ثمة جدل متزايد في واشنطن حول تردّد الرئيس بايدن في إنهاء المواجهة بين إسرائيل وحماس، وإلى أيّ مدى نأى بنفسه عن السّياسة المثيرة للجدل لسلفه دونالد ترامب والدعم الشخصي لنتنياهو، فهل حان الوقت لبايدن ليؤكّد قيادته السّياسية والأخلاقية ونموذج قيمه أو مجرّد تأكيد تأييده الثابت مجددا لإسرائيل؟ ظهرت موجتان من خيبة الأمل في سياسة بايدن إزاء الشرق الأوسط وتثير انتقادات بعض الأمريكيين وحتى في عواصم أخرى: واحدة في نيويورك حيث استخدمت السفيرة الأمريكية ليندا جرينفيلد حق النقض ضد اعتماد بيان مشترك يدعو إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في الاجتماع الطارئ الرابع لمجلس الأمن خلال مدى أسبوعين. أمّا خيبة الأمل الأخرى فهي في البيت الأبيض حيث أجرى الرئيس بايدن اتصالا هاتفيا رابعا يوم الأربعاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ولم يُظهر بايدن موقفًا حازمًا أو يمارس ضغطًا مناسبًا لدفع إسرائيل إلى وقف إطلاق النار، باستثناء ما جاء في بيان البيت الأبيض بترقب التوصل إلى "تهدئة مهمة على وقف إطلاق النار الخميس". غير أن نتنياهو يظلّ "مصمّمًا على الاستمرار في هذه العملية حتى تحقيق هدفها – إعادة الهدوء والأمن إلى … مواطني إسرائيل"، كما نقلت عنه وسائل الإعلام الإسرائيلية يوم الخميس. وتواجه السياسة المسترخية التي يبديها بشأن الشرق الأوسط مزيدًا من الشك والجدل من قبل النقاد في واشنطن، وحتى من أصدقائه المقربين في الكونجرس وداخل الحزب الديمقراطي. فقد وقّع أكثر من 130 عضوًا ديمقراطيًا في مجلس النواب رسالة شديدة النبرة يحثون بايدن على تجسيد "القيادة الجريئة واتخاذ إجراءات حاسمة لإنهاء العنف". ويدرك الرئيس جيدًا مدى القوة العسكرية الإسرائيلية الفتاكة والمدمرة وانعدام التكافئ بين طرفي الصراع المسلح المستمر خلال الأسبوعين الماضيين. وحتى الأربعاء، أدّت الضربات الإسرائيلية على غزة إلى مقتل 227 فلسطينيا على الأقل، من بينهم 64 طفلا و 38 امرأة. وقالت إسرائيل إن أكثر من 3400 صاروخ قصف مدنها وبلداتها. وقتل ما لا يقل عن 12 شخصا في اسرائيل. وتقول النائبة الديموقراطية في الكونغرس عن ولاية نيويورك ألكساندريا أوكاسيو كورتيز إن المسألة لا تتوقف على وجود طرفين باختلال التوازن في مستوى القوى ، وقد صرح الرئيس والعديد من الشخصيات هذا الأسبوع أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس … لكن هل يملك الفلسطينيون حق الدفاع عن النفس؟ وحق البقاء؟ عند تأمل موقف الرئيس بايدن والتفاعلات الميدانية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، استنبط ثلاثة تحولات في إدارة رئاسة بايدن للأزمة الجديدة في الشرق الأوسط والخليج: أولاً، غياب الرؤية والإرادة لدى بايدن للانخراط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني باستثناء الترحيب باتفاقات أبراهام الأربعة التي توسط فيها ترامب ووقعتها إسرائيل وأربع حكومات عربية: الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب. وتعتبر حكومة بايدن هذه الاتفاقيات بمثابة شبه عملية سلام. لكن الرئيس بايدن أخطأ بتخفيض مستوى انخراطه الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، وكما تقول تمارا كوفمان ويتس من معهد بروكينغز "نحن لسنا في أواخر عام 2014، أو أواخر 2009 ، أو قيام انتفاضة ثانية أخرى. إنه تحول جديد. هذا ما يبدو أنه موت حل الدولتين ". منذ البداية عندما احتج الفلسطينيون على المحاولات الإسرائيلية لترحيلهم من منازلهم في حي الشيخ جراح في القدس، لم يُظهر بايدن وبلينكين اهتماما جادا بالتدخل في الصراع المتفاقم. وافترض بايدن عدم وجود "رد فعل مبالغ فيه" من قبل إسرائيل في تصريحه الخميس الماضي. ومن منظور تحليل الصراع، تقول لوسي كيرتزر إيلينبوجن، مديرة برنامج الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في معهد السلام في واشنطن إن "حكومة بايدن لم تتعثر بشكل أعمى في تجاهل الصراع. لقد كان قرارًا مقصودا، وربما مخاطرة محسوبة. وافترض بايدن أن الاستثمار في صراع قديم مستمر منذ عقود لن يأتي سوى بمكاسب ضئيلة على السياسة العامة وخاصة السياسة الخارجية. وارتأى وزيرالخارجية بلينكين أن هناك أمورًا أكثر أهمية يجب مناقشتها مع المسؤولين الإسكندنافيين