مع انطلاق الموسم الدراسي لهذه السنة، شهدت حركة الإعاقة ببلادنا محطة مفصلية من الحراك الحقوقي ويتعلق الأمر بحركة الأشخاص المعاقين بصريا وأسرهم بسبب النقاش الذي اعقب مصادرة حق مجموعة من التلامذة والتلميذات ذوي القصور البصري في متابعة مصارهم الدراسي بالمعاهد التربوية التابعة للمنظمة العلوية لرعاية المكفوفين باعتبارها جمعية ذات منفعة عامة أسندت لها منذ تأسيسها يوم 3 مارس 1968 مهمة تعليم الأطفال من ذوي القصور البصري. إلا أن الجهات القائمة على تدبير شؤون هذه المعاهد ببعض المدن كما هو الحال بمعهد أبي العباس السبتي بمدينة مراكش ومعهد سيدي الصايل بمدينة آسفي، رفضت تسجيل التلامذة والتلميذات الذين واللواتي اجتازوا بنجاح الامتحانات الإشهادية للسلك الابتدائي والاعدادي بدعوة أن المغرب اصبح يعتمد البرنامج الوطني للتربية الدامجة وعليه يجب على هؤلاء اليافعين الإلتحاق بالمدارس النظامية الأقرب إلى محل سكناهم لمتابعة مسار التحصيل العلمي في فصول دامجة إلى جانب اقرانهم من غير المعاقين. في مقابل ذلك، رفضت أغلب المدارس النظامية استقبال هؤلاء المتمدرسين بدعوة أن بنيات الاستقبال غير مؤهلة لاحتظان الأشخاص ذوي القصور البصري، ولا تتوفر على الوسائل الديداكتيكية الملائمة للاستجابة إلى حاجيات هؤلاء الأطفال، علاوة على أن الأطر التربوية لا تمتلك المهارات الخاصة بتعليم الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر، وأخيرا هناك معاهد المنظمة العلوية المسؤولة ليس فقط على تعليمهم وإنما الوصية على تدبير كل شؤون هؤلاء المواطنين والمواطنات كما هو متداول في المخيال الشعبي المغربي. أما في الحالات التي تمكن فيها آباء وأولياء التلامذة والتلميذات من تسجيل أبنائهم في المدارس النظامية، فيبدو أن التجربة كانت فاشلة بجميع المقاييس، إذ وجدت الأسر نفسها وحيدة في مواجهة المعيقات الإدارية وتحمل الكلفة الإضافية المالية والنفسية والاجتماعية المترتبة عن هذه الوضعية واضطر التلامذة والتلميذات إلى تكرار السنة الدراسية بسبب صعوبة الحصول على المقررات المدرسية بسيغ بديلة إما خط براي او النسخ الرقمية، وهناك من كان عرضة للتنمر من طرف الأقران غير المعاقين، بل وهناك من كان عرضة للمقايضة من طرف أقرانهم في الحصول على النسخ المسموعة للدروس. ناهيك عن عدم تكييف أوراق وزمن الامتحانات كما هو الحال بالنسبة لباقي الإعاقات الذهنية. كل هذه الأوضاع دفعت عدد من الفاعلين المكفوفين وضعاف البصر ومناصريهم بمختلف جهات المغرب إلى إطلاق حركة احتجاجية عفوية في مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن تخرج للعلن في شكل وقفات احتجاجية سواء أمام مقرات المعاهد الخاصة او أمام مقرات الأكاديميات الجهوية للتربية الوطنية كما حدث يوم الجمعة 15 أكتوبر الماضي بمدينة الدارالبيضاء. ويبدو أن إدارة الاكاديمية الجهوية بالدارالبيضاءسطات كما يشير بلاغها في النسخة الرقمية المنشورة على منصة يوتوب اساءت فهم الدوافع التي كانت وراء تنظيم هذا الشكل الاحتجاجي العفوي. إذ تشير السيدة المديرة الإقليمية للتربية الوطنية بأنفا أن السبب وراء تنظيم الوقفة هو تخوف المشاركين في الوقفة من الدمج المدرسي الذي تعمل بلادنا على تنزيله في إطار ما يعرف بالبرنامج الوطني للتربية الدامجة لفائدة الأشخاص المعاقين. بمعنى آخر يمكن فهم هذا الكلام على أن المشاركين والمشاركات في الوقفة يريدون الإبقاء على الوضع الراهن المتمثلة في متابعة مسيرة التحصيل العلمي بالمعاهد