إن غياب الجامعة المغربية مرة أخرى عن تصنيف شنغاي لهذه السنة في الوقت الذي تحضر فيه جامعات عديدة تنتمي إلى الوطن العربي وإلى افريقيا (ربما بل أكيد أن جميعها تعتمد الإنجليزية كلغة تدريس)، في مصر والأردن والإمارات والسعودية ولبنان وسلطنة عمان ... (هذا الغياب) يمكن اعتباره إعلانا صريحا عن فشل منظومة التعليم العالي برمتها في بلادنا؛ منظومة ظلت لسنوات تلتهم الميزانيات من دون إنتاجية أكيدة أو فاعلية كبيرة.فلا يعقل مثلا، ألا ينطبق معيار من المعايير الستة التي تأخذ بعين الاعتبار في هذا التصنيف على جامعة من جامعاتنا. حقيقة هذا شيء مخجل جدا حتى لا نقول شيئا آخر؛ فلا جوائز ولا أبحاث ولا إصدارات ولا جودة تعليم ولا حوكمة مؤسسات ... والغريب حقا هو الصمت وغياب أي رد فعل من طرف المسؤولين أو من طرف المعنيين مباشرة بقطاع التعليم والبحث العلمي في بلادنا تجاه هذه الوضعية. هذا التصنيف الذي أصبح للأسف يذكرنا دوما بوضعنا، حيث يتكرر كل سنة من طرف جهات ومؤسسات دولية مختلفة؛ فالنتيجة واحدة ولو تعددت التصنيفات. إن الجامعات التي تحترم نفسها عندما تحتل مراتب منأخرة (لا نقول غير مصنفة)، تحاول بكل الطرق الممكنة تصحيح هذا العطب والعمل على تحسين وضعها والإنطلاق من جديد، أما نحن الذين لا وجود لنا أصلا في جل التصنيفات فعندنا تقييمنا الذاتي الخاص بنا تقوم به وكالاتنا وأجهزتنا الوطنية مشكورة ،وهي على كل حال ترى الأمورعلى ما يرام بل وتراها في تحسن مستمر، ولا تهمنا التصنيفات الدولية الأخرى في شيء. إذا كانت الجامعة المغربية تعتبر مكونا أساسيا من مكونات المنظومة التعليمية، نظرا لعراقتها والدور الريادي الذي لعبته، عبر تاريخها، في تكوين الأطر والكفاءات؛ فإن هذا الدور أصبحت تنتابه اليوم نقائص كثيرة وأعطاب مزمنة؛ أبرزها ضعف البحث العلمي الحقيقي والإصدارات العلمية العالية الجودة ، طبعا في المجلات المصنفة والمعروفة عالميا، إلى جانب هدر الطاقات، سواء على المستوى البيداغوجي أو العلمي أو المادي أو اللوجستيكي... لقد ركنت الجامعة المغربية لفترة طويلة إلى الفتور والاجتراء، وتكونت فيها لدى العديد من الفاعلين عقلية تكرس الإكتفاء بالموجود وعدم التوق إلى بديل أفضل، قد يتطلب بذل جهود إضافية، أو إنجاز أعمال قد تعتبر عبئا جديدا لا داعي للإلتزام به. ولعل هذه العقلية الراسخة ستكون أولى العقبات التي تعترض طريق الإصلاح، والتي تتطلب الكثير من الجهود لتبديدها وتغييرها بعقلية تستجيب لمتطلبات التغيير، وتندمج في العملية الإصلاحية عن إيمان واقتناع، حتى يتم تعزيز مكتسبات الجامعة المغربية والنهوض بدورها وتحسين مردوديتها وأدائها، لخلق أجيال جديدة من الشباب، تتسم بالوعي الشامل وبالمعرفة الواسعة والقدرة على الاندماج في المجتمع بيسر وانسجام؛ ولن يتم ذلك من دون: – أستاذ باحث بكل ما تحمل الكلمة من معنى، والدرجات، على أساس من الجدارة والاستحقاق والتفوق البيداغوجي والعطاء العلمي المتواصل، من خلال بحوث جادة ودراسات متميزة ومشاريع بحثية مستمرة، لا تكون ظرفية أو تحت الطلب، وتمثل جزء من خطة بحثية، تتماشى وتتناغم مع البرامج و السياسات والإستراتيجيات الإنمائية الوطنية؛ وهنا لابد من الإشارة إلى أن شبكة الترقي المعمول بها اليوم في جامعاتنا، تعتبر غير متوازنة تماما، حيث لا تعطي لأنشطة البحث والتكوين أي أهمية أو قيمة، مقارنة مع الأنشطة الموازية، الثقافيةوالرياضية والنقابية،.. في حين تؤدي، وبالنظر إلى نظام الكوطا المتبع، إلى مزيد من توتر العلاقات بين الزملاء الأساتذة، في المؤسسة الواحدة، وداخل