في ظل النقاش السياسي الذي ساد في الحقل السياسي والانتخابي بالمغرب بعد الحملات الانتخابية للغرف المهنية، وفي ظل التحضير للاستحقاقات الانتخابية ل 08 شتنبر 2021 التي ستجرى على إثرها الانتخابات الجماعية والجهوية والتشريعية، سرُف الحديث من قبل الفاعلين السياسيين عن ما يعرف بالبرامج الانتخابية، التي تعتبر تعاقدا انتخايبا ما بين عامة الجمهور من المصوتين وبين الكتلة المترشحة من المنتخبين. وأمام كثرة الإلتزامات التي قدمتها الأحزاب السياسية، في ظل احتدام الصراع السياسي ما بين مجموع الفاعلين، لوحظ تقديم الأحزاب في برامجها الانتخابية لمجموعة من الإلتزمات، وحيث إن العلاقة التي تجمع ما بين الناخب والمنتخب تتأسس على الإلتزام بتنفيذ الإلتزمات المعبر عنها في البرامج الانتخابية، وحيث إن التصويت على مرشح حزب معين، يعني تأسُس علاقة سياسية أخلاقية تقتضي تنفيذ الإلتزام الذي تأسس عليه العقد، والمحدد في التصويت على الحزب أو المرشح الذي قدمه الحزب. وفي ضوء تراكمات الدرس القانوني، توقفنا عند حدود امتداد الالتزامات التي تقدمها الأحزاب السياسية، وتساءلنا عن مدى إمكانية دراستها في ضوء نظرية الإلتزام. ومما لا شك فيه، فإن كلمة الالتزام في القانون المدني، تطلق للدلالة على الحق الشخصي ويسمى حق إذا تم النظر إليه من جهة الدائن، في حين يسمى التزاما إذا نظر إليه من جهة المدين، ومن تم فالحق الشخصي ما هو إلا عبارة عن رابطة بين شخصين أحدهما دائن و الآخر مدين، وبمقتضى هذه الرابطة يحق للدائن مطالبة المدين بالقيام بعمل ما أو الامتناع عنه، أو إعطائه شيئا معينا (بتصرف نقلا عن مها دحام). يتأسس على نظرية الالتزام مجموعة من الروابط، رابطة قانونية؛ باعتبارها قيدا على إرادة المدين وحريته، وينقسم بذلك الالتزام إلى الدين وهو الواجب القانوني الذي ينبغي على المدين الوفاء به للدائن، والمسؤولية العقدية أو عنصر الإجبار الذي يقوم في حالة عدم الوفاء بالالتزام من قبل المدين. كما تتأسس الرابطة الشخصية التي تميز الحق الشخصي عن الحق العيني، فالحق الشخصي رابطة بين شخصين هما الدائن والمدين، ويترتب عليها أن صاحب الحق وهو الدائن، لا يستطيع الحصول على حقه إلا بتدخل الطرف الآخر وهو المدين (بتصرف نقلا عن مها دحام). إن العناصر المذكورة التي حاولنا ذكرها، تم التعامل معها بنوع من الحيطة والحذر المطلوبين، تجنبا للتطاول على حقل معرفي لم نتعمق فيه بالدرس والتحليل، لكن الضرورة اقتضت استلهام شذرات من فقه القانون المدني في جانب من هذا التحليل. البرنامج الحزبي والبرنامج الحكومي: محاولة للفهم في ضوء نظرية الالتزام إن هذه المحاولة تسعى إلى تحديد وضع كل من البرنامج الحزبي والحكومي في ضوء نظرية الإلتزام وما يتأسس عليها من روابط، ويتبين من خلال طبيعة الالتزامات التي تقدمها الأحزاب السياسية، والتي كثر الحديث عنها من قبل مجموع الفاعلين باعتبارها عقدا بين مجموع الناخبين والمنتخبين. إن الالتزام في القانون المدني، يطلق للدلالة على الحق الشخصي الذي يسمى حقا إذا تم النظر إليه من