أصبحت الرقمنة مكونا أساسيا من حياتنا اليومية بفعل تموسط المنصات الرقمية لجل تفاصيل حياة الانسان، فتوسعت بذلك سلطة هذه التقانة الحديثة وأحدثت تحولات سريعة وكبيرة على حياة الأفراد والمجتمعات حتي أصبح العالم يواجه تحديات قيمية وأخلاقية وقانونية وسياسية واقتصادية. ولم يعد أحد يستغني عن الشابكة بكونها الممر الرئيسي إن لم يكن الوحيد لقراءة الأخبار وإرسال الرسائل إلى الأصدقاء والزملاء والبحث عن مختلف المعلومات...وهكذا اخترقت الرقميات جميع أنشطتنا، والأكثر حميمية إلى الأكثر جماعية، حتى تحولت إلى نموذج وحقيقة اجتماعية كاملة. وساعدت التقنيات الرقمية الأسرة والأطفال والشباب على التعلّم وتطوير مهاراتهم في العديد من المجالات، حيث يستخدمون بشكل اعتيادي التطبيقات والمواقع الإلكترونية والخدمات عبر الإنترنت من أجل إكمال واجباتهم المدرسية والبحث عن المعلومات والتواصل مع الأصدقاء، وتطوير المهارات، والاستمتاع.... لكن كل ذلك لم يكن دون أضرار، خاصة مع المكانة التي أضحت تحتلها الشاشات في حياتنا اليومية حيث أصبح أولياء الأمور يجدون صعوبة في التعامل مع أبناءهم وبناتهم وازداد قلقهم بتراجع الوقت المخصص للجلسات العائلية. لقد أصبح الشباب يخصصون جل وقتهم الحر للشاشة فتزايدت عدد الساعات التي يقضونها أمام مختلف الوسائط وما تسبب في أضرار وأمراض لم تعد خافية على أحد، حيث أثبتت العديد من الأبحاث الميدانية أن التعرض المفرط للشاشات يؤدي إلى إبطاء التطور الفكري والعاطفي للأطفال ويؤثر بشكل سلبي على دراسة الشباب نتيجة الارتفاع المتزايد للوقت المخصص للشاشات temps-écrans خاصة مع غياب أي تأطير أو توجيه فتحولت بذلك الأجهزة أو الشاشات إلى "أسياد" أو "معلمين" سيئين. وهو ما دفع الفيلسوف الفرنسي برنارد ستيغلر Bernard Stiegler بوصف ما يتعرض له الشباب نتيجة تعرضهم المفرط للشاشة بأنها مجزرة للأبرياء متهما أصحاب القرار السياسي بالتقصير والتقاعس عن عدم القيام بأي إجراء لمواجهة جشع شركات التكنلوجيا الكبرى وداعيا إلى ضرورة حماية الشباب. فلقد أضحت المجتمعات المعاصرة مهددة نتيجة خضوع "حياة الذهن" ، لضرورات اقتصاد السوق وضرورات العائد على الاستثمار للشركات التي تروج لتقنيات ما يسمى الصناعات الثقافية وصناعات البرامج ووسائل الإعلام والاتصالات السلكية واللاسلكية، وأخيرا تكنولوجيات المعرفة أو التقنيات المعرفية. فتحولت إلى "تقنيات للتحكم" نتيجة استسلامها لمعايير السوق فقط، واحتكرت السلطات النفسية والاجتماعية(pschychopouvoir وneuropouvoir) تقانة الاتصال الحديثة وسيطرة عليها, كما تحولت العلاقة بالسياسة إلى سوق يقتصر على تسويق البؤس السياسي وطورت الآلة شعبوية صناعية أنتجت سياسة غرائزية pulsionnelle ومسرحا لتلاعب شركات التكنلوجية العملاقة. وكان لهذه السيطرة على الرغبات واستسلام تقنيات الذهن Technology of spirit (التي تشكلت نتيجة تقارب السمعي البصري والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والالكترونيات وتكنولوجيا النانو) إلى متطلبات الربح السريع، عواقب مأسوية على المستويات الاجتماعية والفردية والتعليمية والمعرفية. إذ شكل تهديدًا كبيرًا للحضارة الصناعية أدت إلى أزمات اقتصادية عالمية وهو ما دفع بالفيلسوف "برنارد ستيغلر" بتوجيهه انتقادا لاذعا