الجامعة الواحدة، وذلك نتيجة التنافس الشديد بينهم على الترقيات، والذي قد يصل في بعض الأحيان إلى حد التصارع والتصادم والتخاصم، خاصة بالنسبة للترقية في النسقين الاستثنائي والسريع، والتي تتم، في الكثير من الأحيان، من خلال الكولسة والمصالح المتبادلة وموازين القوى داخل المؤسسة، بعيدا عن كل تقييم موضوعي للإنتاجات العلمية والكفايات التربوية والبيداغوجية للأساتذة. – أستاذ باحث يجري إعداده وتكوينه وتدريبه، حتى يصير ذو خبرة وكفاءة عالية؛ فلا ينقطع بعد ذلك عن القيام باجتهاد شخصي أو تعلم ذاتي أو تكوين مستمر، يمكنه من التعامل مع المستجدات ومسايرة المتغيرات. – أستاذ باحث متقن للغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية وللتكنولوجيات الحديثة؛ المواكب للتطورات العلمية الجديدة، وتخضع برامجه ومضامين محاضراته وطرق تدريسه، للتقويم والتصحيح والتعديل باستمرار. – أستاذ باحث معتز بمهنته ومتحمس لها ومتمكن منها، مخلص أمين، متعاون متفاعل، القدوة الحسنة والنموذج المثالي لا يتغيب من دون سبب، ويعوض محاضراته التي يغيب عنها؛ يحترم زمن المحاضرة كاملا، من دون نقصان أو مماطلة أو ثرثرة أو كلام غير مفيد؛ الذي يشجع طلبته على الإبداع والتفكير الناقد؛ ويتجاوب مع أسئلة الطلبة ومداخلاتهم، ويحترم ويتقبل آرائهم وانتقاداتهم ؛ويتجاوب مع أسئلة الطلبة ومداخلاتهم، ويحترم ويتقبل آرائهم وانتقاداتهم. – أستاذ باحث متواضع دائما في معاملاته، مع طلبته وزملائه، راقي في كلامه وجميع تدخلاته، محترم في مظهره ولباسه، متوازن وغير متسرع أو شديد الانفعال، عند اتخاذ أي موقف أو قرار. – أستاذ باحث يقدم المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، يحترم القوانين والأنظمة ومواعيد الامتحانات، ويتعامل مع أوراق هذه الامتحانات بكثير من الجدية، بل والقدسية، لا يظلم عند التقييم؛ كما أبدا لا يستفيد من محسوبية أو من علاقات شخصية، دائم الحضور في المؤسسة، وعند الحاجة إليه، ولو خارج أوقات المحاضرات، وذلك لاستقبال الطلبة والإستماع إليهم وتفهم أوضاعهم ومساعدتهم، والسعي في حل مشاكلهم. إن أي إصلاح منشود، يجب أن يحدد بصفة واقعية، البرامج والمجالات الكفيلة بتحسين فعالية ونجاعة منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في بلادنا، وتنميتها والدفع بها نحو إعادة النظر في دورها، والعمل على تكييف هذا الدور مع متطلبات العصر المتجددة، وإقرار نظام تعليمي جديد، يقوم على ضوابط وبنود غيرما تعودت عليه الجامعة المغربية، منذ سنين طويلة؛ الأمر الذي لن يتحقق إلا من خلال: – تحسين عرض التعليم العالي، قصد ملاءمته مع البرامج الوطنية للتنمية. وفي هذا السياق، يجب تسريع وتيرة تحضير تكوينات مهنية مناسبة، تمكن من الملاءمة المستمرة والرفع من قابلية اندماج الخريجين في سوق الشغل؛ – إعادة تأهيل المؤسسات الجامعية،عن طريق ترشيد المرافق المتوفرة، بهدف ضمان استقبال أمثل وتوسيع الطاقةالإستيعابية، في أفق مواكبة النمو المتوقع لأعداد الطلبة؛ كذلك تأهيل وصيانة البنيات التحتية، وتجديد معداتها المتقادمة، بهدف ضمان استمرار جودة التكوينات بها؛ – تحسين المردودية وتقليص الهدر والإنقطاع عن الدراسة، بالرفع من نسبة الحصول على الشواهد، وذلك عبر إدراج دروس في اللغات وتقنيات الإعلام والتواصل ومنهجية العمل الجامعي، لتمكين الطلبة من التحكم في آليات ومناهج العمل الخاصة بالمحيط الجامعي. – تطوير الحكامة وتحسين القدرات التسييرية، واتخاذ تدابير كفيلة بترشيد وعقلنة الموارد البشرية والمادية والإدارية، من