ليس هناك من يسير إلى حتفه بسرعة البرق مثلما يفعل من ينازع الدولة رداء السلطة والقوة؛ فالفلاسفة وعلماء السياسة والاجتماع والقانون، على اختلاف مشاربهم وتباين مواقفهم، مجمعون على أن الدولة هي الطرف الوحيد المخول له استعمال القوة، على أساس أنها الوحيدة المعنية بإنفاذ القانون، وحماية الممتلكات والمؤسسات والأرواح، وبسط الأمن والطمأنينة في صفوف المواطنين، وفك النزاعات ورد المظالم، والضرب على يد الظالم بيد من حديد وفق القوانين الجاري بها العمل، وكذا توفير آليات قانونية وديمقراطية من أجل إفراز ممثلي الشعب في جو من النزاهة والشفافية. غير أن جل الحركات الإسلامية على وجه البسيطة لا تجد نفسها معنية بقوانين البلد الذي تنتمي إليه؛ حيث إنها تعتبر هذا القانون وضعيا؛ بمعنى أنه يجوز تجاوزه أو التخلص منه في أية لحظة من لحظات اللعبة القذرة التي تلعبها مع الدولة؛ وهذا مبني على الأساس من كونها لا تستمد رُؤاها ومناهجها ومخططاتها من القانون وإنما من رب السماء مباشرة؛ لذا تجد كثيرا من الحركات الإسلامية قد لجأت للعنف في مرحلة من تاريخها السيء، ثم عدلت عنه في مرحلة أسوأ، ليتبين فيما بعد، أن قرار اللجوء لخيار القوة من لدن هذه الحركات إنما هو نتيجة اعتقادها في إمكانية هذا الخيار للوصول إلى السلطة، ثم قرار العدول عنه إنما يكون نتيجة تيقنها من عدم جدواه، بعدما تصطدم هذه الحركات مع صلابة الدولة وتماسكها؛ أما هذه "المراجعات" التي تدّعي القيام بها بين الحين والحين لتبرر تحولها من خيار إلى آخر، فلا علاقة لها في حقيقة الأمر بما تمليه التشريعات المنزلة من السماء. هكذا أسست جماعة الإخوان المسلمين التنظيم السري الملطخ تاريخه بالدماء، ليُحَل بعد مقتل حسن البنا، وهكذا نهجت حركة الشبيبة الإسلامية المغربية خيار العمل المسلح؛ إلا أنها بعد "المراجعات" التي قام بها بنكيران وصحبه، تحولت إلى تبني خيار المشاركة السياسية وأسست حزب العدالة المشؤوم، فيما لجأت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى تأسيس جيش الإنقاذ لمجابهة النظام الجزائري المخبول؛ لتفطن الجبهة في نهاية المطاف إلى أن هذا التأسيس خدم النظام أكثر مما أضر به، فتم حله. حينما فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالدور الأول في انتخابات الجزائر، جن جنون النظام المجنون أصلا، فتدخل لإلغاء الانتخابات رغما عن أنف الشعب؛ خطب الحسن الثاني رحمه الله أنذاك، منتقدا هذا القرار الأبله على أساس أنه سيُدخل الجزائر في حرب لا تُبقي ولا تذر، وكذلك كان، وأنَّ الأولى، في نظر الحسن الثاني، أن يحكم "الإسلاميون" لتمكين الشعب فرصة امتحان حقيقتهم وتمحيص نواياهم. مما لاشك فيه، أن النظام المغربي هو أعقل وأدهى الأنظمة العربية بلا جدال؛ حيث إنه حينما قرَّر المغاربة أن يُجَرِّبوا "الإسلاميين"، لم يُعَامل النظام المغربي الحكيم "الإسلاميين" بمعرفته الحثيثة بنواياهم الخبيثة، وخططهم المشينة، وبباطنهم الذي يعرفه جيدا أكثر حتى من أقرب مقربيهم؛ بل عاملهم بما يُظهرونه من ورع في سلوكياتهم، وبراءة في مظاهرهم، وتسامح ورقي في أوراقهم التصورية ووثائقهم المذهبية، فناولهم مقاليد الحكم على طبق من ذهب، وقرَّب إليهم كرسي الحكومة حتى صار أقرب إليهم من شراك نعالهم، وأمهلهم عشر سنوات عجاف لعل الشعب يفطن لحقيقتهم الصادمة، وكان بإمكانه منحَهم عُشرية أخرى بما ألهمه الله تعالى من صبر وحكمة؛ إلا أن الشعب، من حسن الحظ، لم يكن في حاجة إلى مزيد من الوقت لكي يلفظهم للأبد؛ هكذا تم اقتيادهم إلى مزبلة التاريخ بنجاح، وبدون إسالة قطرة دم. * نورالدين زاوش، كاتب إقليمي سابق في حزب العدالة والتنمية مستقيل سنة 2005م.