تسعى الدولة في ميدان التهيئة الترابية إلى تحسين جودة ظروف عيش الساكنة، و تطوير الخدمات العمومية ، و تسهيل الولوجية للمرافق و التجهيزات الأساسية كالتعليم و الصحة، و توفير الماء الصالح للشرب و الكهرباء في جميع مناطق المغرب، سواء تعلق الأمر بالمجالات الجبلية أو الساحلية أو الصحراوية، و كذا ضمان المساواة في المعاملة بين المواطنين، من حيث الحقوق و الواجبات. و تشكل كل هذه الانشغالات مصدر اهتمام جل الدراسات و الأبحاث الميدانية التي تبرز المجالات الأقل تجهيزا و اندماجاً. فمنذ بداية الالفية الثالثة، انخرط المغرب في مرحلة جديدة من سياسة اعداد التراب، تميزت بإرادة قوية من اجل بناء تصور مشترك ينبني على مبادئ التنمية المستدامة وأدوات التخطيط الاستراتجي.ووفق هذا التصور،عملت الدولة على الانخراط في سيرورة حكامة تشاركية،سمحت للفعاليات المحلية بالتعبير عن نفسها ضمن منظور المصلحة الوطنية. وهكذا أفضى الحوار الوطني حول اعداد التراب الذي انطلق سنة 2000 وفق منهجية تشاركية، الى تعزيز مرجعيات اعداد التراب الوطني بمجموعة من الوثائق الأساسية وفي مقدمتها الميثاق الوطني والتصميم الوطني لإعدادالتراب والذي تمت المصادقة عليهما في الدورة الاولى للمجلس الاعلى لإعداد التراب عام 2004. واليوم بعد مرور حوالي 17 سنة، ابرز تقييم التصميم الوطني لإعداد التراب أن هذا الاخير شكل وثيقة مرجعية ساهمت في توجيه القرار العمومي، الا أنه وبالنظر للتغيرات المؤسساتية التي حدثت في الآونة الاخيرة(تبني دستور جديد ساهم في تحديد ادوار الجهات، اصدار القانون التنظيمي للجهات 14-111، والميثاق الخاص باللاتمركز الاداري، بالإضافة لانجاز مجموعة من المشاريع المهيكلة الكبرى التي ساهمت في تغيير المجالات)،أصبح من الضروري بلورة وثيقة استشرافية جديدة تحدد الاهداف والأولوياتالبعيدة المدى،وتعزز التماسك الترابي للتدخلات العمومية، لكن يبقى التساؤل المطروح حول الوضعية الحالية لإعداد التراب الوطني: بخصوص مبدأ تعزيز الوحدة الوطنية: رغم اشتراط الميثاق و التصميم الوطنية ضرورة تحقيق التوازن و الانصاف و اندماجية المجال الوطني، فإن الهدف المغيب و المتعين القيام به هو دمج المجالات الترابية التي تعاني من العزلة و غير المرتبطة بالبنيات التحتية الكبرى. فيما يتعلق بمبدأ التنمية المرتكزة على الإنسان: تم اعتماد برامج كبرى مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، و تعميم كل من المخطط الجماعي للتنمية PCD و المخطط الإقليمي للتنمية PPD كأدوات للتنمية المحلية المرتكزة على انسجام المجال و الإنسان، لكن ما يزال الكثير للقيام به في هذا المجال، كتعبئة الموارد لتنفيذ هذه الاستراتيجيات و استيعابها من قبل الفاعلين المحليين. بخصوص مبدأ النجاعة الاقتصادية و التماسك الاجتماعي: يربط الميثاق و التصميم الوطنيين لإعداد التراب بين تسارع ديناميات النمو و تحسين أداء الاقتصاد الوطني و إعادة توزيع ثمار النمو، إلا أن ما يلاحظ أن معظم المشاريع المهيكلة للاقتصاد و تلك المنشئة للثروة لازالت تستوطن بالخصوص سواحل المحيط الأطلسي و غرب البحر الأبيض المتوسط، بينما تمثل فاس و مراكش حالتي استثناء. بخصوص مبدأ التجانس بين الإنسان ومجاله : فان الانتقال من المقاربة القطاعية التي أظهرت محدوديتها