يتخبط قطاع التعليم في مشاكل جمة عالقة منذ سنوات، ساهمت في بروز تنسيقيات فئوية معنية بكل قضية على حدة، يراها البعض أنها نتاج طبيعي ل"عدم" قدرة النقابات على احتواء مطالبها، فيما يرى آخرون أن هذه التنسيقيات ظاهرة "غير طبيعية وغير قانونية". ولعل أبرز التنسيقيات المعروفة في الحقل التعليمي اليوم، هي تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، ليكون بذلك ملف "التعاقد"، من أبرز الملفات المثيرة للجدل في هذا الإطار، والذي تعرض للرفض منذ إثارته وأثناء تنزيله، وما تزال أصوات رافضة له إلى يومنا هذا. وقد خلّف هذا الاحتجاج نقاشا حادا بسبب ضبابية أفقه وعدم وضوح أو توقع نهايته، بعد تعذر إيجاد حل وسط يرضي كافة الأطراف، حماية للزمن التعليمي للتلاميذ في المقام الأول، وذلك بسبب أجواء الشك الحاصلة بين الوزارة والمتعاقدين، ليبقى السؤال؛ من يتحمل مسؤولية هذه الأوضاع؟ وعن أسباب تخبط قطاع التعليم في العديد من الملفات المشابهة؟ وما هي عوامل ظهور هذه التنسيقيات؟ للإجابة على هذه الأسئلة، تستضيف جريدة "العمق"، ضمن فقرة "خمسة أسئلة"، رئيس المرصد الوطني لمنظومة التربية والتكوين والكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي سابقا، محمد الدرويش. بداية، ألم يحن الوقت لإنهاء معركة التعاقد وإيجاد حلول تعيد للمدرسة العمومية عافيتها على الأقل في ما يتعلق بالزمن المدرسي؟ مع كل أسف ملف "التعاقد" ولد مشروعه وهو يقترن بأسباب تعقيداته وأزماته، فالتسرع في طرحه دون الإعداد له ولظروف نجاحه كان السبب الرئيس في ما نحن عليه اليوم من توتر واضطراب وتعثر الزمن الدراسي، فما ينتهي مشكل حتى تلوح في الأفق مشاكل، ومما يجعل الأمور تتعقد أكثر أن الثقة انعدمت بين الأطراف المعنية، فالأساتذة لا يثقون في الوزارة، والوزارة لا تثق في الأستاذة. ومع هذا الوضع يتعقد دور الوسائط الاجتماعية من نقابات تعليمية، وجمعيات المجتمع المدني، ويضيع أبناءنا وبناتنا، ثم إنه لا بد من التأكيد هنا من موقعي المدني أننا نرفض جعل التلاميذ والطلاب رهينة دفاع عن ملفات مطلبية، مهما كانت الأسباب. صحيح أن المنظومة تعيش أوضاعا متأزمة وبطرق غير معتادة، رغم المجهودات التي قامت بها الحكومة ماليا إذ وفرت ميزانيات غير مسبوقة، وأقدمت مرتين على توقيع اتفاقين تحت إشراف رئيس الحكومة في ظرف سنة وبحضور الوزراء المعنيين والنقابات التعليمية الأكثر تمثيلية، وبعدها مباشرة بدأت الاحتجاجات والإضرابات والتوترات، وهي مفارقة غريبة وغير مسبوقة، فما الذي يحدث؟ ينضاف إلى هذا، مفارقة أخرى غريبة، كون الحكومة والقطاع الوصي يقول إن البرنامج الحكومي يدافع عن التعليم العمومي الجيد والأساتذة المحتجون يقولون إنهم يدافعون عن التعليم العمومي الجيد، فمن منهم يقول الحقيقة؟ لقد حان الوقت للضغط بكل الوسائل المشروعة على الأطراف كلها من أجل إيجاد حلول مناسبة متوافق عليها لكل ما هو مطروح منها. وعلى الوزارة الوصية أن تبادر لإيجاد حلول، إما هو مطروح، ولتبدأ من الأسهل إلى الأصعب، وليس من مصلحة المنظومة أن تعتبر الوزارة بأن الأمر يتعلق ب"باكيدج"، أي حزمة واحدة. ما هي أسباب انعدام الثقة وسيادة لغة الشك بين الأطراف وكيف بدأت هذه القصة؟ إن ملف التعاقد عرف انحرافات تعمقت منذ انطلاقه؛ فالبدء بعقد خطأ، وملحق العقد خطأ مزدوج، والحديث عن أطر الأكاديميات دون التأسيس لقواعد انطلاقه خطأ أضاف تعقيدات أخرى للملف، والسلطة المطلقة لبعض مدراء المؤسسات والمديريات والأكاديميات بلغت حد "كتابة أسماء بعض الأساتذة بقلم الرصاص" واتخاذ إجراءات وقرارات دون سند قانوني، واعتبار بعضهم بأن هذا الأستاذ أو تلك الاستاذة تشتغل في "ضيعة له"، والتفريق بين الأساتذة الموظفين قبل 2016 والذين وظفوا خلالها وبعدها في محاضر الالتحاق، والحركة الانتقالية، وقبلها نظام المعاشات وعدم استفادة الأفواج الثلاثة الأولى من خدمات مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين، ناهيك عن معاملات المؤسسات البنكية لهؤلاء الشباب خلال السنوات الثلاث الأولى وغيرها. كل ما سلف ذكره، كان سببا في جعل الثقة تنعدم، ولغة الشك هي السائدة بين الأطراف، والإحساس باللاستقرار واللاطمئنان والرهاب من المستقبل لشباب في مقتبل أعمارهم، كل ذلك ينعكس، طبعا، على علاقات هؤلاء بمتعليمهم وأسرهم ومسؤوليهم، وعليه لابد أن يتدخل العقلاء والحكماء من كل المستويات من أجل وضع حد لهذا الوضع الذي يضيع معه زمن التعلمات وتضيع معه المدرسة العمومية وبالطبع يؤثر ذلك سلبًا على كل المسارات من الأولي إلى العالي. في نظركم في المرصد الوطني لمنظومة التربية، من يتحمل المسؤولية في ملف التعاقد منذ البداية إلى الآن؟ دعني أسمي، بكل احترام وتقدير للجميع، حكومة عبد الإله بنكيران، وبالأخص رئيس الحكومة والوزير رشيد بلمختار، والوزير محمد بوسعيد، فهؤلاء من يتحملون المسؤولية الأولى في ما نعيشه اليوم من واقع أليم في المنظومة، لم يفلت منه حتى مستوى. ثم تتحمله حكومة سعد الدين العثماني التي بلغت قرارها إلى حد الترخيص لمن يبلغ الخامسة والخمسين من عمره ليجتاز المباراة بعد أن أنهكته تعقيدات الحياة اليومية وغادر الدراسة لسنوات وبقي له خمس سنوات على التقاعد، فأي نفسية لمثل هؤلاء يتعاملون بها مع متعلمين في سن الطفولة؟ كما أن حكومة العثماني نفسها، ساهم بعض وزرائها في زرع الشك، فبين من يقول إن التقاعد انتهى، وبين من يقول إنه لم ينته، تفاقمت الضبابية وخيم الشك على الجميع، خصوصا حين يصرح وزير المالية، محمد بنشعبون بأنه لا مانع له من تحويل أجور الأساتذة من الأكاديميات إلى الخزينة مركزيًا، تنضاف إليها تصريحات مجموعة من الأحزاب السياسية والنقابات والفاعلين المدنيين. كل ذلك جعل اليوم القناعة تحصل عند كل الأفواج بأنه يمكن مركزة المناصب المالية وإدماج الجميع 140 ألف أستاذ في الوظيفة العمومية. يلاحظ أن قطاع التعليم يتخبط في العديد من المشاكل، وفي كل مرة يظهر ملف وفئة جديدة تحتج ما أسباب ذلك؟ يجب الاعتراف بأن منظومة التربية والتكوين تعاني منذ سنوات من القرارات والقرارات المضادة، والمشروع والمشروع المضاد، أحيانًا بسبب توجهات الحكومة وأحيانًا بسبب توجهات دولية، وأحيانًا أخرى بسبب مزاجية الوزير، وبذلك يتم هدر الزمن وهدر الأموال وهدر الطاقات فتضيع الأجيال. ثم إنه حين نعلم أن عدد الوزراء الذين تعاقبوا على مسؤولية تدبير المنظومة منذ الاستقلال إلى اليوم وبتوزيعهم على السنوات، نجد أن النتيجة هي وزير لكل سنة وبعض الأشهر، وبهذا يضيع التراكم وتنعدم الاستمرارية، وتعبث المناهج والبرامج بمنطق المعلم والمتعلم،وهي أوضاع تصدق على التربية الوطنية والتعليم العالي. أضف إلى ذلك، أن مجموعة من القرارات لحل ملفات تم اتخاذها بدون دراسات وفهم عميق لانعكاساتها، وبذلك صار النظام الأساسي للتربية والتكوين يعرف بأنه نظام "البيسبيسات"، بمعنى أنك تجد المكرر والمكرر إثنان والمكرر ثلاثة وهكذا. وعليه تعقدت أوضاع الفئات وتقاطعت وتعددت، فصار حل ملف يفضي إلى خلق ملفات. ثم إن التسرع في إسكات هاته الفئة بإيجاد حل مناسب لها فقط ساهم في تعقيد الأمور وظهور مشاكل تعاني منها فئات أخرى وهكذا. ما هي الأسباب وراء ظهور التنسيقيات والنضالات الفئوية خصوصا في قطاع التعليم؟ هل هذا راجع لعدم قدرة النقابات على احتواء هذه الاحتجاجات أم بسبب عدم إيمانها بهذه المطالب، أم هناك أسباب أخرى؟ أولا، التنسيقيات تنظيمات غير قانونية ولا يوجد لها ذكر في التشريع الوطني، فقد انطلقت منذ سنوات بسبب عدم حل مشاكل ملفات تخص فئة من الفئات، وهي ظاهرة بدأت في البروز خلال سنوات التسعينات خصوصا في التعليم، واليوم تكاثرت وأصبحت ظاهرة مجتمعية غير طبيعية، تساهم مباشرة في إضعاف العمل النقابي والسياسي وتجعل المسؤول ينظر إلى النقابات والأحزاب بنظرة غير التي كان ينظر إليها قبل سنوات. وهذا لا يعني أن العمل النقابي والسياسي كله بخير وعلى خير، بالعكس، هناك بعض من المسؤولين النقابيين والحزبيين من أساء للنضال وأخلاقه، و بذلك تم البدء في زرع الشك، وابتدأ تعميمه على الجميع حتى أصبح يمس مجموعة من المؤسسات، و هذا أمر غير محمود في وطننا. وبذلك أعتقد أن الكل يتحمل المسؤولية في ما صارت عليه الأوضاع اليوم.