ما من شك، في أن المغرب، وهو يحاول إرساء نموذجه التنموي الجديد، أن الطبقة الوسطى ومكانتها وأدوارها توجد ضمن الأوراش والملفات التي حتما ستوليها لجنة بنموسى كامل الاهتمام والعناية. وذلك باعتبار العناية الملكية السامية بهذه الفئة، والتي ما فتئ عاهل البلاد يعبر عنها في العديد من الخطب والمناسبات، وباعتبار ما تشكله هذه الفئة من صمام أمان ورمز الاستقرار المجتمعي، والقاعد الصلبة لأي تحول مجتمعي وبحكم امتلاكها للعديد من المقومات والخصائص التي تجعل منها رافعة للأعباء التنموية على صعيد البلد، ولما لا قيادة ومواكبة التغيير. وعلى الرغم من كون الانطباع الأولي الذي يطفو على السطح في توصيف هذه الفئة، يأخذ بعدا اقتصاديا وماليا صرفا، في إشارة إلى الدخل ونمط الاستهلاك وحجمه، إلا أن أبعادا أخرى تدخل على الخط، ونحن نأتي على ذكر هذه الفئة، كالمستوى التعليمي والثقافي، مستوى امتلاك المهارات والكفاءات، مستوى الانفتاح على المجال الرقمي في ظل العولمة وزمن التكنولوجيات الحديثة ووو… الحاصل، وباعتبار القيمة الاقتصادية والاجتماعية التي تشكلها هذه الفئة، أن الدول التي أرادت فعليا وعمليا وضع القطار في سكة ودرب النمو، قد أقرت العديد من السياسات سواء الاقتصادية منها والاجتماعية، في اتجاه مد هذه الفئة بسبل تمكينها من الاضطلاع بحقيقة وظائفها وأدوارها، عبر إقرار سياسات تشجع على الاستهلاك، المحافظة على الأجور في مستويات محترمة، التخفيف من حدة الضرائب، توسيع الوعاء الضريبي والحد من الإعفاءات الضريبية والامتيازات والريع. وبهكذا، سياسات، يبقى لهذه الفئة نصيبا محترما من الإمكانيات يمكنها من الحفاظ على نمط العيش في مستوى معين، يكون بمقدورها تأمين المستلزمات الضرورية للعيش الكريم من مأكل وملبس وسكن لائق، مع تحمل بعض الكماليات البسيطة كالتوفر على سيارة، ارتياد المطاعم، السفر في أيام العطلة، مع إمكانية توفير جزء من المال في الادخار. أكثر من ذلك تسعف الإمكانيات المعرفية والمادية لهذه الفئة للاستثمار في الرأس مال البشري من حيث تأدية مصاريف تعليم الأبناء والتطبيب لأفراد الأسرة في المؤسسات والمصحات الخصوصية، نتيجة لذلك يتم تخفيف العبء نوعا ما عن المنشآت العمومية التي تترك للفئات الدنيا، رغم أن الطبقة الوسطى ويا للمفارقة هي المعروف عنها تأدية أكبر الحصص ونصيب الضرائب العمومية، بمعنى أنها الطبقة التي تدفع أكثر وتستفيد أقل، كما أن وعيها واستقرارها المادي النسبي غالبا ما يدفعها للتفكير في واقع ومستقبل المجتمع الذي تعيش تحت كنفه، إذ تجدها أكثر ملحاحية في المطالبة بالحقوق، بالحريات، بالدمقرطة، بالحكامة، وتجويد شؤون الإدارة والخدمات. الحاصل أنه مع ضغط الوقت، بالتزامن مع الأوقات العصيبة التي نعيشها مع العولمة، ومع الليبرالية المتوحشة، ومع المحن التي تعيشها الميزانية العامة، وبفعل عجز الميزانية، وتصاعد وتيرة الديون، ومع تحرير سعر الدرهم، وازدياد نسب التضخم، ومع الزيادة في الامتثال والإنصات إلى توصيات بعض المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أن شرائح الفقر قد ازدادت اتساعا كما ضاق المجال نسبيا على الطبقة الوسطى التي وجدت نفسها هي الأخرى شبه محاصرة، لأن معادلة الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية التي تتبعها الحكومة والرامية إلى تقليص النفقات والتفكير في الزيادة في المداخيل سيما الضريبية منها، قد زادت حقيقة من تعميق اللاتوازن المجتمعي من حيث أن هاته السياسات قد تمكنت من قص أجنحة الطبقة الوسطى ومن تجفيف بعض منابع خلقها كارتفاع نسب البطالة بحكم شح التوظيفات وتقليص الميزانية المخصصة للقطاعات الاجتماعية سواء منها التعليم والصحة، وبهذا تضررت الطبقة الوسطى ولم يعد بمقدورها الاضطلاع بحقيقة أدوارها في الحفاظ على نوع من الاستقرار ودعم النمو. المتتبع لسلوك الدولة في الآونة الأخيرة، وبحكم اشتداد الأزمة، يلاحظ كما لو أنها قد اتجهت نسبيا إلى إقرار نوع من سياسة الإنقاذ خصوصا بالنسبة للطبقة الدنيا والفقيرة والتي تعيش الهشاشة والخصاص، وقد تجلى ذلك في العديد من المبادرات والبرامج، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، برنامج فك العزلة على العالم القروي، برنامج التماسك الاجتماعي، إصلاح صندوق المقاصة…ومع الإشادة بالقصد النبيل من وراء هذه البرامج، إلا أن الإشكال بقي مطروحا فيما يخص تحقيق نوع من التوازن في إقرار هذه السياسات، لضمان حقوق الطبقة الوسطى واحتياجاتها أيضا، وهو الأمر الذي يبدو أنه قد تعذر نسبيا، وبدأ يرخي بظلاله على المستوى المادي والاقتصادي لهذه الفئة، وهو ما تبينه القيمة التصاعدية ووتيرة القروض والسلفات التي يلتجئ إليها فئة عريضة من الطبقة الوسطى للتمكن من تلبية أبسط متطلبات الحياة المعيشية. من جهة أخرى، فقد أبان الوجه الآخر للأزمة سيما في الظرفية العصيبة للحظة الحجر الصحي، عن أهمية وجود الطبقة الوسطى في المجتمع والحاجة الماسة لتوسيع حجمها وقاعدتها لدعم تواجد وحضور ثنائية الوعي والإمكانيات المادية لهذه الفئة، حيث أن وجودها قد اعتبر ضمن المؤشرات الكبرى التي تبين ماذا زرعته الدولة في السابق لتجني ثماره في أمثال هذه اللحظات العصيبة، كما أبانت عن حجم المجهود التنموي الذي أنجزته الدولة وقدرتها على اقتسام ثمار النمو على مختلف طبقات وفئات المجتمع، وأيضا أبانت على المجهود الذي سبق وأن بدلته من ناحية الاستثمار في بعض المجالات الحيوية كالتعليم والصحة، هذا الاستثمار صحيح تستفيد منه الطبقة الوسطى من حيث تعزيز مكانتها وإمكانياتها وقدراتها الاستهلاكية إلا أن الدولة تكون في المحصلة هي الرابحة من حيث المحافظة على استقرار الأوضاع والأمن وأمان المجتمع وكذا تحريك العجلة الاقتصادية وتحسين معدلات النمو وكذا التوفر على رأسمال بشري يكون في مستوى الحدث ويمكن التعويل عليه لبناء المخططات والمشاريع التنموية المستقبلية.