في السنوات الماضية إلى المقاربة الشاملة للتنمية المستدامة كضرورة ملحة في الوقت الراهن ،وفي هدا الصدد يشكل الميثاق الوطني والإستراتجية الوطنية للتنمية المستدامة خطوة مهمة في هذا المجال، والواجب تدعيمها ومساءلة جميع الفاعلين من خلالها. أما بالنسبة لمبدأ الديمقراطية والتشارك كمبادئ دستورية جديدة : فأبعاد هذه المبادئ، تهم مشاركة المواطنين في عمليات صنع القرار على المستوى المحلي والمركزي ،لكن تفعيل هاته المبادئ لا زالت تفتقد إلى آليات منهجية للمشاركة التي تعتمد أساسا على قنوات الإعلام والتكنولوجيات الجديدة ودمج الشفافية كمبدأ أساسي في التعامل مع المواطنين. إذا كانت مختلف هذه السياسات والاستراتجيات التي تم الحديث عنها قد ساهمت بشكل أو بأخر في تحسين القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني، كما يمكن اعتبارها مقاربات جديدة للسياسات العمومية ذات البعد الترابي، فان توجهات إعداد التراب الوطني الداعية إلى الاندماجية لم يتم الأخذ بها في صياغة هذه السياسات، وعليه فنحن أمام قوة فردانية القطاعات في تدبير القرار الوطني ، لتطرح وضعية إعداد التراب ودوره في ضمان التنسيق بين السياسات العمومية أكثر من تساؤل، ففي غياب اندماجية السياسات القطاعية العمومية والتماسك الترابي، يواجه المجال الوطني خطر ازدياد حجم فجوة التنمية بين مكونات التراب الوطني، مما يستدعي التفكير بنهج مقاربات اكثر شمولية، وإعداد مشروع وطني،خاصة في ظل تفعيل ورش الجهوية المتقدمة، يروم تنمية المجالاتويهدف في جوهره تحسين ظروف عيش الساكنة باعتبارها الهدف الاسمى لكل اصلاح واستثمار. وعليه ، فان السياق الحالي الذي حدده الدستور الجديد والقانون التنظيمي الخاص بالجهات، يفرض على سياسة اعداد التراب الوطني التوجه نحو تنمية المجالات في اطار الجهة، التي تمثل المستوى الامثل لإعداد التراب والتنمية المستدامة.وبالتالي،فان الرهان هنا لايتوقف على مجرد بلورة التوجهات الوطنية على المستوى الجهوي، بل المنهجية الجديدة تفترض وتحتم الجمع بين الطابع "العمودي" للتوجهات الوطنية التي تهدف الى تعزيز وحدة وتماسك المجال، مع الأخذ بعين الاعتبار للتمايز المجالي من جهة، والطابع "الافقي" لمنهجيات التماسك من جهة أخرى،وذلك على مستويين:المركزي(الاجراءات القطاعية وأثارها على المستوى الترابي)،والجهوي(الذي يجمع بين المؤسسات العمومية والخدمات والمرافق العامة اللامركزية)، تحت سلطة ولاة الجهات وبالتشاور مع المجالس الجهوية المنتخبة،كما أن دستور 2011، والقوانين التنظيمة للجماعات الترابية،تشكل منعطفا هاما في مسار تبني القواعد الأساسية المتعلقة بقضايا تماسك وتناسق الخدمات العمومية،بالاعتماد على أدوات التكامل و الشراكة ومبدأ الاستمرارية في تنفيذ البرامج التنموية والمشاريع الترابية المندمجة بين الجماعات.كما اعطى الدستور للجهة مكانة الصدارة،باعتبارها اطارا مناسبا لتحقيق اندماجية والتقائية السياسات القطاعية، واعتبارها ايضامجالا مناسبا للمشاركة الفاعلة للسكان في تدبير الشؤون الجهوية، وفي جهود التنمية المجالية،كاستجابة ملموسة لتطلع عام نحو "مغرب الجهات"موحد ومتضامن،وتتضافر فيه جهود جميع المؤسسات المركزية واللامركزية والهيئات المنتخبة لضمان رفاه المواطنين وعيشهم الكريم.