جهة الدائن، وبإسقاط هذا الحق الذي على التصويت الذي يعبر عنه الناخب (الدائن) في يوم الاقتراع الذي قدمه على أساس الالتزامات التي قدمها الحزب فإنه أصبح حقا. بما جعله التزاما بالنسبة للحزب السياسي (المدين). إن الفكرة التي أشرنا إليها، لا ينبغي أخذها بالمفهوم الجامد للالتزام (العقد)، وحيث إن جميع العناصر تتأسس في هذه العلاقة التي أشرنا إليها بكونها إلتزاما سياسيا أخلاقيا يقوم بمجرد إفصاح الحزب عن التزامه وتعبير عن الناخب عن صوته (الإيجاب) لمصلحة الحزب، فبفوز الحزب يتأتى الحق الشخصي للناخب الذي يعتبر رابطة بين شخصين أحدهما دائن والآخر مدين، و بموجب هذه الرابطة يحق للدائن مطالبة المدين بالقيام بعمل ما أو الامتناع عنه أو أعطائه شيئا معينا. إن ما يهمنا في هذه الرابطة، هو ذلك العنصر المرتبط بأحقية الدائن (الناخب المصوت) بمطالبة المدين بإنجاز الإلتزامات التي وعده بها خلال الحملة الانتخابية. وحيث إنه ينتج عن الالتزام ما يعرف بالرابطة القانونية ولاسيما عنصر الدين الذي يعتبر واجبا قانونيا ينبغي على المدين الوفاء به للدائن. وحيث إن العلاقة بين الناخب والمرشح الذي يعرض برنامجه الانتخابي الذي يشمل جملة من الالتزامات لا يمكن أن ننزلها منزلة الدين الذي يعتبر واجبا قانونيا يتعين الوفاء به، باعتبارها ميثاقا سياسيا أخلاقيا فإن عنصر الإلزام الذي يتفرع عنه الدين يقوم على عدم التصويت مرة أخرى على المرشح الذي قدم حزبه مجموعة من الالتزامات التي لم يتم الوفاء بها. أما بخصوص الوجه الثاني من هذه العلاقة، فيتأسس على البرنامج الحكومي الذي يتكون ويُصاغ ويُحرر انطلاقا من محاولة المزج بين مجموع الالتزامات التي قدمتها الأحزاب السياسية للناخبين، ونالت على أساسه ثقتهم، إنه مزيج من البرامج الحزبية؛ إنه خليط من الالتزامات، وحيث إنه برنامج يصاغ على درجة تفوق الدرجة الأولى (الحزبية)، لدرجة أعلى منزلة ودرجة (الحكومة)، فإنه يشكل التزما من الدرجة الأولى ما بين الحكومة و أغلبيتها البرلمانية التي تنصبها تبعا لمنطوق الدستور. إننا في ظل هذا المستوى، ونقصد المستوى الثاني من البرامج (البرنامج الحكومي) أمام مسؤولية عقدية، يترتب عنها عنصر الإجبار الذي يقوم في حالة عدم الوفاء بالالتزام من قبل المدين. إنها درجة ثانية ما بين الدائن والمدين، لقد تجاوزنا منطق الناخب ومترشح الحزب في ثنائية الدائن و المدين. لقد أصبحنا أمام عنصر الإجبار المؤسس على أساس علاقة دستورية تتعلق بتصويت مجلس النواب على البرنامج الحكومي بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم المجلس. إن المسؤولية العقدية القائمة على عنصر الإجبار في حالة عدم الوفاء بالالتزام من قبل المدين، تظهر تجلياتها فيما أتاحه الدستور لرئيس الحكومة أن يربط لدى مجلس النواب مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها بتصويت يمنح الثقة بشأن تصريح يدلي به في موضوع السياسة العامة أو بشأن نص يطلب الموافقة عليه. إن المكونات الأخرى بمجلس النواب (المعارضة أوالأغلبية) بدورها مدينة لناخبيها