لا حديث هذه الأيام في المنتديات الفكرية والإعلامية والسياسية إلا عن الصراع الخفي/ الظاهر، بين المغرب وفرنسا، والذي اتخذ صورا متعددة وألوانا متنوعة لكنها تتلخص في سؤال محوري يشغل المخيال المجتمعي المغربي: هل آن أوان الرحيل؟ هل أزفت ساعة الفكاك من عقود الهيمنة والاستعباد؟ أم الأمر لا يعدو كونه مجرد محاولات إعادة التموقع الاستراتيجي التي توظف فيها النخب والصالونات؟ أسئلة كثيرة يطرحها المغاربة، لكنها مزعجة للنخبة الفرنكفونية وهي ترى مشروعها الذي اقتاتت منه، وعاشته، يتحطم أمام صخور الرفض المجتمعي والتغيرات السياسية. فبعد عقود من التبشير، والتغني بالحلم الفرنسي بقدرة لغة موليير على تغيير بوصلة المغاربة، وبعد مسار طويل من إجبار المغاربة على التبعية العلمية والقيمية للنموذج الفرنكفوني، أتت الحملات الأخيرة، التي أطلقها مجموعة من الشباب، لتثبت أن المجتمع المغربي، بكل أطيافه ونخبه، يرفض استدامة التبعية لباريس وسياساتها الاستعمارية القديمة والجديدة. صحيح أنه رفض قديم ومتجدد، تبدو إشاراته المتعددة مجرد استثناءات يحتفى بها، كما كان الأمر سابقا مع العديد من الرياضيين الذين رفضوا الحديث بغير اللغة العربية (عموتة، بونو......)، لكنه كان مضمرا، وغدا معلنا. فهذه النخبة التي وظفت كل حججها وترسانتها الإعلامية والاقتصادية، للقضاء على مسار طويل من مغربة المدرسة وتعريبها، في النقاش حول القانون الإطار للتربية والتكوين، توارت عن الأنظار ودخلت في سبات عميق، بعد أن أدركت حجم الرفض المجتمعي للمسار الذي أُقحِمْنا فيه عنوة، وفُرِض على المغاربة الارتماء في أحضان المستعمر القديم/ الجديد، الذي يقايض المغاربة على سيادتهم وأمنهم، كما يبدو في ملف التأشيرات والصحراء المغربية وشحنة الكتب الدراسية الموجهة للبعثة الفرنسية واللعب على وتر الصراع مع الجيران وغيرها. فأين الذين كانوا يتحدثون عن "ضرورة" الفرنسية للمغاربة لإنقاذ المدرسة الوطنية؟ بل أين الذين تفننوا في تمجيد لسان موليير باعتباره غنيمة حرب أو ركنا مؤسسا للذاكرة الوطنية حتى غدا ليوطي عندهم "فاتحا" باسم الحداثة ومؤسسا للدولة المغربية المعاصرة، ورُهن مستقبل المغاربة بفرنسا ودراريها، وتكاثرت الحشود أمام البعثات الفرنسية ومراكزهم الخاصة؟ بل أين "حملة الشموع" الذين يحملون المظلات في شوارع الرباط حين تتبلل أزقة الشانزيليزه؟ اختفوا من المشهد بعد أن عاينوا الرفض المجتمعي، وأحيانا الرسمي، لخطابهم المستهلك. فباستثناء أصوات بعض المسؤولين الحكوميين السابقين الذين انبعثوا من رماد الإهمال والتهميش لتذكيرنا ب"جرمهم" المعنون زورا بالتناوب اللغوي، غاب عن المشهد كل سدنة الفَرْنَسة وهم يتأملون، في مشهد غريب عنهم، رفض المغاربة، وبداية تحول استراتيجي غَيَّر المعادلات في المنطقة، مما يفرض على الدولة إعادة النظر في اختياراتها، ويغلق الباب على نفوذ باريس في المدى القريب أو البعيد. وما يحدث في إفريقيا جنوب الصحراء خير الأدلة. بل لم تواجه فرنسا، طيلة وجودها في المنطقة، موجة رفض مجمع عليه كما هو الأمر هذه الأيام. مما دفع ماكرون إلى توظيف خطاب المؤامرة في تعليل ذلك بدل البحث في الأسباب