بعد أيام ستنطلق فعاليات الاحتفال بأحد أكبر المناسبات العلمية السنوية في العالم، ويتعلق الأمر بالإعلان عن الفائزين بجوائز نوبل. ويثير الحدث اهتماما واسعا يدفع ببعض المؤسسات إلى استباقه بوضع لائحة الأكثر حظوظا للفوز بالجائزة في مختلف مجالاتها. ودأبت مؤسسة "تومسون رويترز" الشهيرة على عادة ممتعة ومهمة كل عام، وهي أن تنشر، في أواخر سبتمبر/أيلول، قائمة توقُّعاتها لجائزة نوبل، الأمر الذي أصبح قبل سنوات يجري تحت اسم "تحليلات كلاريفيت". وتَمنح مؤسسة نوبل النرويجية سلسلة من الجوائز السنوية باسمها في خمس مجالات هي الفيزياء، والكيمياء، والطب، والأدب، والسلام. وتذهب هذه الجوائز لشخصيات "أسهمت بنصيب وافر في نفع البشرية" في الأشهر الاثني عشر الأخيرة، على حد ما ورد من تعبير في وصية رجل الأعمال السويدي -ومخترع الديناميت- ألفريد نوبل. وقد أوصى ألفريد نوبل، الذي أنشأ الجائزة سنة 1895 بمعظم ثروته لتمويل الجوائز التي مُنحت لأول مرة عام 1901. وفي عام 1968، أضاف البنك المركزي السويدي مجالا سادسا إلى سلسلة الجوائز هو الاقتصاد، رغم أنه لا يحمل بشكل رسمي وصْف جائزة نوبل، وإنما جائزة بنك السويد في الاقتصاد. وعادة ما يبدأ الحفل، حسب الجزيرة نت، في الاثنين الأول من شهر أكتوبر/تشرين الأول كل عام، الذي يوافق 3 أكتوبر/تشرين الأول هذا العام، وهو موعد جائزة الطب والفسيولوجيا، تليها جائزة الفيزياء في 4 أكتوبر/تشرين الأول، ثم الكيمياء في 5 أكتوبر/تشرين الأول، وبعدها تأتي جوائز الأدب والسلام والاقتصاد. ولكي تدخل إلى تلك القائمة يجب أن تكون أبحاثك هي الأكثر استشهادا بين الباحثين في نطاقك البحثي، ليس ذلك فقط، بل يجب أن يكون المُرشَّحون هم الأوائل في اكتشافاتهم بحيث تُمثِّل تلك الأبحاث نافذة مبتكرة لمجالات بحثية جديدة وأصيلة، ناهيك بوجود تاريخ حافل بالجوائز العلمية الشهيرة رفيعة الشأن، نجحت المؤسسة بالفعل في توقع أكثر من عشر جوائز نوبل خلال السنوات السابقة. فإليك، حسب الجزيرة نت، توقعات مؤسسة "تومسون رويترز" لجوائز نوبل 2022: جائزة الطب والفسيولوجيا تقول كلاريفيت عن جائزة الطب إنها ربما لا تخرج عن ثلاثة ترشيحات، الأول لكلٍّ من "ماساتو هاسيغاوا" (Masato Hasegawa)، رئيس قسم الدماغ وعلوم الأعصاب بمعهد طوكيو متروبوليتان للعلوم الطبية، وفيرجينيا مان يي لي (Virginia Man-Yee Lee)، الأستاذة الجامعية في أبحاث مرض الزهايمر بجامعة بنسلفانيا الأميركية، عن اكتشافهما لبروتين يُدعى "تي دي بي-43" (TDP-43) بوصفه علامة مرضية للتصلب الجانبي الضموري (ALS) والتنكس الفصي الجبهي الصدغي (FTLD)، مع مساهماتهما الأخرى في دراسة الأمراض التنكسية العصبية عموما. لا نجد بعد علاجا للتصلب الجانبي الضموري أو التنكس الفصي الجبهي الصدغي، لكننا نعرف الآن أن هذا البروتين، الذي يوجد بشكل طبيعي في خلايانا، يحدث في بعض الأحيان أن تخرج الأمور عن السيطرة ويتطوّى (Fold) بشكل غير طبيعي، ثم تتجمع مجموعة من تلك البروتينات مُشكِّلة كتلا من السموم التي تضرب بالخلايا. باكتشافهما لهذه العلامة، نحن الآن على الطريق -الطويل ربما- لاكتشاف علاجات لهذه النوعية من الأمراض عموما، التي تنهار فيها خلايا المصاب العصبية ببطء، إلى أن يفقد حياته في مرحلة ما! أما في الترشيح الثاني، تتوقع المؤسسة فوز ماري كلير كينغ (Mary-Claire King)، أستاذة طب وعلوم الجينوم بجامعة واشنطن الأميركية، لإظهار الدور الذي تلعبه القابلية الوراثية للإصابة بسرطانَيْ الثدي والمبيض، وخاصة الدور الذي تلعبه طفرات في جين محدد يسمى "بي آر سي إيه 1" (BRCA1). نحو 15-20% من حالات سرطان الثدي والمبيض تأتي لأسباب موروثة من الأهل، جينات "بي آر سي إيه" هي أحد أهم الجينات التي ترتبط بتلك العملية، بل إن