بالسهر على تنفيذ الالتزامات الحكومية على مستوى البرنامج الحكومي، وتبعا للمسؤولية العقدية القائمة على عنصر الإجبار في حالة عدم الوفاء بالالتزام من قبل (الحكومة) فقد خولها الدستور صلاحية معارضة مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها بالتصويت على ملتمس الرقابة، وفق الكيفيات المحددة بموجب الدستور، والذي تؤدي الموافقة عليه إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية. إنه عامل يساعد أطراف البرنامج الحكومي، المشكل من مزيج من الإلتزامات والبرامج الحزبية على ضمان حسن تنفيذ طبيعة العقد اللامادي، المؤسس إبتداء من علاقة ما بين الناخب و المرشح الذي يترتب عنه الدين بالمفهوم اللامادي، والذي تحول انتهاءا إلى برنامج حكومي يتأسس على مسؤولية عقدية خارج سياق المفهوم المدني. البرنامج الحزبي: التزام ببذل عناية يعتبر الالتزام ببذل عناية، ويسمى أيضا ببذل وسيلة، هو ذلك الالتزام الذي يفرض على المدين أن يبذل حرصا وعناية معينة من أجل الوصول لغاية لا يكون ملزما بتحقيق نتيجة معينة لها، و إن كان عليه أن يسعى لذلك، ويكون المدين قد نفذ التزاماته ببذل العناية المطلوبة أيا كانت النتيجة. (فتحي عبد الرحيم، مقدمة العلوم القانونية، الكتاب الأول، في النظرية العامة للقانون، مكتبة الجلاء الجديدة، المنصورة 1995-1996، ص10). أمام هذا التعريف الفقهي حول المقصود بالالتزام ببذل عناية، يستنتج بأنه الإلتزام الذي يتعين معه بذل كافة الجهود والحرص على بلوغ غاية معينة دون وجود عنصر ملزم بتحقيق هذه الغاية أو النتيجة. وبربط برامج الأحزاب السياسية بهذا التعريف، وبما أنها تقوم أساسا على مجموعة من الالتزامات، وحيث إنها تعتبر بمثابة عرض سياسي تقدمه الأحزاب السياسية يتضمن مجموعة من الإلتزامات الموجهة للناخبين من قبل الحزب ومترشحيه حسب طبيعة الاستحقاق، فإن تنفيذ وأجرأة هذه الإلتزمات لا يشكل في حقيقة الأمر إلا التزما ببذل عناية. إن غياب عنصر الإلزام، المرتبط بالالتزام الحزبي يجعلها التزمات ببذل عناية، بالنظر لكون العرض السياسي الذي تقدمه الأحزاب يشكل عرضا من الدرجة الأولى، والتي لا يمكن أن يتأسس معها عنصر الإلزام. ومرد ذلك عدم التكهن الكبير للحزب بحصوله على المرتبة الأولى، وفي حالات أخرى يتجنب الحزب تقديم التزمات طموحة كما وقع في محطات انتخابية سابقة، ترتب عنها حصول أحزاب على مواقع متقدمة، بما جعلها مسؤولة عن ضرورة تفعيل وتنزيل التزاماتها في صيغة تدابير حكومية على مستوى البرنامج الحكومي. إن الدرس الذي ينبغي فهمه واستيعابه، في هذه الحالة يتعلق أساسا بأن العلاقة اللامادية (غير العقدية) القائمة ما بين المدين( الحزب) وما بين الدائن (الناخب) في هذه العلاقة الأولية تستند على التزام ببذل عناية،أي أن الحزب سيبذل قصارى جهده لتحقيق الالتزامات (اللامادية) غير العقدية التي طرحها للناخب خلال الحملة الانتخابية دونما وجود أي ضمانة بتحقق هذه الالتزامات. فالمسؤولية العقدية أو عنصر الإجبار المؤسس في علاقة الالتزام بالمفهوم المدني، حسب سياق التحليل لا يمكن أن يتحقق إلا إبان المحطة الانتخابية المقبلة التي يعرض فيها مجددا الحزب تلك الالتزامات من جديد لتخضع لتصويت الناخب من عدمه. فهل يستطيع الدائن (الناخب) وضع حد لعبث المدين (الحزب)؟ سيما و إن كان الحزب قد انتقل إلى الدرجة الثانية التي سنحاول تحليلها. البرنامج الحكومي: التزام بتحقيق غاية يعتبر الالتزام بتحقيق غاية، ذلك الالتزام الذي يكون محله تحقيق غاية أو نتيجة يرجوها الدائن ويعد المدين منفذا لالتزامه إذا تحققت النتيجة، و مخلا بها إذا لم تتحقق النتيجة المرجوة. إن هذا التعريف المركب يجعلنا نستخلص بأن الالتزام بتحقيق غاية يتعلق أساسا بتحقيق النتيجة المرجوة، وإن لم تتحقق فإن ذلك يعتبر إخلالا بالالتزام الذي صدر من قبل المدين. في معرض وبيان القول، سبق وأن تمت الإشارة بأن البرنامج الحكومي يأتي في الدرجة أو المستوى الثاني، وقد أشير إليه بأنه مزيج وعنصر مركب من مجموعة من الإلتزامات، إنه درجة ثانية من الإلتزامات التي قدمتها الأحزاب السياسية وعكستها عبر البرنامج الحكومي الذي تشارك في إعداده الأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي. إنها مرحلة ثانية، إنه مستوى ثاني يختلف عن المستوى الأول من الإلتزامات ما بين الناخب (الدائن) والحزب (المدين)، لكون البرنامج الحكومي يشكل انعكاسا لمجموعة من الالتزامات الحزبية (أحزاب الأغلبية)، ويشكل أساسا لتنصيب الحكومة من قبل البرلمان، إنه الالتزام المشترك بين الحكومة التي تنفذ وتطبق برنامجها الحكومي على أرض الواقع بمؤازرة أغلبيتها البرلمانية. ومن تم فإنه التزام من قبل الحكومة التي أصبحت دائنة لعموم الدائنين (الناخبين المواطنين). إن الحكومة باعتبارها جهازا تنفيذيا تعتبر مسؤولة عن تنفيذ برنامجها الحكومي، إنها ملزمة ببذل ما في وسعها لبلوغ الغايات المرجوة، إن عدم تنفيذ الالتزام (البرنامج الحكومي) يعتبر إخلالا يترتب عنه الجزاء، إنه الجزاء بالمفهوم اللامادي، إنه الجزاء خارج المفهوم العقدي؛ إنه جزاء الناخبين، بعدم تأسيس علاقة جديدة مع من تخلف عن تحقيق الغاية. أليس تخلفا من قبل المدين عن تحقيق النتيجة المرجوة؟ ألا يمكن تحقق الجزاء عند عدم تحقق النتيجة؟ تلكم أسئلة مفتوحة نشاطرها معا. بعدما تقدم ذكره، يمكن القول بأن تحديد طبيعة العلاقة ما بين الدائن والمدين تبعا لوضعية التحليل المذكور، تقتضي ضرورة العمل على تقديم برامج سياسية (التزمات) في إطار تحالفات سياسية، حتى يتسنى للناخب (الدائن) منذ البداية تأسيس العلاقة العقدية مع المدين (الأحزاب) في إطار التزام بتحقيق غاية منذ البداية، ليتم تقويته في المرحلة الثانية (البرنامج الحكومي) ، لتتاح الفرصة للدائن (الناخب) إما بتجديد العلاقة أو فسخها في المرحلة الموالية لتقديم الالتزمات (الانتخابات الموالية). ونافلة القول، نقول بأننا قد علما أن هذا رأيٌ، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه. *عيسات بوسلهام، باحث في الدراسات السياسية والدولية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- أكدال.