لخمسة أيام متتالية، ظلت أبصارنا شاخصة أمام الشاشات نرقب محاولات إنقاذ ريان، واصلنا الليل بالنهار، نتابع الأخبار المتناسلة من عين المكان، هناك في جماعةتمروت، بإقليم شفشاون، شمال المغرب…تابعنا تفاصيل عملية الإنقاذ المعقدة وكلنا أمل أن يلحق فريق الإنقاذ الطفل قبل أن تفارق الروح جسده النحيف. وفي لحظة بلغت فيها القلوب الحناجر من شدة الترقب، أخرج فريق من الوقاية المدنية الطفل ريان فوضعوه على متن سيارة الإسعاف التي كانت تنتظره خارج النفق، استبشرنا خيرا للحظات قبل أن يأتينا خبر وفاته الصادم. فارق ريان الحياة ورحل عنا بعدما أعطانا درسا في الإنسانية، وبعد أن أحيى أسمى القيم النبيلة في النفوس. روت مأساة ريان عطشنا للإنسانية التي اعتقدنا أن نبعها قد جف، أعادت المعنى للإنسان ولقدسية الروح البشرية، فحجم التعاطف تخطى الحدود وبلغ مداه كل أقطار العالم، ومقدار التلاحم امتد من المحيط إلى الخليج، لم يعترف بالحدود الجغرافية، ولم يأبه لحسابات الساسة ومن يدور في فلكهم، فصار اسم ريان على كل الألسن، ودخل إلى قلوب كل الشعوب، ورفعت من أجله أكف الدعاء متضرعة إلى الله أن يحفظه في كل بيت وعلى منابر المساجد. هذا التضامن الانساني الكبير مع ريان وأسرته دليل صارخ على أن الإنسانية لا تزال بخير. جانب مشرق آخر من المأساة، رصعته سواعد فرق الإنقاذ، التي عملت جاهدة دون تعب ولا كلل من أجل إنقاذ ريان، سخرت السلطات كل ما تملك من وسائل وتقنيات وجندت فرقا متعددة التخصصات، تفانت جميعها في أداء الواجب ورسمت بذلك لوحة أمل وردية، تقول ملامحها أن غد الوطن سيكون أفضل. الأمل غذته شجاعة المتطوعين الأبطال، الذين بادرواإلى النزول إلى قعر البئرمن أجل إنقاذ الطفل وانتشاله من غياهبالموت، في مغامرة محفوفة بالمخاطر، فخاطروا بحياتهم وأبانوا عن حس تضامني رفيع، تماما كالذي أبان عليه "عمي علي" الذي جاء من الجنوب الشرقي للمغرب متخطيا مئات الكيلومترات، لبى نداء الإنسانية وهرع إلى وضع خبرته الحرفية في حفر الآبار رهن إشارة السلطات وفريق الإنقاذ،فاستعانوا به في عملية الحفر اليدوي، ليستمر البطل "عمي علي الصحراوي" لساعات طويلة في شق الصخور بأنامل محترفةبديعة.العزيمة والإصرار الذي أبان عنهما "عمي علي" جانب مشرق ومؤشر يزيد من منسوب الثقة في غد أفضل. صورة أخرى تجلت فيها قيم التضامن والتآزر في أبهى حلة، تلك التي كانت لنسوة القرية وهن منهمكات في إعداد الطعام، صورة جميلة تظهرهن مع طناجرهن الكبيرة، يطبخنلتوفير المأكل وإطعام أطقم الإنقاذ وعناصر السلطات المرابطة في الموقع…هي كذلك صورة غذت الأمل ورفعت منسوب الثقة في المستقبل. في الجانب الآخر للمأساة، مشاهد ووقائع تصيب الأمل في مقتل، وتضعف الثقة في غد أفضل، مشاهد كان "أبطالها" أولئك الذين لا تهمهم مآسي الناس إلا فيما يمكن أن تحققه لهم من أرباح، "مؤثرون" هرعوا إلى موقع الحادث لأخذ الصور وتصوير اللايفاتوالستوريات في استغلال فاضح للمأساة من أجل رفع عدد المشاهدات. وآخرون ينعتون أنفسهم بالإعلاميين، "صحافيو" المواقع الإخبارية الرخيصة،الذين تطفلوا على مهنة الصحافة فاستباحوها، فتجدهم يصنعون الأخبار عوض أن ينقلوها، يختلقون الإشاعات ويوصلون على المباشر أخبارا زائفة دون تدقيق ولا تمحيص، همهم الوحيد الرفع من عدد المشاهدات واللايكات، دون أدنى اعتبار لمشاعر الناس ولا لقيم الإعلام وأخلاقيات الصحافة. أظهرت المأساة كذلك جانبا مظلما قاتم السواد، تمثل في أولئك الأشخاص الذين وصل بهم الجشع إلى درجة استغلال الوضع في النصب والاحتيال، عبر الإعلان عن جمع تبرعات ودعوة المواطنين إلى التبرع لفائدة والد ريان،عبر حساب بنكي وهمي خاص بذلك، دون علم المعني بالأمر ولا موافقته…إنه البؤس في أقبح صوره وتجلياته. جانب آخر لا يقل قتامة عن سابقيهكشفته المأساة، تجلى في ذاك التجمهر غير المفهوم للمئات من البشر، متحلقين حول موقع الحفر، تحركهم غرائز التلصص البدائية والرغبة في تحويل المأساة إلى فرجة، يهتفون ويصرخون بعبارات شعبوية لا طائل منها، فشكلوا ضغطا رهيبا على طاقم الإنقاذ، عبر التشويش على تركيزهم فزادوا المهمة تعقيدا. رحل ريان، ذاك الملاك الصغير الذي اختاره الله ليكون بجواره، مأساته التي عايشناها بكل تفاصيلها المؤلمة كشفت جوانب مشرقة من حياتنا تبعث على التفاؤل وتزرع بذور أمل في مستقبل أفضل للوطن وللإنسانية جمعاء، مستقبل نحياه بتضامن وتآلف وتآزر، مستقبل يعمل فيه المواطن بصدق وتفان في خدمة الوطن، ويسارع إلى البذل والعطاء في سبيل الخير. وفي المقابل أزاحت المأساة اللثام عن جانب آخر حالك مظلم عنوانه البؤس واندحار القيم، كله جشع واستغلال، ومتاجرة في مآسي الناس وتلاعب بمشاعرهم، المنتعشون في سواد هذا الظلام يغتالون الأمل في النفوس ويؤخرون حلمنا المشروع في غد أفضل لهذا الوطن.