مقدمة للترجمة هل هناك من لم يعش ألم الفراق في إحدى صوره الكثيرة، والتي يمكن أن تكون بسبب موت من نحبهم، أو بسبب سفر طويل، او بسبب رحيل إلى مكان بعيد، أو بسبب الطلاق وغير ذلك؟ وألم الفراق الذي تذوق الجميع أصنافا منه أثار اهتمام الشعراء والمغنين والفلاسفة والأدباء والعلماء عبر التاريخ. ولك أن تتخيل كم من مليارات آهات ألم الفراق ترتفع في كل لحظة في العالم. في هذا المقال تفاصيل حول ماذا يقوله علم الأعصاب عن آلام الفراق وما يجري في أدمغتنا خلاله، حسب ما نقلته الجزيرة نت عن الكاتبة والصحفية الأميركية فلورنس ويليامز. العلم وحده يفسر لا يخفى على أحد أن العلاقات الطيبة عندما تقوم على أساس الحب الحقيقي، فإن طيب أثرها يغمر جميع مناحي الحياة بحسب ما أكدته الأبحاث. فكلما كانت العلاقات العاطفية صحية وداعمة، عاد ذلك بالنفع على صحتنا النفسية والجسدية. وقد خلصت بعض الأبحاث الأخرى إلى أن المتزوجين يحظون بفرص أطول في العمر من العزاب، حتى إن حِدَّة المرض قد تكون أخف وطأة على المتزوجين، باعتبار وجود داعم يُشجِّعهم على المُضي قُدما نحو تحسُّن أسرع من أقرانهم العزاب. على الجانب الآخر، انطوى الشعر والغناء منذ قديم الأزل على حقيقة واحدة لا يتطرق إليها الشك، وهي أن أمور الحب عندما تسوء وتهوي بنا إلى قاع الحزن، فإن إساءتها لا تُجبَر ولا يُضَاهي ألمها شيئا. فبعدما خضتُ تجربة طلاق لم تكن باختياري، وجدتُ سلواي في الفن، لكنه لم يكن كافيا لتهدئة النار المؤجَّجة في أعماقي. كنت أبحث عن شيء أقوى يمكنه تفسير السبب الكامن وراء شعورنا بالحزن العميق الرابض في أعماقنا بعد تجارب الانفصال العاطفي، واهتديت أخيرا إلى العلم. ما اكتشفته هو أن الحب يضرب بجذوره في أعماقنا -على المستوى الفسيولوجي- ويُغيِّرنا بعمق لدرجة أنه كلما تقدَّمنا، تملَّكتنا سطوة الألم، وبقدر ما نتوغل، يزداد الألم توحُّشا، ويجعلنا نتأكد من أن عدم التورط في الحب أهون بكثير من الخوض في غماره غير حافلين بعواقبه. ومن جانبها تقول هيلين فيشر، مؤلفة كتاب "تشريح الحب: التاريخ الطبيعي للتزاوج"، وعالمة الأنثروبولوجيا التي تدرس الكيمياء العصبية للحب بوصفها باحثة في معهد كينزي بجامعة إنديانا الأميركية: "إن إحدى أشد تجارب البشرية ألما هي فقدان شريك الحياة. ورغم عمق الألم الذي يُخلِّفه هذا الفقد وراءه، فإنه مع ذلك لم يجذب انتباه الكثير من الدراسات حوله". لا يوجد ما هو أشق على النفس من انفطار القلب، لكن فيشر تؤمن باستهانة العديد من العلماء بموضوع الانفصال العاطفي، بينما تستحوذ عليهم حمى استكشاف الحالة التي يكون عليها البشر عند وقوعهم في الحب باعتبارها فكرة أكثر جاذبية. حتى إن فيشر نفسها تبنَّت هذا النهج لفترة طويلة إلى أن بدأ يتزايد اهتمامها نحو الجانب الآخر من الحكاية؛ جانب الانفصال الذي خاضت غماره بنفسها، وكذا العديد من البشر. في