سلسلة "أنتروبولوجيا العادات الغذائية"، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب "تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-"، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة "العمق". الحلقة 6 إيكولوجيا العادات الغذائية أشرنا آنفا كيف نعت جون فرانسوا ريفل المطبخ القروي الذي يسميه مطبخ الأرض كمطبخ لا يتحول، وهذا يحيلنا إلى ما جعل هذا الباحث يصفه كذلك، يتعلق الأمر باعتقاده بأن التغذية القروية ترتبط ارتباطا وثيقا بالأرض، وبالتالي فهي محكومة بالبعد الإيكولوجي. فهل يتحول مطبخ الحقل أي المطبخ القروي ؟ وهنا نتساءل إن كانت مثلا مشاريع من قبيل مشاريع السقي بما تحمله من زراعات جديدة قد تساهم فعلا في تحول النظام الغذائي. محدودية العامل الإيكولوجي نتفق مع كورت لفين (Kurt Lewin) في أنه قبل السؤال حول: لماذا يأكل الناس ما يأكلون، ينبغي أن نتساءل بالأحرى: كيف وصلت الأغذية إلى مائدة الطعام، لذلك تبدو أهمية العوامل الطبيعية والمناخية في تحديد بنية النظام الغذائي القروي في مرحلة التزود بالأغذية: نلاحظ بالانحصار في مجال جغرافي ضيق، كيف أن الموارد الغذائية المحلية تؤثر على الذوق والاختيار الغذائي، ففي نظر بانكيه Banquet مثلا تنقسم الإنسانية إلى: آكلي القمح (أوربا الغربية، إفريقيا الشمالية، أمريكا الشمالية الصين). آكلي الذرة (إفريقيا الشمالية) آكلي البطاطس، (إفريقيا الوسطى). ذلك أن الذوق والشهية مرتبطان دوما بتواجد موارد محلية لغذاء تقليدي محلي. ونجد في ذات الشأن كيف تبدو اليومية الفلاحية “كرزنامة” نوعية للتوقيت القروي، وكأن النظام الغذائي القروي يسير على إيقاع ظروف معطاة ترصدها هذه اليومية عندما تقسم السنة الفلاحية إلى مجموعة من الفترات، مرتبطة بالحصاد والجني الخاص بمنتوج فلاحي معين أو بعض التحولات المناخية . غير أننا يمكن أن نتساءل عن مدى استمرار دور اليومية الفلاحية في ظل الجفاف وضعف النشاط الفلاحي ، فإذا كانت تحتفظ بأهميتها في الحدود التي تشرح كيف يشكل المنتوج الفلاحي- الذي حل موسمه- الغذاء الرئيسي في الوجبات، تتدخل عوامل أخرى لتجعل النظام الغذائي القروي أقل صرامة وأكثر مرونة. سوف تعمل المهارات المتعلقة بالتقنيات الغذائية على حفظ الأغذية مدة طويلة خارج فترة موسمها عن طريق التصبير والتخزين، إذ تفرض بعض التحولات المناخية مثلا اللجوء إلى بعض الأغذية المدخرة أو المحفوظة، سواء في حالة الجفاف، عند سقوط الثلوج أو حدوث الفيضانات. كما لم يعد النظام الغذائي القروي محكوما بما تذره الفلاحة المحلية فقط، بل تزايد دور السوق كذلك في التزود بأغذية مختلفة طيلة السنة يكثر أو يقل عرض بعضها حسب المواسم، فضلا عن بعض الموارد الغذائية التي لم يكن للقرويين عهد بها إلا حديثا (كالمشروبات)، بل حتى المنتوجات التي كان يعهد بتوفيرها إلى الفلاحة (الدقيق والحبوب مثلا). لقد انتبهت العلوم الطبية والغذائية- داخل حقل اشتغالها- إلى ضرورة التعامل مع (باثولوجيا) الأمراض الغذائية بالدول النامية كباثولوجيا خاصة ونوعية، حيث الأهمية الخاصة للعادات والإمكانيات المادية في تحديد السلوك الغذائي أكثر من عامل المناخ، مما يعني أن ذات المرض المرتبط بالغذاء ينبغي أن يحارب بطرق مختلفة حسب السياق الثقافي والاجتماعي الذي وجد فيه. البعد الإيكولوجي في اللغة المتداولة عالميا لا يخفى تركيز الدراسات الاقتصادية على البعد الإيكولوجي للغذاء من خلال تداولها لمجموعة من المصطلحات ذات الصيت الدولي. وهنا قامت مديرة مركز البحث في الاقتصاد التطبيقي والتنمية بتقديم تعريف مجموعة من المصطلحات المتعلقة بالغذاء المتعارف عليها دوليا: الاكتفاء الغذائي يشير هذا المصطلح إلى التوازن بين الإنتاج الفلاحي والاستهلاك الغذائي، وهنا تشير الباحثة أن هذا المصطلح يفتقر إلى الرجوع إلى مقاربة خاصة لمفهوم الحاجة، إذ أنه لا يأخذ بعين الاعتبار أن الاكتفاء لا يعني في الغالب الفلاح الذي يبيع المنتوج مقابل منتوجات غير غذائية، كما لا يأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الاجتماعية المرافقة للاحتياجات الغذائية . ∙ الأمن الغذائي يشير هذا التعبير إلى مجموع التدابير المتخذة لتغطية الحاجيات الغذائية، ويجد مرجعه في النظام الاقتصادي المحلي وقدرته على التخزين والتوزيع والتزويد مقارنة مع الحاجيات الغذائية المحددة. ∙ الاستقلال الغذائي يتعلق برغبة سياسية محضة لتوفير الاحتياجات الغذائية للساكنة. ∙ نمط الاستهلاك يعتبره الاقتصاديون نمط استخدام مجموعة من المنتجات، في حين يعتبره السوسيولوجيون طريقة لاستخدام مجموعة من المنتجات المادية واللامادية المختلفة من بلد لآخر. وقد فضلت الباحثة تناول علاقة التغذية بالفلاحة من خلال مقاربتين: * مقاربة بالنظر إلى الحاجيات التي على الفلاحة تلبيتها من خلال تزويد الفرد بالسعرات الحرارية التي يحتاجها حسب وضعه ونشاطه. وهنا تنتقد الباحثة هذه المقاربة التي تقدمها العلوم الغذائية والتي تركز على المظاهر البيولوجية للفعل الغذائي الذي تعتبره فعلا اجتماعيا وثقافيا في ذات الآن. وبهذا، قامت بتقويض مصداقية ما يسميه علماء التغذية والإحصائيون بالمتوسط ( في حجم الاستهلاك )، لأنه لا يمكن أن يقدم صورة حقيقية عن معدل الاستهلاك الذي يختلف من فرد لآخر. * مقاربة بالنظر إلى الطلب كما يحدده السوق الذي يؤثر على العرض ويفرض تعديله، وهنا تنبه الباحثة إلى عدم قدرة السوق على تحديد الحاجيات، وذلك بالنظر إلى مدى انفتاحه على الساكنة وإلى المستجدات الخارجية في مجال التغذية خصوصا أنه يعتمد على معطيات رسمية تعميمية.