نضع عبارة "فرض عليهم التعاقد" بين قوسين، وعيا منا أنها طافحة بتناقض كبير، فكل دلالات لفظ التعاقد تحيل إلى سلوك تفاعلي بين طرفين أو أكثر، يتم بشكل واع وإرادي وحر، تترتب عليه مسؤوليات أخلاقية والتزامات قانونية متبادلة. في حين إضافة فعل الفرض والإكراه إلى فعل التعاقد الذي لا يكون تعاقدا إلا إذا كان فعلا إراديا واختياريا يعد وقوعا في تناقض منطقي فادح. لكن منذ متى كانت قواعد الفكر المنسجم والعقل السليم والمنطق الصارم تتطابق مع الوقائع الاجتماعية والسياسية، والحياتية بشكل عام؟ ومن ذلك القضية التي لا نبالغ، إذا قلنا، إنها الأكثر حساسية، من بين القضايا الاجتماعية المطروحة على الساحة الحقوقية والنقابية، فضلا عن الحاجة إلى طرحها بقوة على أجندات كل الفاعلين السياسيين، وهي قضية الأساتذة الذين "فرض عليهم التعاقد"، كما يسمون أنفسهم، أو أطر الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، كما يسمهم الخطاب الرسمي، ممثلا في بلاغات وبيانات الحكومة المغربية بشكل عام ووزارة التربية الوطنية بشكل خاص. سيكون من الادعاء الزائف القول أن مقاربتنا لهذه القضية المعقدة والشائكة، أنها مقاربة ذات طبيعة أكاديمية هادئة و"محايدة". فالحياد في هكذا قضايا يعتبر مستحيلا، خاصة إذا وجد الواحد نفسه بين ثلاث أطراف معنية بهذه القضية بشكل مباشر، متفاوتة من حيث قوة الموقف، وما تملكه من أوراق الضغط والدفاع عن موقفها هذا. الطرف الأول، وهو الحلقة الأضعف، يتمثل في أبناء الضواحي والقرى والأرياف، والأسر المغربية التي تعيش فقرا مدقعا، والتي لا تسمح لها ظروفها المادية العسيرة، باللجوء إلى مدارس التعليم الخصوصي لكي تحظى بتعليم جيد وتحصيل دراسي مستقر وتتوفر فيها الحدود الدنيا لاحترام الزمن المدرسي؛ والتي تجد نفسها تؤذي ضريبة ما تعرفه المدرسة العمومية من توترات وإضرابات متتالية، لا تنتهي الواحدة منها إلا ببداية أخرى؛ ومما لاشك فيه فإن إضرابات أساتذة التعاقد تعد أبرزها وأكثرها حدة وتأثيرا. هذه الفئة، والتي تمثل الحلقة الأضعف، لا يمكن إلا الانحياز التام لها، ولحقها في زمن مدرسي عادي وطبيعي. الطرف الثاني، وهو الذي يتمثل في فئة هؤلاء الأساتذة الذين يجدون أنفسهم في وضعية مهنية غير متساوية مع زملائهم الأساتذة النظاميين، إذ لا يخضعون لنفس النظام، ولا يتمتعون بنفس الحقوق، رغم كونهم يؤدون نفس المهام وتقع على عاتقهم نفس الواجبات. فالنظاميون يحق لهم المشاركة في المباريات، من بينها مبارايات التعليم العالي، بصفتهم موظفين، بينما لا يتمتع أطر الأكاديميات بنفس الحق، كما يحق للمدرسين النظاميين الترقي بشكل عادي إلى الدرجة الممتازة، بينما لا يملك أطر الأكاديميات نفس الحق. هذه وغيرها من أنماط الحيف التي يشعر بها هؤلاء المدرسون، والتي تضطرهم إلى خوض سلسلة من الأشكال النضالية، وفي مقدمتها الإضرابات الكثيرة عن العمل رغم ما تكلفهم من اقتطاعات باهظة من أجورهم الهزيلة، مما يزيدهم غضبا وخنقا وسخطا على الأوضاع. هذه الفئة الثانية، وإن كانت لا توجد في وضعية الهشاشة ذاتها التي توجد فيها الفئة الأولى، إلا أن معظم عناصرها منحدرة من الفئات الشعبية ذاتها، والتي لا يمكن لنا إلا أن نتضامن مع حقها في المطالبة بتحسين وضعيتها المهنية بما يضمن المساواة بينها وبين فئات الأساتذة