يمثل قيس سعيد حالة نشاز بين رؤساء دول العالم العربي تستعصي فعلا على التوصيف،فالرجل مثير للجدل على أكثر من صعيد:صعوده المفاجئ الذي تبين فيما بعد أنه كان مجرد انتقام للشعب من الطبقة السياسية المائعة غير المجدية ،طريقته في الحكم التي بقيت وفية لمخاصمتها لنفس هذه الطبقة العابرة لكل العهدات الرئاسية بتونس،و تأويلاته للدستور التي جعلته يستولي او يجمع بين يديه كل السلط، فهو الرئيس الإشكالي الذي يعكس في تقييمك لأدائه الزاوية الايديولوجية التي تتمترس بها أنت وتنظر منها إليه ،وهكذا هو في عيون بعض المحللين والمتابعين للشأن التونسي والعربي الرئيس الذي لازال ينتصر للربيع العربي ،فقد أعاد من خلال قراراته الاستثنائية الاخيرة الكلمة مرة اخرى للجماهير الغاضبة من تردي الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، خصوصا وقد تبين للجميع نزق الأحزاب واستخفافها بأحلام الناس التي عرضوا من اجلها صدورهم للرصاص والبطش أيام الرئيس الأسبق بنعلي،لكنه يظل بالمقابل في رأي آخرين مجرد متآمر يعيد عقارب الربيع العربي الى الوراء،يجهض كل المكتسبات التي تحصل عليها التونسيون من ثورة الياسمين، مجرد قائد شعبوي يتقن تفخيم الألفاظ وتنميقها،يبيع الأوهام للعامة التي لاتقدر بعفويتها وضعف تكوينها السياسي وثقل المعاناة التي تكابدها المآسي التي يمكن أن يتسبب فيها الحكم الفردي العاض. فهل قيس سعيد ديكتاتور ام مخلص؟؟.إنه السؤال الذي لم يتم حسمه بعد،والذي سيجيب عنه تطور الأحداث ببلد الزيتونة ، و طبيعة النتائج التي ستتمخض عن الحراك الفريد لهذا الرئيس الذي يقدم نفسه كما لوكان رئيسا قد سافر عبر الزمن من عهد الخلفاء الراشدين.فالتونسيون سيحكمون في النهاية له أو عليه انطلاقا مما سيتحقق لهم من مكاسب، او مما سيجنونه من خيبات إضافية على أرض الواقع ، ذلك أن الديمقراطية ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لتحقيق سعادة الشعوب، هي بالتالي مؤسسات ،وانتخابات، وبرلمان وحكومة ينصبها النواب،ولكنها أيضا أخلاق، وتدافع شريف، وروح تسري في اوصال هذه المؤسسات، و هي بالخصوص خبز وشغل وترفيه وامن. هذه هي المعادلة التي تشقى وتكد من اجلها تونس هذه الأيام وتتوجع امام أنظار العالم. قوة قيس سعيد السياسية أنه يأخذ خصومه السياسيين بعد أن يقيم عليهم الحجة،ولذلك هو لايتوانى عن مهاجمتهم دفعة واحدة،صبر على البرلمان حتى عيل صبر الشعب، فضرب ضربته في التوقيت المناسب حين كان التونسيون في اوج حنقهم وغضبهم من النواب، و في ذروة تقززهم من مشاحنات عبير موسي والغنوشي،وفي قمة يأسهم من الحكومات التي يعين الرئيس رأسها ليستقطبه بعد ذلك الإسلاميون وينتزعوه منه وذلك منذ الرئيس الباجي السبسي. تونس تكاد تتحول إلى بلاد فاشلة،وثورتها كفت أن تعطي الدروس للآخرين بسبب البرلمان المائع المنفلت ،تونس قد انهكها تنابز السياسيين، وتهافتهم على الغنائم ،واتعبها كثيرا الوباء بتداعياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية.