصدار الأحكام بدون امتلاك الأدوات المطلوبة والمعلومة في الاجتهاد بالضرورة. ولست هنا للكلام بالتفصيل في علل التدين، ونفي الخيرية بشكل عام، وإنما هي خواطر أشاركها معكم معشر القرّاء الأفاضل قصد إصلاح العيب ونقاش الأمراض للبحث عن الحلول الناجعة. والله الموفق للصواب وهو قصد السبيل.