عام 2010، نشرتْ هيلين فيشر وزملاؤها ورقة بحثية في دورية "نيروفسيولوجي" (Neurophysiology) لتوضيح نتائج تجربة استخدموا خلالها الرنين المغناطيسي الوظيفي لمراقبة نشاط دماغ 15 شخصا عانوا انفصالا قسريا وما زالوا يشعرون بالشغف تجاه شركائهم السابقين. أثناء التجربة، عرضوا على هؤلاء المشاركين صورا لشركائهم السابقين وصورا أخرى عادية لأشخاص مألوفين. وما إن وقع بصرهم على صور شركائهم السابقين حتى أظهرتْ عمليات المسح نشاطا في العديد من مناطق الدماغ التي تنشط عادة حينما يكون الشخص منغمسا في حالة من الحب والهيام. في مذكرات طلاقها التي جاءت بعنوان "تبعات ما بعد الزواج والانفصال"، تقول الروائية البريطانية راشيل كوزك: "إن اللوعة ليست إلا طريقة مشابهة للحب، مطبوعة بالقسوة ويغيب في حضرتها أي معنى للنوم الهانئ". خلال التجربة، أظهرتْ عمليات المسح نشاطا في العديد من مناطق الدماغ المرتبطة بالرغبة الشديدة والتنظيم العاطفي، مثل المنطقة الغشائية البطنية (VTA)، والمخطط البطني (مجموعة من الهياكل تحت القشرية يُعتَقد أنها تلعب دورا مهما في العاطفة والسلوك)، بالإضافة إلى التلفيف الحزامي (وهو القشرة الحزامية الأمامية التي تلعب الدور نفسه تقريبا). تؤدي هذه المناطق النشطة دورا فعالا للغاية في تأجيج مشاعر الحب في المراحل المبكرة منه، فضلا عن أنها تُشكِّل أجزاء من جهاز التحفيز في الدماغ، الذي يعمل عبر إطلاق الناقل العصبي الدوبامين الذي يُعَدُّ أحد النواقل المتعلقة بإدمان المخدرات (الكوكايين). مراحل الفراق قد يُخيِّل إلينا أن الحب وإن كان إدمانا، فمؤكد أنه شيء يصب في صالحنا ما دام يدفعنا إلى الانجذاب لبعضنا، لكن ذلك يصلح في حالة واحدة فقط وهي المُضي قُدما في كنف حب متبادل، أما الحب الذي نبذله في سبيل الطرف الآخر دون أن نحظى منه بالقدر ذاته من المحبة، فآثاره السلبية الفادحة لا تلبث أن تظهر على صحتنا الجسدية. أحيانا نمنح أدمغتنا الأولوية للتفكير في الشريك السابق بالطريقة نفسها التي يتعامل بها مع الألم الجسدي، وهذا ما لاحظه فريق فيشر. فبجانب النشاط المتزايد في أجزاء الدماغ المرتبطة باللهفة والإدمان، أظهرت أجزاء أخرى من القشرة الانعزالية والقشرة الحزامية الأمامية نشاطا أيضا أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي، وهذه الأجزاء مسؤولة عن الألم الجسدي. تلاحظ فيشر أيضا أن هذه المناطق تزداد نشاطا عندما يكابد المرء ألما في أسنانه، لكن الفرق هنا أن ألم الانفصال قد يدوم طويلا فيُخيَّل إلينا أنه سيدوم إلى الأبد دون أن يفارقنا. أثناء الدراسة، اعترف جميع المشاركين أن التفكير في شركائهم السابقين لم يبرح مخيلتهم لدرجة أنه استنزف أكثر من 85% من أوقات يقظتهم، فضلا عن فشلهم في التحكم بعواطفهم منذ المراحل المبكرة من انفصالهم. أكَّد الباحثون أن هذه الحالة تسري على الجميع دون استثناء، وقد