للسياسيين والخبراء لعدم اهتمامهم بالتأثيرات السلبية للرأسمالية على المجتمعات المعاصرة معددا ثلاثة مخاطر تهدد الإنسانية وهي: – أزمة الانتباه crise de l'attention بسبب التعرض المفرط للإعلام والشاشات. – فقدان التفرد la perte d'individuation والتي تحيل إلى مجموع الظواهر الناتجة عن تزامن الوعي synchronisation des consciences تحت تأثير صناعات البرامج أو الصناعات الثقافية وتوحيد السلوكات standardisation des comportements والاستيلاء على الطاقة الليبدية (الشهوانية) l'énergie libidinale عن طريق التسويق. – تراجع قيمة الذهن baisse de la valeur esprit تحت تأثير وسائل الاتصال الجماهيري وإفراط الاستهلاك، حيث يعتمد الاستيلاء على رغبات المستهلك والسيطرة على الأفراد على "تقنيات الذهن". لفد ساهمت الرقمنة في تيسير حياتنا اليومية ومكنت من ربط العالم وتقديم خدمات مجانية مهمة للملايير من الناس، لكن هذه المجانية كان لها ثمن، حيث استغلت المنصات الرقمية بيانات المستخدمين وتلاعبت بالأفراد وبالمجتمعات بل حتى الدول وأصبح لها تأثيرا نفسيا كبيرا على أكثر من ملياري شخص خاصة أن الفرد يقضي جل ساعات يومه في الفضاء الافتراضي الذي أنشأته هذه الشركات. ولم يعد هناك شك في وجود تأثير للشاشة التي أصبحت تجذب انتباه لأكثر من 30 ساعة في الأسبوع، حيث أثبتت العديد من الدراسات أن الأجهزة الإلكترونية لديها تأثيرات سلبية، خاصة أن التطبيقات الرقمية صممت بطريقة تجعل المستخدمين، وبالخصوص الشباب، مدمنين على استعمالها حيث تعمل على تفعيل الدوبامين وهي مادة كيميائية في الدماغ تقوم بتعزيز السلوك القهري عند التواصل مع الآخرين على الشبكات الاجتماعية الرقمية أو تطبيقات أخرى، فيتحول إلى إدمان سلوكي وإفراط في استخدام الهاتف الذكي الذي من علامته: البحث عن الهاتف عندما يشعر الفرد بالملل، والشعور بالقلق عندما يتعذر عليه الوصول إلى الهاتف أو عدم التمكن من مقاومة إغراء الفيسبوك أو انتسغرام...والتي "تنتعش" بفضل تفاعلات المستخدمين. وإلى جانب هذا الإدمان الرقمي، ظهر نوع جديد من الأمراض هو الخوف من فوات شيء Fear of missing out (FoMO) وهي حالة تدفع الأشخاص إلى الرغبة في أن يكونوا في اتصال دائم خوفاً من فوات حدثٍ ما لا يُشاركون فيه، ;وهي حالة من القلق والتشتت تُصيب مُعظم من لديه حسابات في الشبكات الاجتماعية الرقمية، حيث أن الاستخدام الكثيف للأجهزة الإلكترونية له علاقة بخشية المستخدمين من عدم مواكبة ما يجري مع مجموعة أقرانهم والآخرين، فإن البقاء على اتصال على الدوام مع أصدقائهم يضمن لهم معرفة ومتابعة الموضوعات والقضايا التي يناقشونها. بالإضافة إلى المخاوف من الإدمان المحتمل على هذه للتقنيات، فإن الرقمنة تعيد تشكيل دماغ المستخدم من الناحية الفيزيولوجية العصبية وتؤثر على تطوره. فإذا أخذنا مثلا نظام تحديد المواقع GPS الذي يساعدنا في الوصول إلى أي مكان في العالم سواء أثناء قيادة السيارات أو ركوب الدراجات أو المشي لكنه في نفس الوقت يحرمنا من القدرة على التوجيه الذاتي وبذلك تتراجع ذاكرتننا المكانية. فما الذي يمكننا فعله لحماية أطفالنا والشباب من هذه المخاطر التي تهدد صحتهم العقلية والنفسية، وكيف يمكن أن يتسلح أولياء الأمور بالمعرفة والمهارات اللازمة لمواجهة هذه التحديات؟