الخاصة التابعة لأحدى الجمعيات ويرفضون في المقابل الانتقال إلى المدارس النظامية الموجودة تحت إشراف السلطات العمومية وكتحصيل حاصل فهم يفضلون حياة الغيطوهات ويرفضون العيش داخل المجتمع. والحال أن سبب تنظيم هذه الوقفات حسب الإعلان الذي تداوله عدد من الناشطين المدنيين على فايسبوك وحسب الاتجاه العام الذي أخذه النقاش داخل مجموعات واتساب هو رفض التنزيل العشوائي واللامسؤول لبرنامج التربية الدامجة في ما يتعلق بالاشخاص ذوي الإعاقة البصرية لذلك ارتفعت بعض الأصوات مطالبة بالإبقاء على المراكزالخاصة مفتوحة أمام المتعلمين المكفوفين وضعاف البصر. ويلاحظ أن تعليم الأشخاص المعاقين بصريا ظل منذ عقود خارج اهتمامات مؤسسات الدولة. فمنذ إطلاق سياسة الأقسام المدمجة التي ظهرت مع اعتماد الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000-2013 تنفيدا لخطة الأممالمتحدة )التربية للجميع 2000-2015( ، لم تعمل الوزارة الوصية على استشارة ذوي المصلحة كالأطر التربوية ذوي الخبرة في تعليم الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر، أو جمعيات آباء وأولياء التلامذة والتلميذات. كما يبدو أن مصالح وزارة التربية الوطنية لم تعمل على مواكبة هؤلاء المتمدرسين وأسرهم في مسلسل الإلتحاق بالمؤسسات التعليمية النظامية. ويبدو أن ضعف اهتمام وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بفتح قنوات التواصل مع المهتمين بتعليم الأشخاص المعاقين بصريا من أطر تربوية وجمعيات الآباء بل وحتى التنظيمات المدنية العاملة في مجال التربية والتكوين واقتصارها على تنظيم لقاءات موسمية مع بعض الجهات على المستوى المركزي ، هو ما جعلنا اليوم نشهد تباينا كبير في مواقف مكونات هذه الحركة الاحتجاجية على الرغم من الاتجاه العام الرافض لمنهجية المعتمدة في تنزيل البرنامج الوطني للتربية الدامجة. ويمكن تصنيف هذه المواقف إلى ثلاث فئات. الموقف الأول: وهو الموقف الرافض للتربية الدامجة والمطالبة بالإبقاء على المعاهد الخاصة في جميع المستويات التعليمية باستثناء التعليم العالي بسبب خصوصية الإعاقة البصرية التي لا تسمح في نظر أصحاب هذا الموقف للمتمدرسين المكفوفين بمتابعة الدراسة مع أقرانهم غير المكفوفين. ويطالب أصحاب هذا الموقف أن تصبح كل معاهد التربية الخاصة الموجهة للأشخاص المعاقين بصريا تحت الإشراف المباشر لوزارة التربية الوطنية على غرار باقي مؤسسات التربية النظامية، ويقوم هذا الرفض على مجموعة من العوامل نذكر منها: غياب البرامج التربوية بصيغ بديلة داخل المؤسسات النظامية (خط براي والصيغ الرقمية)، أطر تربوية غير مؤهلة للتفاعل مع المتمدرسين ذوي القصور البصري، انعدام تكافء الفرص في الولوج للمتن التربوية، غياب تام للتصميم الشامل والترتيبات التيسيرية المعمارية الخاصة بالإعاقة البصرية بمعظم المدارس النظامية مما يحول دون التنقل باستقلالية داخل هذه المؤسسات، التنمر من طرف الأقران غير المعاقين. ويستند أصحاب هذا الموقف على تجاربهم الشخصية مع التمييز والمواقف الواصمة خارج معاهد المنظمة العلوية ومساراتهم الشخصية في مرحلة التعليم العالي، كما أنهم يدافعون على مطالبتهم بالإبقاء على المعاهد الخاصة بتجارب بعض الدول أخرى والتي تعتمد مقاربة تزاوج بين مراكز التربية الخاصة والتربية الدامجة فرنسا، الولاياتالمتحدة، اسبانيا. ويتغذى هذا الموقف كذلك من الاعتقاد بعدم قدرة الدولة المغربية على توفير الشروط المناسبة لتحقيق التربية الدامجة. ويبدو