تستغرق أسابيع وربما شهور نتيجة لاضطراب حواسنا وغرقنا في دوامة تشبه الحمى تُسقِطنا صرعى بعد ركضنا المحموم تجاه شركائنا. في مرحلة ما قد تستحوذ علينا فكرة الانتحار، وهذا ما توصَّلت إليه إحدى الأوراق البحثية حينما اكتشفت أن الانفصال العاطفي يُعَدُّ أحد أخطر العوامل التي قد تؤجِّج رغبة الانتحار بين المراهقين في الولاياتالمتحدة. فيما كشفت دراسة أخرى مهتمة بأسباب الانتحار بين البالغين أن من بين أشهر الأسباب التي قد تؤدي إلى الانتحار كتدهور الصحة الجسدية، أو مواجهة أزمات مالية، أو التعرُّض إلى الطرد، شكَّلت الأزمات العاطفية وحدها نسبة 27% من إجمالي الأسباب التي قد تُحفِّز على الانتحار. أوضحت فيشر أن ثمة مرحلتين عصبيتين أساسيتين لا بد أن يمر بهما كل مَن عانى انفصالا حديثا، وهما الاحتجاج في البداية، ثم التسليم أو التقبُّل في النهاية. في المرحلة الأولى، يحاول الكثير باستماتة استعادة شركائهم السابقين بأي وسيلة كانت، وترى فيشر أن هذا السلوك نابع في الأصل من إفراز الدماغ كمية كبيرة من الدوبامين والنورأدرينالين نتيجة للرعب الذي يفترسك من قمة رأسك حتى أخمص قدميك ويجعلك تبحث بيأس عما فقدته. في الأشهر الأولى من الانفصال، يقتحم المرء شعور بأن ثمة مكبر صوت يضج في رأسه بلا هوادة، وهذا ما يُسمَى -بحسب اعتقاد فيشر- باليقظة المُفرطة (أو الشعور بالتحفز والحذر الشديدين)، وتُعَدُّ هذه الحالة استجابة طبيعية لمواجهة التهديد الذي يتملَّك المرء عقب انفصاله، وهذا يوضِّح لِمَ يُعانِ الأفراد الذين واجهوا انفصالا قسريا من أرق متواصل، وفقدان الوزن، وانفعالات مُربِكة بصورة عامة. أما في مرحلة القبول، يُدرِك الناس ألا مناص من التسليم، فتسقط إثر ذلك جميع دروع الاحتجاجات، وتنطفئ محاولاتهم المُستميتة في المساومة. خلال هذه المرحلة يتراجع مستوى الدوبامين والسيروتونين في الجسم (نواقل عصبية مهمة لتنظيم الحالة المزاجية والنوم والشهية والرفاهية والسلامة النفسية). وما إن يُدرِك المرء أنه وصل إلى مرحلة التسليم حتى يتملَّكه الفتور والخمول، فضلا عن الجهد الذي يتكبَّده في مواجهة الكثير من الدموع. تشتهر هذه المرحلة بأن الأشخاص فيها لا ينفكون يلجؤون إلى أشياء تذهب بعقولهم تارة، وتارة أخرى يجدون سلواهم في القيادة بسرعة فائقة أو في الاعتكاف بالمنزل أمام التلفاز. وبين الحزن والألم، قد تنطلق فكرة الانفصال في ذهن آخرين كالفيضان العارم، فتستهلك تفكيرهم حتى الرمق الأخير في شبه دوامة لا تنتهي من التساؤلات المُنهِكة. ولسنا في حاجة إلى أن نؤكد بالطبع أن جميع وسائل الدفاع هذه هي أبعد ما يكون عن أي عادات صحيّة. استطاع العلماء مؤخرا اكتشاف الآلية العصبية خلف التأثيرات السلوكية والنفسية لهذا الأمر. ومن ضمن هؤلاء العلماء كانت زوي دونالدسون، عالمة الأعصاب السلوكية المهتمة بتتبُّع أثر الانفصال العاطفي وما