تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية. هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة "العمق" أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان "نوابغ مغربية"، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ. الحلقة 36: غانم بن علي الغُمَاري.. قائدُ لواء المغاربة في جيش صلاح الدين الأيوبي وأول إمام مغربي للحرم المقدسي بسم الله الرحمن الرحيم كان للغُماريين المغاربة دورٌ بارز في الحركة العلمية والفكرية والصوفية والعسكرية في بلاد الشام وفلسطين، وكان منهم أفراد مارسُوا القضاء والإفتاء، عَدَّ منهم الإمام الذَّهبي والعسقلاني حينَ تأريخِهِما لأعْلام الأمّة في القرن الثاني عشر الميلادي كلاَّ من السيد أحمد بن يعقوب الغماري، والسيد عبد الرحمن المالكي الغماري، والسيد محمد بن يوسف الغماري، كما كان لرجالاتهم أدوار بارزة في التطوّع للجهاد طيلة عهد الدولة المرابطية والموحدية والمرينية، إنْ في اتجاه الشمال صوب الأندلس كالمتصوف المجاهِد علي بن ميمون الغماري، أو في اتجاه المشرق صوبَ فلسطين وبلاد الشّام. بَرَزت أسرة آل غانم الغمارية من بين الأسر التي ساهمت في الدّفاع عن فلسطين، واستقرَّت بها عَقِبَ الانتصار التّاريخي للمسلمين في معركة حِطِّين (4 يوليوز 1187)، واشتهَرَ منهم العالِم المجاهِد غانم بن علي بن إبراهيم الغماري. يُرجِع الإمام الذّهبي في كتابه "تاريخ الإسلام ووفَيَات المشاهير والأعلام" جذورَ السيد غانم الغماري إلى قبيلة الخزرج الأنصارية في المدينةالمنورة، والده هو السيد علي الغماري، ابن منطقة غمارة على ساحل البحر الأبيض المتوسط بين حاضِرَتَيْ شفشاونوتطوان. فيما يَرتفِعُ المؤرِّخ المغربي عبد الهادي التازي بنسَبِ غانمٍ إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، ويَصفِه ب"شيخ الإسلام غانم الشَّريف". تربّى الصبي غانم على يد والده وأسرته، تربية دينية، في سياقٍ موسومٍ بتصاعد المواجهة بين المغاربة والاحتلالَين البرتغالي والإسباني في الغرب الإسلامي، والعرب والاحتلال الصليبي في المشرق الإسلامي، فَزُرِعت فيه قِيم الكفاح والوطنية والدّفاع عن الأرض، التعلُّق بمقدّسات وثوابت الأمّة. ثم كان أنْ انتَقل الوالِد علي الغماري إلى الحجاز حاجًّا، فانتهى به المطاف مَعية عدد من المغاربة مُستقِرّاً في مدينة (نابلس) بفلسطين سنة 558 هجرية. آوتْهم قَرية (بورين) التابعة لنابلس، فوَجَدت أسرة علي الغماري فيها الأجواء الملائمة لتربية الأولاد وتعليمهم، وكان نصيبُ غانم بن علي مِن أخْذ العِلم وتلَقِّيه على كبار المشايخ في الشام وفلسطين كبيرا، فنهَل من مَعِينِهِم، وأُجيزَ في فنون المعارف على يَدِهِم. ثم لما شَبّ واستوى؛ تَزوّج، وأنجب ذرية حَملت معها روح المغرب في فلسطين، وأبانت عن إخلاصها في خدمة القدس الشريف، أوقافًا، وعلماً، وتعليمًا، ودفاعًا. أفادَت التربية الروحية وبَركة أكناف بيت المقدس في صلاح واستقامة مترجَمِنا غانم الغماري، فكان كما وصَفه المؤرخ الذهّبي "زاهدا، عابدا، مُخبِتا، قانتا لله، صاحب أحوال وكرامات"، ووصفه الباحث موسى المودّن ب"العالم الجليل"، وأنه كان مِن "المصلِحين الزّهاد العُبّاد الذين ذاع صيتهم في كل الأرجاء، وأصبحوا مقصد كلّ متلهِّفٍ لتَلَقّي العلم والنّصائح والإرشاد"، ومِن أبْرز المغاربة اشتهارا ب"الكرامات والأحوال"، كانت له خَلوات يختلي بها في القُبَّة السُّليمانية والمسجد الأقصى، ذاكِرا الله وشاكِرا له ومتأمِّلا في ملكوته، وكان على حدّ شهادة ابنه عبد الله الغماري ذا "أخلاق كريمة وهَيْبَة عظيمة"، معروفا بين المَقدِسِيِّين ب"الشيخ غانم النابلسي". إنَّ أهمّ ما ميّز حياة الشيخ غانم الغماري؛ انخراطه في حروب التحرير ضد الصليبيين، ومشاركته أميرا على