خلال تنويع والاستغلال الأمثل للموارد، وتطبيق طرق الجودة وفق الأولويات؛ كذلك التدبير التشاركي الذي يرتكز على قاعدة التسيير المشترك، والتي تتوخى تعبئة وإشراك كل الفاعلين؛ – تعزيز قدرات الموظفين، وتطوير كفاءات الأساتذة الباحثين وآليات تأطير الأنشطة البيداغوجية وأنشطة البحث، من أجل التوفر على موارد بشرية مؤهلة، وفقا للنظم والمعايير الدولية، وذلك باستفادة الأساتذة الباحثين، من تكوينات و/أو تداريب بالخارج، مع إعطاء أولوية خاصة للتكوين البيداغوجي للأساتذة الباحثين الجدد؛ نفس الشيء يجب أن يتم بالنسبة الموظفين الإداريين والتقنيين؛ النهوض بالبحث العلمي والتقني وتثمينه، بتسخيره أكثر للاستجابة لحاجيات المحيط الاقتصادي والاجتماعي، وتوجيهه نحو المشاريع التي لها انعكاس مباشر على قضايا التنمية الإجتماعية والإقتصادية والثقافية؛ كذلك الإنخراط القوي في مشاريع البحث والتنمية، بإنجاز مشاريع بحث تشاركية مع المقاولات والرفع من عدد المشاريع المحتضنة والمقاولات الناتجة عن الإحتضان، وتقوية الشراكات مع المهنيين؛ كما يمكن للكفاءات المغربية المقيمة بالخارج أن تساهم بشكل مكثف في تطوير أنشطة البحث، وذلك بالعمل على استقطاب باحثين وخبراء مغاربة مقيمين بالخارج؛ كذلك تحسين حكامة البحث العلمي، عبر وضع هياكل لتدبير وتتبع المشاريع، وتقييم أنشطة البحث والتعاون الدولي، والتشجيع على إنشاء مراكز ومجموعات البحث في مجالات متعددة، مع مد المزيد من الجسور بينها، وجعلها متسمة بالعمل الجماعي، تماشيا مع روح الإصلاح؛ والتشجيع على الإنخراط في برامج البحث وطلبات العروض، لدى المؤسسات والهيئات الدولية. إن أي خطة أو إستراتيجية للنهوض بقطاع التربية والتكوين، كيفما كانت، لا يمكن أن تنجح وتحقق الأهداف المتوخاة منها، من دون أولا، تنمية التعليم العالي، وتوظيفه لخدمة الإقتصاد، والربط بينه وبين أنشطة البحث العلمي؛ لكن كذلك وأساسا، ضرورة الإلتزام بمجانية التعليم الأساسي، والإهتمام بتعليم المرأة، والإنفتاح على النظم التعليمية المتطورة، والإهتمام بالتعليم الأولي، وتركيز التعليم الإبتدائي على المعارف الأساسية والمعاني الوطنية، وتوجيه التعليم، خاصة الثانوي منه، لخدمة الأهداف الوطنية، والعناية بمعاهد تدريب المكونين والتدريب الصناعي، والتوافق مع التطورات التقنية والمعلوماتية؛ كذلك ضرورة إقامة ما يعرف بالمدارس الذكية التي تتوفر فيها مواد دراسية تساعد المتعلمين على تطوير مهاراتهم واستيعاب التقنية الجديدة، وذلك توافقا مع الثورة التي تشهدها تكنولوجيا الاتصالات والمعلوميات. وأهم عناصر المدرسة الذكية هي: التدريس من أجل التعلم، ونظم وسياسات إدارة مدرسية جديدة، وإدخال مهارات وتقنيات تعليمية وتوجيهية متطورة. وقد بدأت تطبيقات المدارس الذكية في عدد من الدول باستخدام واستثمار الحاسوب في مجال التعليم؛ إذ وضعت تلك الدول الخطط والإستراتيجيات الوطنية بهدف إدخال التقنية للمدارس والاستفادة منها؛ ومن أشهر تلك الدول الولاياتالمتحدةالأمريكية وأستراليا؛ وتعتبر هذه المدارس تطبيقا لمشروع التعليم الإلكتروني، والتي تقوم على تطوير أربعة محاور رئيسية في العملية التعليمية، وهي: تدريب وتطوير مهارات العنصر البشري؛ مناهج وطرق التدريس؛ مشاريع البنية التحتية للمدارس؛ ثم إنشاء المحتوى ومصادر التعلم الرقمي. مداخل الإصلاح هذه، يجب أن تحكمها الثلاثية التالية: ضمان الجودة، والنهوض بالبحث العلمي التنموي، وتأهيل الموارد البشرية، وذلك اعتمادا على فلسفة ومبادئ الحوار والتواصل والتشارك، خدمة للطلبة والمجتمع والوطن.