يُخلِّفه من ألم على أدمغتنا. ولأنها تطمح إلى اختبار هذا الأمر بدقة متناهية على مستوى الخلايا العصبية، فقد وقع اختيارها على فئران البراري لتكون خير مُعين لها في تجاربها التي يصعب تطبيقها على البشر، إذ تتطلَّب التجارب زرع ميكروسكوبات متناهية الصغر داخل رؤوسهم. لوعة الفئران! صحيح أن في عالم الفئران لا يوجد ما يُسمى بالطلاق، لكن ذاك لا يعني أنها لا تختبر تجارب الفقد والانفصال. فعلى الرغم من أن بعض فئران البراري تُفضِّل القليل من العربدة بكثرة علاقاتها، فإن معظمها كائنات أحادية الزوج (أي تكتفي بشريك حياة واحد تظل معه طوال الحياة في جو مفعم بالاستقرار وتربية الصغار)، حتى إنهم يفوقوننا ولاء في هذه النقطة. بمجرد أن تهتدي فئران البراري إلى شريكها وترتبط به، تُقرِّر 75% منها استكمال حياتها مع هذا الشريك إلى أن يموت أحدهما، حتى وإن لم تُنجب الأنثى فذلك لا يؤثر على علاقتهما. (بمقارنة ذلك مع البشر، سنجد مثلا أن أكثر من 30% من البالغين الذين تزيد أعمارهم على 20 عاما في الولاياتالمتحدة خاضوا بالفعل تجارب طلاق سابقة، ناهيك بالعلاقات التي لم تُتَوَّج في النهاية بالزواج أساسا). تُعَدُّ فئران البراري كائنات حاضنة ووفية لشركائها وصغارها، كما أن الذكور يدعمون زوجاتهم ويواسونهم في أوقات المِحَن. لاحظ الباحثون أن الفئران في الأيام الأولى من التجربة بعد تعرُّفها على بعضها وتزاوجها، مالت جميعها إلى قضاء الوقت مع شركائها غير عابئة بأي مغريات كانت تُقَدَّم إليها على هيئة حلوى. خلال التجربة، وُضِعت الفئران في صناديق مصفوفة بعناية مصنوعة من البولي كربونات، كانت الصناديق رقيقة ومظلمة من الداخل. قضت الفئران معظم أوقاتها في اللعب داخل وخارج المواسير البلاستيكية، تتعلق تارة بأنابيب مرتفعة، وتعبث بأكوام من الخشب تارة أخرى. كانت نصف هذه الفئران تقريبا من النوع البراري أحادي الزوج، بينما النصف الآخر من فئران الحقول التي تربطها صلة قرابة معها. لكن الفرق الجوهري هنا أن فئران الحقول بطبيعتها لا تكتفي بشريك واحد أبدا. إن كان لهذا التنوع في شجرة العائلة فائدة، فإنه بلا شك نعمة عظيمة تصب في مصلحة علماء مثل دونالدسون. مع عَقد مقارنة بسيطة بين هاتين المجموعتين اللتين لا تختلفان كثيرا في بنية أدمغتها ولا آلياتها العصبية الكيميائية، يمكن للعلماء التعرُّف على الجزيئات الفريدة المسؤولة عن التأثيرات السلوكية والنفسية الناجمة عن اقترانها بشركائها. في بداية التجربة، استطاع كل فأر أن يهتدي إلى شريكه، ورُتِّبت -على أساس ذلك- جميع الزيجات. جمعت دونالدسون فئران البراري البالغة من الذكور والإناث التي لا تربطها صلة قرابة في قفص واحد لإتاحة الفرصة للتقرب من بعضها، وما إن بدأت عمليات التودد والتلامس حتى تَفَجَّر هرمون الأوكسيتوسين داخل أدمغة كلا الزوجين (يُعَدُّ هذا الهرمون مسؤولا أساسيا عن مشاعر