إن ظهور اليمين المتطرف في إسبانيا وتشكله وانتظامه في إطار حزب شرعي ومنظم، وهو “حزب فوكس”، لم يكشف بعد عن جميع خباياه وأسراره، فهناك أسئلة عديدة تثيرها السيرورة التي يعيشها النظام الحزبي الإسباني في تفاعله مع الظاهرة، آخرها تلك التي يشهدها في سياق مفاوضات تشكيل الحكومة. خلال الأيام الموالية لانتخابات العاشر من نونبر 2019، طفا من جديد إلى سطح السجال السياسي في هذا البلد تعبير “الحجر الصحي” «El cordón sanitario»، حيث عبر كل من الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني وحزب “بوذيموس” عن رغبتهم في انضمام الحزب الشعبي اليميني إلى الحجر الصحي على حزب “فوكس”، الحجر الذي كان قد أقيم على مجموعة “سانتياغو أبسكال” داخل مجلس النواب خلال الولاية التشريعية السابقة من دون مشاركة الحزب الشعبي، أما اليوم فقد أصبح حزب “فوكس” قويا بالنظر إلى عدد المقاعد التي حصدها (52 مقعدا) ومن منطلق الأهمية التي اكتسبها كثالث قوة سياسية في البرلمان، حيث أصبح من الصعب معها محاصرته بسهولة دون دعم أو بمشاركة من الحزب الشعبي. الدعوة إلى هذا الحجر السياسي تستهدف بشكل صريح عزل الحزب المتطرف واستبعاده عن المشاركة ضمن مكتب مجلسي النواب والشيوخ، حيث من المرتقب أن يشهد الثالث من دجنبر المقبل عمليات انتخاب مكتب المجلسين المذكورين، حيث يتشكل من رئيس المجلس ونوابه الأربعة بالإضافة إلى أربعة كتاب، ومن المرتقب بالنظر إلى مرتبته الثالثة من حيث عدد مقاعده أن يحصل على حصته من المقاعد التسعة. إثارة موضوع الحجر الصحي أو السياسي هذا لا يمكن إلا أن يعطى عدة تأويلات، فمناقشته يفرضها فعلا الزمن الانتخابي، حيث أن انتخاب مكتب مجلس النواب هو الموعد الأقرب، إذ تنتهي الولاية التشريعية السابقة وتبدأ الولاية التشريعية الحالية فعلا في الثالث من شهر دجنبر الحالي، ولكن رغم ذلك فإثارته تكشف وظائف وادوار تكتيكية عدة يؤديها هذا الموضوع من جملتها: التحسيس بجسامة الحدث الذي أصبح يواجه اسبانيا وطبقتها السياسية، ووضع الأحزاب الاسبانية أمام مسؤوليتها التاريخية إزاء المشكلة؛ تحسيس الأحزاب القريبة من اليسار أو المنتمية إليه بخطورة الزحف وبأهمية انتهاز هذه الفرصة وتشكيل الحكومة تحت مظلة الحزبين القائدين للتحالف الحكومي المرتقب، وبعواقب عدم الانضمام إلى تحالف اليسار؛ السعي إلى إحداث شرخ وسط تكتل اليمين بقيادة الحزب الشعبي، أو قياس مدى متانته. هذه الوظائف والأدوار التكتيتكية تخدم في النهاية هدفا استراتيجيا واحدا هو تقوية جبهة اليسار والتمكن من تشكيل الحكومة. وقد عبر البعض فعلا عن مساندته لفكرة الحجر الصحي، ونشير هنا إلى حزب “ماس باييس” الذي أعلن عن انضمامه إلى الفكرة ومساندته لها. الحجر المذكور لا يتعلق فقط بمكتب مجلسي البرلمان الاسباني، وإن كانت هذه المحطة هي البارزة، حيث سبق وشملت مبادرات على صعيد الجماعات منذ صعود اليمين المتطرف في مجلس جهة أندلسيا وانضمامه إلى تحالف اليمين الذي أقصى اليسار من تسييره منذ مطلع دجنبر 2018، ومن ذلك بلدية مدريد التي تحالف فيها اليسار وصادق على توصية بمنع إصدار أي اتفاق يخدم أهداف الحزب الذي يقيم ميزا على أساس الجنس ويدعو إلى إلغاء التدابير الحمائية للمرأة، تلميحا إلى حزب فوكس. جدير بالذكر أن المصطلح مقتبس من ميدان الطب، وهو يشير إلى المنع الذي يطبق على بعض المصابين بأمراض خطيرة ومعدية، جرى توظيفه في مجال السياسة للإشارة إلى الحصار الذي يضرب على بعض الإيديولوجيات الخطيرة لمنع انتشارها، أو على أحزاب تتبنى هذه الإيديولوجيات التي تتناقض مع قيم المجتمع السائدة. وبالاطلاع على تجربة عموم البلدان الأوربية في هذا المجال، يمكن أن نشير إلى الحجر الصحي (السياسي) الذي طبق على عدة أحزاب في أعقاب الحرب العالمية الثانية من بينها الحزب النازي، الذي تقرر منعه في قرار شهير للمحكمة الدستورية الألمانية، وحاليا يطبق على حزب “بديل من اجل ألمانيا”، وهو حزب يصنف في اليمين المتطرف ومن بين ما يتبناه رفضه للوحدة الأوربية ودعوته للعودة إلى عملة المارك بدل الأورو، كما عاد المجتمع الألماني إلى مناقشة الحجر على حزب النازيين الجدد وأحال القضية على أنظار المحكمة الدستورية الألمانية. في فرنسا نجد أن حزب الجبهة الوطنية بزعامة ماري لوبان عانى كثيرا لعقود من هذا الحجر، من ابرز محطاته تحالف اليسار واليمين من اجل انتخاب “جاك شيراك” في العام 2002 تجنبا لفوز جون ماري لوبين الذي فاجأ فرنسا بمروره إلى الدور الثاني للانتخابات. البعض يعتبر أن الحجر الصحي السياسي يعاكس الديمقراطية، فهو بمثابة تحالف ضد إرادة الناخبين، غير أن الكثيرين يعتبرونه أداة لحمايتها، لاسيما في مواجهة الأحزاب والقوى السياسية التي لا تؤمن بالديمقراطية، على اعتبار أن الديمقراطية تقتضي الإيمان بكافة مبادئها، بما فيها احترام مبدأ التداول على السلطة