الحقيقية. صحيح أن النخب الحكومية مازالت تعيش الزمن الباريسي وتقاوم هذا المد الجارف حتى جعلت "ساعتنا" مضبوطة بزمن باريس وشركاتها، وكما فعل عبد اللطيف ميراوي، وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، حين منح للمديرية الجهوية للوكالة الجامعية الفرنكوفونية، التي كان يترأسها حتى وقت قريب، "تسهيلات وامتيازات" من أجل إنشائها وتشغيلها، وهو الذي لا يخفي هواه وانتماءه الباريسي. وحتى النقاش الجاري حاليا حول الإنجليزية تأخذه هذه الدوائر من باب التعويم وليس من باب التنفيذ والأجرأة. لذا ليس مفاجئا أن يلجأ السيد بنموسى، وزير التعليم، في خرجته الإعلامية، وهو القادم من سفارة المغرب بباريس إلى باب الرواح، والمسؤول عن صياغة النموذج التنموي الجديد الذي عرض على سفارة باريس قبل أن يعرف المغاربة فحواه، إلى تعويم النقاش الجاري هذه الأيام حول لغة التدريس وإمكانية الاستغناء عن لغة موليير. لذا متح عباراته من معجم الكلمات الفضفاضة ليؤثت عرضه حول لغة التدريس وشعارات الجودة والانفتاح، من مثل "مهمة" و"نتشاور" و"سنحدث"، التي لا تعني شيئا في ميزان الواقع، ولم يعط خطة تنفيذية لتغيير الوجهة اللغوية والانفتاح على العالم المتقدم، بدل حصر القبلة في تكوين جنود باريس في المعرفة والتقنية. ويكفي أن نذكرهما، ومن والاهما، بأن أكثر من ستمائة مهندس، الذين كُوِنوا وأُهِلوا من ميزانية الدولة، يغادرون البلد سنويا، لأن تكوينهم مرتبط بالمركز الباريسي. إن الحملة الشعبية التي بدأت تأخذ مسارا أكثر توهجا تثبت أن المسألة اللغوية باتت جزءا من عنصر المقاومة والبحث عن السيادة الوطنية. فلا سيادة وطنية بدون لغة وطنية. وإذا كانت الأوضاع الحالية مناسبة لجعل القرار السياسي في المغرب ينصاع لرغبة الشعب، فإن الأفيد هو الاقتناع بأن لغة موليير لم تعد لغة علم ومعرفة، وأن الرهان عليها رهان على اجترار التخلف. لكن بشكل أشمل، فإن العلاقة التي لم تخل من نزوع استعماري استعلائي جعلت الرفض الوجداني للوجود الفرنسي يتصاعد في جل أنحاء إفريقيا، من مالي إلى الغابون إلى تشاد حتى وصلت إلى نزعة معادية تنمو ككرة الثلج. فهل يكون البديل هو الارتماء في أحضان الإنجليزية؟ هل يمكن القول بأن لغة شكسبير هي مفتاح الخروج من أزماتنا المستدامة؟ وما الذي حققته الدول الأنجلوسكسونية حتى تغدو نموذجا يحتذى؟ إن استبدال لغة أجنبية بأخرى، خاصة في تعليم المعارف والعلوم، وفي التدريس، لن يحل الإشكال، لأنه مادامت اللغة الوطنية غائبة عن المدرسة فإن المسار الطبيعي هو تأزيم الواقع بالرغم من الشعارات البراقة التي ترفع هنا وهناك، والعناوين الكبيرة التي تستميل الجماهير. لكن إشكال اللغة الفرنسية أنها تحولت من لغة حضارة ومكون من مكونات المشترك الإنساني، لتتخذ مع النموذج السياسي الفرنكفوني وظيفة هيمنة وقمع للخصوصيات الثقافية الأخرى. فعبر تشجيع الهوامش الثقافية، والقيم البديلة، واللهجات المحلية، وتضخيم الاستثناءات الإقليمية....ظلت باريس تعيش على الدوام زمنها الاستعماري دون أن تستطيع الخروج من ربقته. فكانت المقاومة الثقافية والدفاع عن السيادة اللغوية إعلانا عن أفول الزمن الفرنسي.