الحب والرضا والثقة ومراكز المكافأة في الدماغ). بعد ذلك يتطرق الأمر إلى درجة من العمق بحيث إن اقترن الشريكان، فلا مجال أبدا للانفصال، وتصبح غايتهما الوحيدة أن يظلا ملتصقين ببعضهما طوال اليوم. تنتقل بنا التجربة إلى مستوى آخر وهو الانفصال قسريا. في هذه المرحلة، تكون الفئران بصدد مواجهة قَدَرها المجهول الذي لا تدري عنه شيئا وتتحكم في زمامه عدة تجارب. تتعلم الفئران في إحدى التجارب كيفية الضغط على مقبض معين (أو رافعة) لرفع الباب وتلقي مكافأة عبارة عن أطباق من الطعام اللذيذ. وما إن تدرك الفئران بعد مدة قصيرة من الانفصال عن شريكها أن هذا الأخير يقف منتظرا خلف الباب، حتى تُسرِع متلهفة نحو المقبض في محاولة للضغط عليه لرفع الباب والالتقاء به جديد. لكن الأمور لا تستمر بهذه البساطة، فليس كل ما يتمنى المرء يدركه. وذاك ما اختبرته الفئران بعدما زادت دونالدسون من صعوبة التجربة بحيث بات مستحيلا على الفئران رفع الباب بضغطة واحدة على المقبض، بل عليها أن تبذل في سبيل ذلك عدة ضغطات قد تصل أحيانا إلى أربع محاولات. ثم قرَّرت دونالدسون في المرحلة التالية أن تُضيِّق الخناق أكثر على الفئران بإخفاء شريكها من خلف الباب نهائيا، لتهدئة ركضها المحموم، وإرضاخها لمرحلة التقبُّل أو التسليم بحيث إذا حيل بين الكائن وهدفه فيجب ألا يُقضَى عليه بالموت. وكما نرى من خلال التجارب، فإن جُل اهتمام دونالدسون انصب على عنصر رئيسي من عناصر الحزن وهو اللوعة أو الشوق باعتباره دليلا غير مباشر لتقبُّل الخسارة الحتمية لهذا الشريك. يطرح كلُّ ذلك أمامنا تساؤلات عدَّة حول المشقة التي تتكبَّدها الفئران في سبيل الالتقاء بشركائها، أو الوقت الذي تستغرقه لبلوغ مرحلة التقبُّل أو التسليم بحقيقة فقدان شريكها، لكن دونالدسون وزملاؤها ما زالوا يجمعون البيانات لتقديم إجابات دقيقة وشافية. بيد أن هذه الإجابات ستختلف على الأرجح من فأر إلى آخر، فقد استمر أحدها في الضغط على المقبض لمدة ثلاث ساعات تقريبا إلى أن استسلم أحد زملاء دونالدسون وأنهى التجربة. في ضوء هذه التجارب، يبقى السؤال الأهم: ما الذي يحدث داخل أدمغة الفئران عند اتخاذ قرارات فصلها عن شركائها؟ لاستطلاع خبايا ما يدور برأسها، زرعت دونالدسون أجهزة استشعار داخل النواة المتكئة لفئران البراري (وهي منطقة مهمة بالمخ مسؤولة عن المكافآت بالدماغ البشري، فتنشط عند حصول الإنسان على الطعام أو المال أو المديح، كما أنها مرتبطة بالتعليم العاطفي لإدارة المشاعر ومرتبطة بالإدمان أيضا). فوضى الدوبامين إن النواة المتكئة هي أشبه بقطعة إسفنجية قادرة على امتصاص هرمونَيْ الأوكسيتوسين والدوبامين اللذين يُفرَزان أثناء التزاوج أو الاقتراب. وما إن تنشط النواة المتكئة حتى يرتفع مستوى الدوبامين فيها، وتبيَّن أنه هرمون له يد في تشفير الذكريات الجيدة المرتبطة بالمكافأة، ما يُحفِّز الفئران