عندما انطلق في جولة لمدة ستة أيام بين الدنمارك وأيسلندا وغرينلاند في ذروة حرب القذائف الصاروخية بين إسرائيل وحماس. وكان من الممكن أن يدفعه تدهور الوضع إلى القيام ببعض الدبلوماسية المكوكية بين تل أبيب ورام الله وطرح مبادرة صنع سلام وجهاً لوجه. وبدلاً من ذلك، قرر إرسال مسؤول من المستوى الخامس إلى المنطقة هو هادي عامر، نائب مساعد وزيرة الخارجية للتشاور مع المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين نهاية الأسبوع الماضي. لكن جهوده لم تنجح في تأمين التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. في الأعوام السابقة، كانت واشنطن ترسل مبعوثين يهودا أمريكيين منتظمين مثل دينيس روس ومارتن إنديك، وقررت وزارة الخارجية هذه المرة أن تضع وجهاً أمريكياً عربياً عنوانا للوساطة وتدبير سياستها في الشرق الأوسط. ثانيًا، شدد المرشح بايدن والرئيس بايدن أكثر من مرة على الحاجة إلى رؤية أخلاقية ومناصرة حقوق الإنسان باعتبارها ركيزة جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية. وكثيراً ما انتقد قرارات حكومة ترامب ووصفها بأنها "مدمرة" و "قصيرة النظر". كما انتقد بايدن روسيا والصين وبعض دول الخليج وبالتحديد السعودية. وركّب لنفسه صورة أنه رئيس مثالي وإنساني وحازم في قراره إنهاء الحرب الأهلية في اليمن وسحب القوات الأمريكية من أفغانستان. وذكّره الأعضاء المائة والثلاثون في مجلس النواب الديمقراطيين في رسالتهم بأن "عددًا كبيرًا جدًا من الأشخاص قد لقوا مصرعهم بالفعل في غزة. وسيهلك المزيد بلا داع إذا لم تتصرف أمريكا بالسرعة التي يتطلبها إيقاف هذا العنف". وجادل السناتور الليبرالي البارز بيرني ساندرز بأنه "إذا كانت الولاياتالمتحدة ستصبح صوتًا ذا مصداقية في مجال حقوق الإنسان على المسرح العالمي، فينبغي علينا التمسك بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان باستمرار حتى عندما يكون ذلك صعبًا من الناحية السياسية. ينبغي أن ندرك أن حقوق الفلسطينيين مهمة. حياة الفلسطينيين مهمة ". تمثل الحرب الحالية في غزة الاختبار الأول لسياسة بايدن الخارجية وتثير السؤال: هل هو بايدن المثالي في جميع الحالات أم نسخة من بايدن المتشبع بالواقعية السياسية عندما لا يعمد لتقييم موقفه القديم عام 2009 المناصر لإسرائيل ويبقى في صف نتنياهو. ليس هناك ملامح واضحة للاختلاف في دعم كل من بايدن وسلفه ترامب لخطط نتنياهو. ويغدو السؤال أكثر أهمية: هل هو بايدن الحقيقي أم مجرد نسخة "ترامب 0.2″. تقول لارا فريدمان، رئيسة مؤسسة السلام في الشرق الأوسط، إنه بالنسبة لمناصري حقوق الإنسان الفلسطيني، فإن الرئيس بادين لم يفعل الكثير لتحريك الكرة للأمام. فكان الشعور بخيبة الأمل والخيانة واضحًا لديهم".تحت حكم بايدن، لا يزال هناك مدّ يميني حاد في سياسة الولاياتالمتحدة تجاه إسرائيل، وهو ما يقوض ادعاء بادين الشخصي بالمزاج الأخلاقي في فلسفته السياسية، ويضعه على خلاف مع أعضاء الجناح الليبرالي في حزبه الديمقراطي. ويؤكد رشيد الخالدي من جامعة كولومبيا والمستشار السابق للمفاوضين الفلسطينيين في مدريدوواشنطن من 1991 إلى 1993 أنه "طالما أن الولاياتالمتحدة تتجاهل المبدأ الأساسي للمساواة المطلقة إزاء فلسطين وإسرائيل – وهو ما لم تناصره أبدًا – فستظل هي جزءا من المشكلة وليس جزءًا من الحل ". أما التحول الثالث والأخير فهو سياسي واستراتيجي، ويعكس كيف نجحت مناورات نتنياهو في الأشهر الخمسة الماضية في عرقلة قرار بايدن استئناف الاتفاق النووي مع إيران. لقد فرض نتنياهو أزمة جديدة بحكم الأمر الواضع على الفلسطينيين والأمريكيين وغيّر المناخ السياسي برمته في المنطقة. فلم تعد محادثات فيينا تتصدر عناوين الأخبار ، ولا على رأس القائمة في البيت الأبيض. لقد كان العدوان على غزة بمثابة دعامة لإبطاء مفعول المسار التفاوضي في فيينا. والمفارقة أن نتنياهو هو صاحب القرار فيما يجد بايدن نفسه في موضع من يبحث عن التبرير أو التقليل من الانتقادات الموجهة لمنطلقه غير المتحمس في إدارة الصراع الجديد، وقد ينتهي به الأمر بخسارة بعض رأسماله السياسي على الجبهتين: صنع السلام في الشرق الأوسط وتوقيع الاتفاق مع الإيرانيين. أستاذ تسوية الصراعات الدولية وعضو لجنة خبراء الأممالمتحدة سابقا.