أن هذا الاعتقاد يجد تبريره في التباين الحاصل بين واضعي السياسات العمومية والأشخاص المعاقين ومنظماتهم في فهم جذور وأسباب الإعاقة كمشكلة اجتماعية. فعلى الرغم من التحول الحصل في خطاب صناع السياسات العمومية الذي ينهل من منظومة حقوق الإنسان وإلتزامات المغرب مع المنتظم الدولي، يبدو أن هذا الفاعل يبقى عاجزا على إدراك التحول في فهم مشكل الإعاقة الذي يؤسس له النمودج الاجتماعي المبني على حقوق الإنسان.. فالإعاقة من وجهة نظر حقوق الإنسان هي في نهاية المطاف الحرمان المنهجي لمجموعة من المواطنين والمواطنات الذين لديهم قصورا جسديا من مختلف الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية بسبب المعيقات الاجتماعية والبنيوية التي تؤثر على حظوظ المشاركة في حياة الجماعة عند إلتقائها مع أحد أصناف الإعاقة إما حركية او حسية أو ذهنية سلوكية. وسواء كان هذا الحرمان إراديا أو غير إراديا، فيكون على مؤسسات الدولة والمجتمع وضع مجموعة من التدابير لضمان المساواة وتكافئ الفرص لجميع الأفراد بما في ذلك تدابير تعويضية. الموقف الثاني: يطالب أصحا هذا الموقف بالإبقاء على المعاهد الخاصة في المستوى الابتدائي والاعدادي لنقل المعارف بصيغ تراعي طبيعة القصور البصري وكذا تعزيز المهارات الحياتية للتعايش مع الإعاقة البصرية من قبيل استعمال العصى البيضاء والقدرة على التحرك في الفضاء الخارجي باستقلالية، ثم الدمج في المستوى الثانوي على شاكلة تجربة مدينة مراكش. كما ينادي أصحاب هذا الموقف إلى ضمان توفير شورط الحياة الكريمة من إيواء وإطعام داخل مؤسسات الرعاية الاجتماعية للتلامذة والتلميذات بالسلك الثانوي الذين ينحذرون من مناطق نائية. ويقترح أصحاب هذا الموقف كذلك بالاحتفاظ بالمعاهد الخاصة لاستقبال الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية العميقة أو الإعاقات المركبة. الموقف الثالث: يقوم هذا الموقف على اعتماد التربية الدامجة المبنية على منظومة حقوق الإنسان الكونية. ويرى هؤلاء أن تعليم الأشخاص المعاقين بما فيهم ذوي القصور البصري مسؤولية الدولة. كما يجب على الدولة فتح المدارس النظامية أمام كل المواطنين والمواطنات على اختلاف وضعياتهم وهوياتهم الاجتماعية. ومن أجل تحقيق المدرسة لرسالتها يطالب أصحاب هذا الموقف بضمان الشروط التالية: 1.توفير البرامج التربوية بسيغ بديلة تراعي حاجيات كل الأشخاص ذوي الإعاقة على اختلاف اصنافها؛ تكوين الأطر التربوية في مناهج تنزيل التربية الدامجة، وتكوين مرافقين الحياة المدرسية في مواكبة كل أصناف الإعاقات، توفير الأدوات البديلة (حواسيب ومعدات تقنية تستجيب لكل الإعاقات دون تمييز، إذكاء الوعي داخل وخارج المؤسسات التربوية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ومناهضة التمييز المبني على الإعاقة. ويمكن القول في الختام أن الخلاف الذي تدور رحاه اليوم بين الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر حول تنزيل البرنامج الوطني للتربية الدامجة ليست إلى الشجرة التي تخفي الغابة. إذ يكاد يجمع كل الفاعلين في حقل التربية الدامجة على وجود خلل هيكلي في المقاربة المعتمدة في تحقيق الدمج المدرسي. وبينما يشير كل من الدكتور سعيد الحنصلي والدكتور أيت براهيم في أحد الدراسات الأخيرة أن سبب هذا الخلل يكمن في عدم قدرة مختلف المتدخلين على ملاءمة الأسس النظرية والتطبيقية لفلسفة الدمج مع السياق المغربي في ما يرتبط بالتعليم وبباقي مجالات الحياة. وفي اعتقادي