تنظر تونس في واقع حالها،فتكتشف أنها لم تجن شيئا يذكر من الثورة ومن الديمقراطية ومن الأحزاب، تنتظر تونس ماشاء لها الله ان تنتظر،ولكن النواب سادرون في غيهم وتهتكهم، تلتفت حواليها، فتجد أن الإسلام السياسي قد قضى نحبه في كل البلاد العربية التي جعلت من تونس مثالا يحتذى، بينما هو لازال فاعلا في معادلة الصراع الدائر فيها، ثم ترجع النظر مرة أخرى في هذا العالم الذي يعقب كورونا،فتجد أن الدول المركزية هي الدول التي استطاعت أن تقاوم عدوان كوفيد19 بكل جلد ونجاعة. وتتبن أن الدول السفسطائية هي تلك التي فتكت بها الجائحة ومن ضمنها كاننت تونس. قيس سعيد هذا الرئيس المحافظ و الثوري في نفس الان ، التقليدي والحداثي معا،الغارف من القاموس الاسلامي للعمرين ، والكاره في نفس الحين للإسلاميين، يعرف بحاسة استاذ القانون الدستوري أن النظام البرلماني قد بلغ مداه في تونس،وان الأوان قد أزف لاستبداله بنظام رئاسي يحكم فيه الرئيس ويسود. هو بحسب النوايا التي يشهرها مخلص لتونس،من هذه المؤسسات التي تتلاعب بالديمقراطية وتحولها إلى قيمة بلامضمون،ومن هذا النظام البرلماني الذي هو في الحقيقة لايعكس النظام الأصلح لهذا البلد العربي الفارق في المشاكل المزمنة،وإنما يعكس العقدة النفسية التي كانت للتونسيين من نظام بنعلي الاستبدادي،تونس الان على موعد مع إصلاح بعض مخرجات الثورة.وعلى هذا الصعيد يكون قيس سعيد هو المخلص الذي ساقه الله والانتخابات أيضا لاجل تحقيق هذا المطلب العصي من خلال دستور جديد يطرحه للاستفتاء الشعبي. لا عيب في نظام رئاسي لتونس، فهذه هي الصيغة الدستورية التي تقبل عليها الآن كل دول العالم الديمقراطية، النجاح في محاربة كورونا لا يمر حتما عبر طريق صراع الرئاسات، النظام الرئاسي يضمن الاستمرارية والفعالية ويحيد البرلمانات الفاشلة التي لاتؤثر انذاك بفشلها على الحياة اليومية للمواطنين، لأن للدولة آنذاك رئيس وحكومة منسجمان يقضيان لها مصالحها ومآربها ويدفعان عنها غائلة الوباء، في انتظار أن تصلح الديمقراطية اعطايها. لكن الخوف كل الخوف، أن يكون قيس سعيد قد عطل هذا النظام البرلماني المحتضر وأجهز عليه،ويتأخر في الإشراف على ولادة نظام رئاسي بديل يكون في مستوى تحديات الحالة التونسية، قيس سعيد لحدود اليوم مخلص في نظر الكثيرين ،لكنه يمكن أن يتحول إلى ديكتاتور إذا استمرأ هذا الوضع الانتقالي، واستهواه التفاف العامة العاطفي من حوله، عليه إذن أن يحدد آجالا معقولة لاستفتاء الشعب حول الجمهورية الجديدة التي يتطلع لها التونسيون،وبعد ذلك أن يعيد بعث الحياة السياسية من خلال انتخابات وحياة حزبية ملتزمة،فأن يفعل ذلك من تلقاء نفسه، خير له ولتونس من أن يفعله تحت ضغط دولي. أنا متفائل جدا،وظن أن الحالة التونسية مختلفة بشكل كبير عن باقي الحالات التي تبدوشبيهة بها بالعالم العربي،لأن قيس سعيد ليس عسكريا،كما أن العسكر حافظ دائما بتونس على مبدأ ابتعاده عن السلطة،ولذلك ما قام به قيس سعيد ليس انقلابا ولا نصف انقلاب،انما هو تجرع لأمر الدواء لأجل شفاء تونس من أسقامها السياسية والاقتصادية،.الحياة البرلمانية ستعود لتونس قريبا،لكنها ستعود بحلة جديدة وبإهاب جديد في إطار نظام رئاسي فاعل يكون فيه كل السياسيين قد استوعبوا الدروس الواجبة .