النظاميين، من دون أي حيف أو تمييز، على مستوى الحقوق كما على مستوى الواجبات. أما الطرف الثالث، فهو الحكومة عامة وزارة التربية الوطنية خاصة، وهو الطرف الذي يملك بين يديه كل أوراق القوة التي تجعله قادرا على حل هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة، ونزع فتيل هذه القنبلة التي تكاد تفجر قطاعا حساسا واستراتيجيا ببلادنا، وهو قطاع التعليم. إن أي موقف نقدي، سنعبر عنه في هذا المقال، بخصوص سياسة الحكومة وتعاطيها مع هذا الملف الحساس، لا يمكنه أن يمنعنا من الاعتراف بالمجهود الكبير الذي تم بذلته على مستوى توفير هذا العدد غير المسبوق من الموارد البشرية في قطاع التربية والتكوين، حيث سيبلغ العدد خلال الموسم المقبل إلى ما يقرب من مائة وثلاثين ألف منصب شغل، منذ سنة 2016 إلى اليوم. إن تسجيلنا لهذه الإيجابية لصالح الأداء الحكومي، لا يمكن أن يثنينا عن تسجيل ما طبع عملية التشغيل هذه من ارتجالية وتخبط، الأمر الذي خلق توترات كبرى في قطاع التعليم، ندعو إلى تكاثف كل الإرادات الحسنة في هذا البلد من أجل تجاوزها، والعمل على التقليص من حدتها إلى أقصى حد ممكن. وهنا، ندعو الحكومة عامة، ووزارة التربية الوطنية خاصة، إلى بذل الكثير من الجهد على مستويين اثنين على طريق طي صفحة هذا الملف وحله بشكل نهائي، مستوى مرحلي يتمثل في اتخاذ سلسلة حلول مستعجلة، تحقق المماثلة التامة بين من تسميهم بأطر الأكاديميات وبين الأطر النظامية، من خلال تمتيع الجميع بالحق في الحركة الانتقالية الوطنية، وحق اجتياز مباريات التعليم العالي والحق في الترقي إلى الدرجة الممتازة، وغيرها من الحقوق المشروعة، التي يطالب بها هؤلاء المدرسون. هذا على المستوى المرحلي، أما على المستوى الاستراتيجي، فذلك يقضي العمل، وبشكل تشاركي، على وضع نظام أساسي واحد يوحد بين كافة رجال التعليم ونسائه. وحينما نقول تشاركيا، فلا نقصد مشاركة الوزارة والنقابات التعليمية الكبرى، بل ندعو إلى مشاركة فعالة للتنسيقية الوطنية لهؤلاء المدرسين، الذين لا يمكننا القول إلا أنهم قد عليهم التعاقد، بسبب شبح الفقر والبطالة والذي لم يترك لهم، أو لغيرهم من الشباب العاطلين، أي خيار آخر غير القبول بأي فرصة للحصول على مورد رزق، وتضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم. إنه ، وفي ظل عدم إخراج قانون للإضراب، يوضح طيفية ممارسة هذا الحق، ويحدد للمضرب وللمشغل، ما لكل منهما من حق وما عليه من واجبات، ومتى يمكن الاقتطاع ومتى لا يكون، وماهي المساطر القانونية التي ينبغي سلكها من أجل أن تكون الاقتطاعات ذات سند قانوني واضح، يحز في النفس أن تعج مواقع التواصل الاجتماعي بشكاوى وصرخات هؤلاء المدرسين كل شهر بسبب المبالغ المالية التي تقطع من أجورهم، خاصة مع حلول هذا الشهر الذي يتزامن مع مناسبة العيد الكبير، وما تتطلبه من مصاريف. من أجل ذلك، وتفاديا للمزيد من الإحتقانات الاجتماعية، ندعو إلى تغليب صوت العقل والحكمة، عند مختلف المتدخلين المباشرين، حتى يتمكنوا من طي صفحة هذا الملف، وإنقاذ الموسم الدراسي المقبل من سلسلة إضرابات واحتجاجات واعتصامات، من طرف هؤلاء المدرسين، الذين يتعين على الوزارة توجيه طاقاتهم للاشتغال في الفصول الدراسية عوض استمرارية الأزمة التي تهدر طاقاتهم الشابة في الحركات الاحتجاجية.