يبدو أن جذور هذا الاختلال في ملاءمة مفهمة الدمج مع السياق المغربي يرجع بالأساس إلى استمرار هيمنة التصورات التقليدية السائدة حول الإعاقة حتى داخل الحقول المعرفية بالعلوم الاجتماعية في المغرب. فمن خلال القراءة في مثن معظم الدراسات التي تناولت أوضاع الأشخاص ذوي الإعاقة، يمكن القول أنها وعلى الرغم من اختلاف أسسها النظرية، مازالت تنظر إلى الإعاقة باعتبارها إما حالة مرضية )Pathology( او انحرافا اجتماعيا )Deviance social(يجب تقويمه. وتكمن مهمة هذا التصور الطبي المعيق في ضمان استمرار النظم الاجتماعية السائدة في أداء وظائفها كاملة والحفاظ على الوضع القائم. وهو ما جعل أغلب الدارسين لظاهرة الإعاقة بالمغرب غير قادرين على تفكيك معاني مأسسة تجارب الأشخاص المعاقين بصريا وعزلهم داخل أطر معيارية واجتماعية تكرس الوصم أكثر مما تضمن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. ولعل اسناد تعليم الأشخاص المعاقين بصريا إلى مؤسسة خيرية وسن قانون الرعاية الاجتماعية للمكفوفين وضعاف البصر سنة واحدة بعد تسمية 1981 كسنة دولية للأشخاص المعاقين مؤشرين اثنين على السيرورات التاريخية المكرسة للتمييز. وهو ما يمكن ملاحظته في ما افترض أنه نزوعا جماعيا نحول العزلة في خطاب عدد كبير من الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر لاسيما عند مطالبة فئة عريضة منهم وخصوصا الأطر التربوية بالمعاهد الخاصة بالحفاظ على هذه المراكز بسبب خصوصية الإعاقة البصرية. كما يمكن القول أيضا أن هيمنة التصور التقليدي المبني على اعتبار الإعاقة انحرافا اجتماعيا ربما يساهم في استمرار تجاهل الباحثين للعوامل التي تجعل معظم التنظيمات المدنية العاملة في حقل الإعاقة البصرية عاجزة لعقود طويلة على التموقع داخل حركة الإعاقة بالمغرب وفرز قيادات قادرة على تقديم نفسها كشريك مدني إلى جانب الزعامات التقليدية التي تحتضنها المكاتب المسيرة للمنظمة العلوية للمكفوفين وضعاف البصر. فلذلك، اعتقد أن الباحثين في العلوم الاجتماعية مدعوون إلى استثمار أطر نظرية ومنهجية بديلة لفهم واقع الإعاقة البصرية بالمغرب. واعتقد أن فهم الإعاقة كاضطهاد اجتماعي قد يشكل أحد أبرز هذه الأطر المفاهيمية حيث لم تعد الإعاقة انحرافا اجتماعيا وإنما تحيل حسب الباحثة الإنجليزية كارول طوماس إلى المعيقات الإضافية avoidable ristrictions المفروضة اجتماعيا على الأنشطة الحياتية وطموحات والرفاه الاجتماعي والنفسي للأشخاص الذين يعانون- في نظر من يعتبرون أنفسهم عاديين او أسوياء- من الإعاقة. فالإعاقة هنا هي ذات بعد علائقي وتمثل أحد أشكال الاضطهاد الاجتماعي )social oppression( في المجتمعات الحديثة إلى جانب الميز العنصري )racism( او التمييز المبني على النوع الاجتماعي )sexism(. وقد يتجلى هذا التمييز ليس فحسب في التفاعلات البينفردية وإنما يأخذ أشكال مؤسساتية وبنيوية. فهذه الأطر النظرية البديلة تمكننا من فهم وإعادة تأويل التجارب المعيشية للأشخاص ذوي الإعاقة مع المواقف والممارسات الاجتماعية والثقافية والأطر المعيارية المعيقة في شتى المجالات بما فيها حقل التربية والتعليم، وعليه يمكننا التساؤل عن العوامل التي جعلت تعليم الأطفال المكفوفين وضعاف البصر دون غيرهم من الأشخاص ذوي الإعاقات على مختلف أصنافها يظل خارج اهتمامات وزارة التربية الوطنية وخارج انشغالات منظمات المجتمع المدني اللهم بعض محاولات البريكولاج البيداغوجي الهاوي. * منير خير الله / باحث في سلك الدكتوراه