المرأة التي تحمل طفرات محددة من هذه الجينات تكون احتمالية إصابتها بسرطان المبيض والثدي هي %40 و70% على التوالي، الآن -بفضل اكتشافات كينغ وغيرها- نمتلك فرصة أفضل لعمل اختبارات لتوقع إصابة امرأة ما بهذه الأنواع من السرطان، وبالتالي بدء العمل مبكرا على علاجها، ما يمنحنا فرصة تقترب من 100% لشفائها مع الكشف المبكر. وفي الترشيح الثالث تضع المؤسسة ستيوارت أوركين (Stuart H. Orkin)، أستاذ طب الأطفال بكلية الطب في جامعة هارفارد، عن إنجازاته في البحث التأسيسي حول الأساس الجيني لأمراض الدم، وتعزيز العلاج الجيني لفقر الدم المنجلي، وبيتا الثلاسيميا. إنجازات أوركين في هذا النطاق كثيرة، بدأ الأمر في السبعينيات حينما تمكَّن من تحديد الطفرات الجينية المرتبطة بمجموعة من اضطرابات الدم المعروفة في المجمل باسم الثلاسيميا. أدَّى هذا الكشف إلى بناء أول وصف شامل للعيوب الجزيئية في اضطراب وراثي، ثم قام هو وفريقه في الثمانينيات باستنساخ جين يُسبِّب مرض "الورم الحبيبي المزمن"، وهي كذلك المرة الأولى التي يتم فيها استنساخ الجين المُسبِّب للمرض دون أن يعرف الباحثون البروتين الخاص بهذا الجين. أبحاث أروكين تفتح الباب، يوما بعد يوم، لنطاق يوظف معرفتنا بالمادة الوراثية في تطوير علاجات جديدة، إنه ما يُسمى بالعلاج الجيني. جائزة الفيزياء أما في الفيزياء، فإن مؤسسة كلاريفيت تضع في الترشيح الأول ستيفن كويك (Stephen R. Quake)، أستاذ الهندسة الحيوية والفيزياء التطبيقية من جامعة ستانفورد الأميركية عن إنجازاته في فيزياء ظواهر السوائل على مقياس النانوليتر. اخترع كويك العديد من أدوات القياس للبيولوجيا، بما في ذلك تقنيات تسلسل الحمض النووي الجديدة التي أتاحت التحليل السريع للجينوم البشري، ونماذج "أتمتة الموائع الدقيقة" التي تسمح للعلماء بعزل الخلايا الفردية بكفاءة وفك شفرتها الجينية. كويك هو نموذج للمخترع الحقيقي، يشتهر الرجل أيضا باختراع أدوات تشخيص جديدة، بما في ذلك أول اختبار غير جراحي قبل الولادة لمتلازمة داون وحالات اختلال الصيغة الصبغية الأخرى، وتستفيد ملايين النساء كل عام الآن من هذا النظام. وعموما، ساعدت ابتكارات كويك في تسريع وتيرة علم الأحياء جذريا وجعلت الطب أكثر أمانا من خلال استبدال الخزعات التي يمكن أن تكون ضارة باختبارات دم بسيطة. يُعرف كويك أيضا بأنه المستشار الأكاديمي السابق "لهي شيانكوي"، العالم المثير للجدل الذي كان متورطا، كما يُزعم، في إنتاج أول أطفال معدلين جينيا. على الجانب الآخر فإن المؤسسة ترشح كلًّا من تاكاشي تانيجوتشي (Takashi Taniguchi)، مدير المركز الدولي للهندسة المعمارية للمواد النانوية بالمعهد الوطني لعلوم المواد (NIMS) في مدينة تسوكوبا اليابانية، وكينجي واتانابي (Kenji Watanabe)، كبير الباحثين في نطاق مجال المواد الكهربائية والإلكترونية بالمعهد نفسه، عن إنجازهما في تصنيع بلورات نيتريد البورون السداسية عالية الجودة، التي أحدثت ثورة في نطاق السلوك الإلكتروني للمواد ثنائية الأبعاد. بسبب تركيبته المماثلة لهيكل الجرافين، يسمى نيتريد البورون السداسي أحيانا بالجرافين الأبيض، لكنه يختلف كثيرا عن الجرافين، وهذا هو منبع أهميته! يحتوي هذا المركب على أحد أعلى معاملات التوصيل الحراري بين أشباه الموصلات والعوازل الكهربائية، وتزداد موصليته الحرارية مع انخفاض السماكة ونقاء العينات، إلى جانب ذلك يمتلك درجة عالية من الاستقرار الحراري ولا يتعرض بسهولة للأكسدة، ما أوجد له مكانة تتصاعد يوما بعد يوم في صناعة الإلكترونيات والضوئيات النانوية، وكان لتانجيوتشي وواتانابي دور كبير في هذا. جائزة الكيمياء أما في الكيمياء فإن المؤسسة تُرشِّح زينان باو (Zhenan Bao)، أستاذة الهندسة الكيميائية من جامعة ستانفورد