يَحدُث أن يجد السادة الأساتذة في مختلف الأسلاك أنفسهم ومهنتهم الشريفة عرضة للنقاشات وردود الأفعال واختلاف المقاربات والنقد المزدوج والتبخيس، ومن ينتصر لهم ومن يندّد بهم ومن لا يرى لهم قيمة ومن يجد فيهم كل الاعتبار للحاضر والمستقبل.. ويحدث هذا أكثر كلما صُعِق القطاع بالإصلاحات الترقيعية منزوعة التطلعات المستقبلية والانتظام في خط روح العصر، وتتالى على الوزارة أشخاص تكلِّف سياساتهم الكثير لاستدراكِ أخطائها. والناظر لتاريخ التعليم بالمغرب منذ اللجنة الملكية لإصلاح التعليم سنة 1957 سيقطع الظن باليقين أنه لم تتمكن الأحزاب التي توالت على تدبير وتسيير القطاع ولا حتى الوزراء التقنقراطيين من إصلاحٍ ناجع وفعال ومستمِر في الزمن.. وبقيَ السؤال المحيّر: لماذا أخفقنا في الإصلاح؟ تابعنا مقالاتٍ وحوارات وتدوينات بشأن الإجراءات الجديدة في ميدان التعليم، بين مُؤاخذٍ وموافِق ومتحفّظ وشاكٍّ وعدَمي، واستطعنا الالتقاء على فكرة غياب مشروع إصلاح حقيقي للقطاع، بل إن الإجراءات تبدو بفُجائيتها ومقاربتها الأمنية مفتولة العضلات، أشْرَد عن معنى وهدف "الإصلاح المنشود". ذهبت بعض الكتابات والردود إلى القول بأهمية الإصلاحات وجَراءتها، وأنها رغم قساوتها فإنها خير للمغرب ولأبناء المغاربة، وحاولت استدعاء بعض التجارب من آسيا وأوربا وأمريكا، التي ما فتئت تؤكّد على نجاعة الإصلاحات العمومية ومتعلّقاتها في ميدان التعليم، ولكن ما غاب أو غيّبته تلك النقاشات والكتابات المتفائلة جدا، الكلام عن الأساس الثقافي والمجتمعي للإصلاح. لا يمكن الحديث عن إصلاح قطاع إستراتيجي ذي ترابطات مع البنيات الاجتماعية والمناخ الثقافي والإرث التاريخي والنموذج النفسي للمغاربة والحالة السياسية والدينية، برغبةِ جَعْله – فِعْلا – قاطرة التقدم والنهضة والجودة والارتقاء، بإجراءات استعجالية فجائية بيروقراطية "تُدبَّر بِليلٍ" وتصيرُ ملزِمة "نهارا" كأنها وثيقة مجتمعية أو دستور، (قلت) لا يمكن ذلك؛ والناس ما تزال ترى وتَلمس تناقضات هائلة في الاجتماع والسياسة، وتعيش على إيقاع فوارق كبيرة في نمط العيش ومستوى الدخل ومؤشرات التنمية والاستفادة من خيرات الوطن.. لا يمكن ذلك والفساد يُزدكم الأنوف في قطاع التعليم والصحة وفي سائر المجالات إلا مَن رحم الله ووطّن نفسه على الصدق والوطنية والنزاهة والمعقول.. لا يمكن ذلك؛ لأنّ الإصلاحات تقتضي تأسيسات "قاعدية" أيْ، سوابِق إصلاح ثقافي ومجتمعي وسياسي، ليأتيَ التعليم ابناً شرعيا لسياقات متحفّزة للنهوض والارتقاء. قد يُطرح سؤال هاهنا: ألا ينبني الأساس الثقافي للإصلاح العام على العلم والتعليم؟ نعم، دون شك. دعونا ننظر في الحالة المجتمعية العامة في أورپا مثلا، سنرى أفراداً _ يزيدون وينقصون حسب الوضع المتقدم لكل بلد _ راشدين وصغارا وكبارا، حياتهم قائمة على الاحترام والأخلاق وحُسن التعامل في المجال العام والانضباط المهني واحترام الوقت وتقديس العمل والعناية بنظافة البيت والشارع والمدرسة والجامعة، والدقة في إدارة الأولويات، والتمتع بالحياة؛ سفرا وسياحةً واكتسابا وإنفاقاً، والإقبال على المطالعة الحرة، وصيانة الممتلكات العامة، واحترام القانون.. فيما تؤدي الدولة والكيانات السياسية واجباتها تجاه المواطنين، وتحكم بالعدل _ إلا خارج ترابها _، وتحترم الدستور والقوانين الجاري بها العمل، وتحسِّن من مداخيل الموظفين والأجراء من فترة لأخرى، وغيرها من الأمور التي أرساها العقد الاجتماعي وخمسة قرون من النهضة الأوربية والثورة الفرنسية والصناعية وصولا إلى الحداثة.. يلتقي في هذه الأخلاق والمواصفات؛ العالِم والطبيب والمحامي والفنان والعامل والتاجر والطالب والحلّاق وأرباب المعامل وسائقو سيارات الأجرة.. إذن؛ مَن أسهم في صناعة معايير الحد الأدنى ومعايير الإتقان في الحياة الفردية والعامة للأورپين سواء أتخرَّج أحدهم من الجامعة أم لم يصِلها سَيّان؟ الأساس الثقافي والمجتمعي للأمّة ومكتسبات قرونٍ من التحضير والإعداد والتجريب والإجراءات والإصلاحات؟ أم التعليم الذي بَنى على ذلك كله؟ ألم يأتِ التعليم قاطفاً ثمرات جهود من الاستعداد والعمل والتضحيات والموازنة بين الحقوق والواجبات، ومبشِّرا بمجتمعات جديدة؟ ألم يبنِ على ما سبق، فطوّر وحدَّث ومدَّنَ حتى أزْهَرَت مخرَجاتُه؟ هل يمكن للمذكّرات الوزارية وللقرارات التي نعلم يقينا أنها قد "تُجمَّد" ما إنْ يخْلُف برنامج حكومي لأحزاب أخرى البرنامج الحكومي الحالي هذا إنْ سلَّمنا بأنها إصلاحاتٌ وليدةُ برنامج الأحزاب الثلاثة! أن تسهم إجمالا في إصلاح القطاع، إسهاما فعالا لا نحتاج معه للاستدراك والتخبط مرة أخرى؟ هل المجتمع والثقافة متأخرَينِ عن ركب التعليم؟ هل حقّا تساهم الكفاءة وحدَها ونقاط الامتياز في إعداد جيلٍ مواطن صالح نافع رافعٍ لمجدِ الوطن؟ ألا يُعتَبر وجود الفساد والرشوة والتلاعب في الميزانيات وسوء احترام الوقت وضعف الشفافية وانفصام العلم عن القِيم وشراء المناصب وإلقاء النفايات والقمامات على قارعة الطرقات وانتشار المخدرات والسباب في أزقة بعض المدن وغَبْن الزوار الأجانب في البيع والشراء ومشاكل الأراضي والعقار والغشُّ في السِّلَع وفي الانتخابات وفشل الإعلام في التعريف بمفاخر المغرب الأقصى وشيوع الكذب ومظاهر الانحراف في بعض المدارس والتحرش الجنسي مقابل النقاط والنجاح والتسيب الوظيفي… مِن التجليات الكبرى لفشل منظومة التربية والتعليم؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار صدور هاته الآفات من أشخاص متعلمين وذوو شواهد جامعية عليا! التربية والتعليم حقا هما كل شيء، وعليهما يُبنى كل شيء، ولا نخال أنفسنا نعارض إصلاحا يبتغي حقّا النهوض بالوطن الغالي الذي نحبه ونَفنى في الإعجاب بماضيه التليد ومفاخره المجيدة، ونتمنى ريادته بين الأمم.. ولكن أصدِقونا القول والعمل، نصدُقكم المسير نحو مصير مشتَرَك.