على اختبار مثل هذه التجربة الممتعة مرة أخرى. كما اتضح أن هذه المنطقة هي أحد أهم العوامل الرئيسية التي تكشف الاختلاف بين فئران البراري وأقاربها من فئران الحقول ذات العلاقات الغرامية المتعددة. ما يُثير الانتباه حقا أن فئران الحقول لا تتمتع في هذه المنطقة بالكثير من الخلايا المسؤولة عن استقبال هرمون الأوكسيتوسين، بينما يُظهِر البشر في الوقت ذاته نشاطا كبيرا في هذه المنطقة، خاصة أولئك الذين يعانون من انفصال حديث. فيما كشفت دراسة أخرى بالرنين المغناطيسي عن النشاط الاستثنائي للنواة المتكئة -بالأخص داخل أدمغة البشر الذين يعانون حزنا عميقا- بمجرد مشاهدة صور شركائهم السابقين. تقوم علاقات الحب في الأساس على مشاعر فياضة قوية مرتبطة بالذكريات، لكن ذاك لا يعني أن فئران الحقول أقل استمتاعا بالارتباط والتزاوج من فئران البراري، لكن الفرق هنا أن ذكرياتها مع شركائها لا تحمل النغمة الشاعرية نفسها، لأن أدمغتها ليست مُهيَّأة في الأساس لتلقي الإشارات الكيميائية المسؤولة عن ذلك. غالبا ما يصاحب الحزن الناجم عن الانفصال العاطفي شعور بالتوتر والاكتئاب، فضلا عن اللهفة والحنين إلى الطرف الآخر. ورغم الصعوبة التي تقتضيها دراسة هذه المشاعر على المخلوقات كافة، قرَّر بعض العلماء دراستها من خلال فئران البراري، ومن بينهم "أوليفر بوش"، الزميل السابق لدونالدسون. قرَّر بوش عزل نصف هذه الفئران عن شركائها، ثم جَمَع الفئران الذكور ببعض أشقائها وسرعان ما فرَّقهم عن بعضهم مرة أخرى. قرَّر بوش بعد ذلك تعريض الذكور إلى مِحَن مختلفة، منها على سبيل المثال إسقاطهم في أسطوانة شديدة الانحدار ممتلئة بالماء البارد، وهو ما يُسمى (باختبار السباحة القسري)، أو تعليقهم من ذيولهم بتثبيتهم بشريط لاصق على عصا مصنوعة من الألمونيوم مُعلَّقة داخل صندوق أسود (اختبار الذيل المُعَلَّق)، أو وضعهم أمام الأذرع الأربعة لمتاهة عالية مُصمَّمة على هيئة تقاطعات لتقييم استجاباتهم السلوكية، فهل سَتُطلِق الفئران العنان لنفسها وتنطلق في الممرات المفتوحة مدفوعة بطبيعتها الاستكشافية، أم ستنزوي على نفسها وتُفضِّل المكوث في الممرات المغلقة؟ خلصت الدراسة إلى أن الفئران التي انفصلت عن شركائها قسرا بذلت جهدا أقل في سبيل إنقاذ نفسها من الغرق أو الخروج من الصندوق الأسود، وبدت فاقدة للشغف ومستسلمة للأمر الواقع، على عكس رفاقها الذين حالفهم الحظ ولم ينفصلوا عن شركائهم. يُطلِق العلماء على ظاهرة الفتور واللا مبالاة هذه اسم "التأقلم السلبي"، فيما يعتقد الكثير منهم أن هذه الحالة أشبه بالاكتئاب، غير أن هذا الاعتقاد لا يزال مثيرا للجدل نوعا ما. بمرور الوقت، لاحظ القائمون على الدراسة ظهور سلوكيات مُقلقة على كلا الجنسين أثناء وجودهم في المتاهة. وفي ضوء أبحاث مماثلة، ظهرت أعراض مشابهة على الفئران التي مرَّت بمرحلة انفصال حديثة، حيث