الأميركية، عن تطويرها لتطبيقات في نطاق المحاكاة الحيوية باستخدام مواد إلكترونية وعضوية وبوليمرية، بما في ذلك "الجلد الإلكتروني" المرن، حيث تطمح زينان ببساطة إلى تطوير جلد شبيه بجلد البشر، لكنه مكوَّن من شرائح إلكترونية فقط! تعمل باو في نطاق قد لا تسمع عنه كثيرا وهو الإلكترونيات القابلة للارتداء، وبشكل أكثر خصوصية فإنها تعمل على تطوير مواد بلاستيكية تكون قادرة على أداء وظائف كهربائية وتحافظ على مرونتها في الوقت نفسه، وكذلك تكون قادرة على التحلل والالتئام. في يوم من الأيام كان ذلك خيالا محضا، لكننا الآن -مع أبحاث باو وفريقها- على الطريق الواضح الصريح نحو هذا الهدف، فقط تخيل الآتي: هاتف ذكي، بطارية هاتف، دائرة كهربية على لوحة حاسوب، ترانزستورات موزعة على معالج، لكن كل هذا مطاطي ورقيق وكأنه كيس بلاستيكي كالذي تضع فيه أشياءك في السوق! كل هذا متاح الآن بالفعل، مع عالمة أصدرت أكثر من 700 منشور مُحكم وحصلت على أكثر من 100 براءة اختراع أميركية. في الترشيح الثاني للكيمياء تضع المؤسسة الثنائي بوني باسلر (Bonnie L. Bassler)، أستاذة البيولوجيا الجزيئية من جامعة برينستون الأميركية، وبيتر جرينبيرج (E. Peter Greenberg)، أستاذ علم الأحياء الدقيقة من جامعة واشنطن عن إنجازاتهما في نطاق تنظيم التعبير الجيني في البكتيريا من خلال نظام تنبيه واستجابة كيميائي يرتبط بالكثافة العديدة يسمى "استشعار النّصاب". استشعار النصاب هو اكتشاف ربما لم تتخيل يوما أنه يوجد على هذا المستوى من الكائنات الحية (البكتيريا)، فهو أشبه ما يكون بالانتخابات الديمقراطية، حيث يقوم كل فرد في مجتمعات البكتيريا بإفراز مواد كيميائية محددة، كلٌّ منها يُعبِّر عن "صوت"، وحينما يجتمع نصاب محدد يوجه قرار مجموعات البكتيريا في اتجاه ما. حينما تدخل مجموعة صغيرة من الخلايا البكتيرية إلى جسمك، فإنها تعرف أنها لن تضرك لأنك ببساطة ضخم جدا بالنسبة لها، وبالتالي فإنها تنتظر حتى يكتمل النصاب، أي العدد الذي تعرف أنه سيكون ضارا بالنسبة لك (مفيدا بالنسبة لها) وتبدأ ضربتها! يوجد هذا النمط من السلوك في مجتمعات النمل والنحل أيضا. أما في الترشيح الثالث لجائزة الكيمياء هذا العام، فإننا نلتقي بدانيل نوسيرا (Daniel G. Nocera)، الأستاذ في قسم الكيمياء والبيولوجيا الكيميائية بجامعة هارفارد، عن مساهماته التجريبية والنظرية الأساسية في تقنية "نقل الإلكترون المقترن بالبروتونات" (PCET) وتطبيقاتها في علوم الطاقة والبيولوجيا. ببساطة، فإن نوسيرا قد حاكى عملية البناء الضوئي التي تتم بشكل طبيعي في النباتات، يحصل النبات على الهواء والماء والضوء فيحوِّل هذا الخليط إلى كل شيء في حياته، الغذاء والطاقة، نوسيرا ورفاقه تمكَّنوا من ابتكار منظومة شبيهة ولكن صناعية، ألواح من المادة تسحب الضوء من الشمس وبفضله تحول الماء إلى هيدروجين وأكسجين، ثم تقدم الهيدروجين لخلايا بكتيرية تُحوِّل الهيدروجين (بالاتحاد مع ثاني أكسيد الكربون) إلى وقود سائل وسماد للنباتات، إنها منظومة متجددة تفتح الباب لمستقبل غير ملوث، أمل كل علماء العالم في هذا النطاق هو الوصول إلى منظومة كيميائية كالتي ابتكرها نوسيرا، تسحب ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتطلق الأكسجين، وما بين هذا وذاك نحصل على الطاقة، ماذا لو جاء يوم وتحوَّل هذا الابتكار إلى أرض الصناعة؟ حسنا، كانت تلك ثمانية توقعات عن ثلاث جوائز سوف يبدأ إعلانها قريبا، ينتظرها المتخصصون والهواة ومحبو العلوم في كل العالم على تنوع اهتماماتهم واختلاف ثقافاتهم. قد لا نجد أيًّا منها في إعلانات جائزة نوبل القادمة، لكن الفكرة هي تعريفك بهذا العالم الباهر على تعقيده، والرصين على قدر ما يُقدِّمه من سيرة فانتازية، إنه البحث العلمي.