سَرية أهل فلسطين مُكلَّفا بلواء المغاربة في معركة حِطِّين مع القائد المظفّر صلاح الدّين الأيوبي رحمه الله (1138-1193). ما إنْ وَصَلَت طلائِع المجاهِدين لفلسطين بقيادة الأيّوبيين؛ حتّى هَبّ غانم الغماري معية كثير من المغاربة والمتطوّعين الذين أنْفَذَهُم السلطان يعقوب بن يوسف الموحّدي (1184 – 1199) لدعم حركة الجهاد ضد الصليبيين؛ مناصِرا لجيش الأمير الأيوبي، ومجاهِدا في سبيل استرجاع بيت المقدس وأحوازه. في أعقاب الانتصار الكبير في حطّين؛ واستتباب الوضع للمسلمين؛ كافأَ الأميرُ صلاح الدِّين الشيخَ غانم الغماري؛ بتوليته مشيخة الحرم القدسي، وكان أوّلَ مَن ولِيَ هذه المَشيخة بعدَ تحرير القُدس. كما استْصْدَرَ السلطان المنتصِر أمْرا ببناء حارة للمغاربة وإسكان أسرة آل غانم فيها وإبقاءها وقْفا إلى آخر الزمان، واستَقَلُّوا لاحِقاً بحارةٍ أخرى عُرِفَت باسم "حارة الغْوانْمة". اختار الشيخ غانم الغماري السَّكن بالقرب من باب الوليد، أحد الأبواب المعروفة في الحرم القُدسي، وهو الذي يُطلِقُ عليه قاطِنو مدينة القدس الآن بابَ الغوانْمة، وقد اشْتَقُّوا اسمه من اسم الشيخ غانم، وأبنائه وذُريته التي تعاقَبَتْ مِن بَعده، في إشارةٍ منهم لتقديرِ وتوقير آل غانم المغربيين. ووَرَد في كتاب "الذّاكرة التاريخية المشتَرَكَة؛ المغربية-الفلسطينية"؛ أنَّ السلطان صلاح الدين الأيوبي وهَبَ لغانم وأسرته بلدة (بُورين)، و"مُعظم الأراضي بين القُدس ونابُلس، واستمرَّت أسرته في تلك المنطقة إلى يومنا هذا"، مُشتهِرةً بالعلم والصلاح، والقيام بالفُتيا والقضاء، حبّ الأقصى وفلسطين. كان الشّيخ غانم بن علي في جهاده نِعْمَ القدوة والمُربِّي بالنصيحة للأتباع والمجاهدين، وفي أخلاقه وعلمه نِعْم المَرجِع، وفي علاقاته مع المغاربيين والمقدسيين نِعم الجار والصديق، جَعل من المقاومة فُرصة للتزكية والتَّهذيب، وأوْقَفَ بَنِيهِ على خِدمة المسجد الأقصى وخانُقَاهْ الإسماعيلية، ونَبغَ في التدريس والتعليم حتّى عَدَّه مُجايِلوه ومَن كَتَبوا عن سيرته "شيخَ الإسلام، وجِيه وُجهاء بيت المَقدِس، والعارِف بالله حُجّة الزمان". ارتبَط الشيخ غانم الغماري المقدِسي بالصّوفية في مرحلة تالية مِن حياته، وصحِبَ كبار مشايخ التصوف، الذين سيكون لهم يدٌ فُضلى في تعريفه بباقي بلدان المشرق، وانضمامه لحركة الكفاح في الشام. ثم انتَقل في أخريات عمْره إلى دِمشق وأقام بها، مُعلِّمًا، وواعِظاً، ومُحِضًّا شبابَ البلاد على الجهاد لحماية الثّغور وبَيضة الإسلام، وذاعَت مكانته بين العوام والخواص، وأقْبَل عليه الناس من كلّ مكان في الشام، وكان دائم الافتخارِ بمعركة حِطّين وجهاد المُسلمين الذي تُوِّجَ بتحرير فلسطين ومدينتها المقدَّسة ومَسجدها الأقصى المبارك. خَلَّف غانم الغماري المغاربي أصلاً، المقدسي دراً واستقراراً، الدِّمَشْقِي وفاةً وإقبارا؛ ذريةً مِن بَعده مَلأت فلسطين والشّام ومصر عِلمًا وعطاءً، وشَغلت مناصِب دينية واجتماعية وسياسية رفيعة، اشتهر منهم السيد أحمد بن غانم وولَده عبد السلام المتوفى في القاهرة سنة 1280، ومحمد شمس الدين بن غانم العالم الأديب، وإبراهيم بن أحمد بن غانم المتوفى سنة 761 هجرية، ونور الدين علي بن غانم كبير فقهاء الحنفية في زمانه، عاش في القُدس وتُوفي في القاهرة سنة 1004 هجرية. أما الشيخ العلامة المجاهِد غانم حاملُ لواء المتطوعين المغاربة في حرب التَّحرير الأيوبية، فقد وافته المنية بعد حياةٍ حافِلة بالعطاء والكفاح، والتنقُّل في الأقطار ومُجاوَرة بيت المقدِس. الصويرة في 24-05-2021 * إعداد: عدنان بن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر "شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي"، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.