فضَّلت قضاء وقت أقل في الممرات المفتوحة والانزواء على نفسها معظم الوقت في الممرات المغلقة (بيد أن سلوكياتها أشبه بالقلق). لم يقتصر التغيير على سلوك الفئران فقط، وإنما امتد ليشمل آلياتها العصبية الكيميائية أيضا، وارتفعت إثر ذلك مستويات الكورتيكوستيرون في دمائها، وهو الهرمون المسؤول عن التوتر في الفئران. أما عند فصلها عن أقرانها من الذكور الآخرين، لم تظهر عليها أيٌّ من الأعراض السابقة (ما يعني أن الأعراض الظاهرة حدثت بالتحديد نتيجة الانفصال عن الحبيب أو شريك الحياة، وليس نتيجة العزلة الاجتماعية). كما اتضح أن حجم الغدد الكظرية المسؤولة عن إطلاق هذه الهرمونات يزداد في الفئران المسكونة بالتوتر، بيد أن توترها الشديد انعكس على سلوكياتها في الاختبارات. حينما قرَّر بوش وفريقه نقل التجربة إلى مستوى مُتقدِّم بإعطاء الفئران أدوية لمنع إفراز الهرمون المنشط للغدد الكظرية، لم تعد تظهر عليها أعراض الاكتئاب، ومضت في بذل جهود مشابهة لجهود رفاقها السعداء. وسيلة للعودة المثير للدهشة والتأمل في هذه التجارب حقا هي السبل التي سلكها جميع أدمغة الفئران بغض النظر عن وضعها مع شركائها، سواء عانت انفصالا أم لا. كشفت تجربة بوش عن أن أدمغة الفئران كلها لجأت إلى تصنيع أكثر من آلية مُوَلِّدة للضغط، على عكس الفئران التي لم تشارك في التجربة من الأساس ولم تلتقِ برفاق أو تنفصل عنهم. أثارت هذه النتيجة دهشة بوش وفريقه في البداية، لكنهم أدركوا فيما بعد أن هذه الآليات لا تعمل في الحقيقة على توليد الضغط عند الفئران العاشقة، وإنما تُمثِّل حيلة دفاعية سريعة ضد ألم حسرة القلب الذي يعقب الانفصال. فبقدر ما يؤلمنا الانفصال ويستنزفنا، لا يزال بإمكاننا التكيُّف معه ومع المأساة الرابضة في أعماقنا من خلال هذه الحيلة التي تدفعنا إلى الاتصال بشركائنا السابقين بعد مدة قصيرة من انفصالنا عنهم، أو تُحفِّز رغبتنا طوال الوقت للرجوع إليهم. تُحتِّم علينا طبيعتنا تقبُّل التبعات السلبية للحب كما نتقبَّل الحب نفسه. وذاك يذكِّرنا بمقولة الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو إن صناعة السفينة وتقبُّل حطامها في أي لحظة هما وجهان لعملة واحدة، أو على حد تعبير هيلين فيشر: "لا أحد ينجو من مرارة الحب." وبقدر ما يبدو الأمر قاسيا ومروِّعا، فإننا نستطيع أن نجد بين طياته ما يبعث على الراحة. لا يُخلَق الألم هكذا وحده دون أسباب واضحة، رغم أن شدته قد توحي لنا بذلك أحيانا، لكنك ستجد دائما أسبابا تُبرِّر ما يحدث معك. نُدرك في النهاية أن الارتباط أو الحب -أو سَمِّه ما شئت- يدب بجذوره في أعماقنا فيُغيِّرنا، ويُطوِّع أدمغتنا بطرق تزيد من حساسيتنا إزاء الأفراح والأتراح، يمنحنا شعورا بأن ثمة شيئا بحوزتنا قابل للخسارة في أي وقت. لذا فالوقوع في الحب أشبه بالوقوف مستسلما بلا حول ولا قوة أمام بندقية مُصَوَّبة نحوك.