الجدل الدائر في مسألة الإجهاض في عمقه ليس بين دعاة الحرية الشخصية والحق في التصرف في الجسد، كما يزعمون، وبين خصوم تلك الحريات والمحافظين الرافضين للتجديد والحداثة والتطور والمتشوقين للتضييق على الناس، وليس أمرا خاصا ببلدنا وإنما هو أمر عالمي بين من يمكن تسميتهم ب”دعاة القتل” شعروا بذلك أو لم يشعروا، و”دعاة الحق في الحياة”. ففي الولاياتالمتحدةالأمريكية أيضا يوجد تياران كما في العديد من البلدان، تيار مع إباحة الإجهاض (pro-choice) أي الموالين للحرية والاختيار في أمر الإجهاض، وتيار آخر مع منعه وتحريمه (pro-life) أي الموالين للحياة. واستطلاعات الرأي في العديد من البلدان يؤكد هذا الإنقسام، فقد جرى “استطلاع في أبريل 2009 في الولاياتالمتحدة حول الرأي العام الأمريكي بشأن الإجهاض؛ رأى 18 ٪ أن الإجهاض ينبغي أن يكون “قانونيا في جميع الحالات”، و 28 ٪ رأوا أن الإجهاض ينبغي أن يكون “قانونيا في معظم الحالات”، ورأى 28 ٪ أن الإجهاض ينبغي أن يكون “غير قانوني في معظم الحالات”، وقال 16 ٪ أن الإجهاض ينبغي أن يكون “محظورا في جميع الحالات”. استبيان آخر في نوفمبر 2005 في المكسيك، وجد أن 73.4٪ يعتقدون أنه ينبغي عدم إضفاء الشرعية على الإجهاض في حين أن 11.2 ٪ يعتقدون أنه ينبغي إضفاء الشرعية عليه. ووجد استطلاع للمواقف في أمريكا الجنوبية، في ديسمبر 2003 أن 30 ٪ من الأرجنتينيين يعتقدون أن الإجهاض في الأرجنتين ينبغي أن يكون قانونيا” بغض النظر عن الوضع”، 47 ٪ أنه يجب السماح به “في بعض الظروف”، و 23 ٪ أنه لا ينبغي السماح به “بغض النظر عن الوضع”. ووجد استطلاع مارس 2007 بشأن قانون الإجهاض في البرازيل أن 65 ٪ من البرازيليين يعتقدون أنه “لا ينبغي تعديل القانون”، و 16 ٪ انه ينبغي توسيع “السماح للإجهاض في حالات أخرى”، و 10 ٪ أن الإجهاض يجب أن يكون “مُجَرم”. ووجد استطلاع يوليو 2005 في كولومبيا أن 65.6 ٪ قالوا إنهم يعتقدون أن الإجهاض ينبغي أن يظل غير مشروع، 26.9 ٪ أنه يجب أن يكون قانونيا، وجرى “استبيان تم في مايو 2005 حول الإجهاض في 10 بلدان أوروبية، سأل عما إذا كان الرأي العام متفق مع ما جاء في البيان الذي يقول “اذا كانت المرأة لا تريد أطفال، فإنها ينبغي أن يسمح لها بإجراء عملية إجهاض”. أعلى مستوى للموافقة كان 81٪ (في الجمهورية التشيكية)، في حين كان أقل نسبة موافقة 47٪ في بولندا”. ولا شك من وجود اعتبارات عديدة وراء اختلاف وجهات نظر الناس في البلدان غير الإسلامية، اعتبارات ثقافية واجتماعية واقتصادية ودينية وتاريخية..، ولو جرى استطلاع بقواعده العلمية في بلادنا وعموم بلاد المسلمين وبأسئلة واضحة بينة غير ملغومة حول تقنين الإجهاض وإباحته لفوجئ “دعاة القتل” من مقدار الرفض الذي سيقابل به الرأي الداعي إلى إباحة الإجهاض وتوسيع تلك الإباحة، وذلك لاعتبار بسيط ومفهوم وهو التقدير المعتبر الذي لا تزال تحظى به المرجعية الإسلامية في قلوب وعواطف ووجدان السواد الأعظم من الناس وإن أوحى سلوكهم أحيانا بخلاف ذلك. وذلك أن حق الحياة مقدم في الدين على كل اعتبار آخر، فالله واهبها وهو خالقها وبارئها ولا يحق لأي مخلوق أن يصادرها ولو كانت حياته هو، أو روحه التي بين جنبيه، ألم يحرم الإسلام الانتحار وجعله من كبائر الذنوب؟ قال تعالى:” وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) سورة:النساء، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) ولا يجوز قتل الغير أو التسبب في ذلك إلا بحق وبإذن الشرع، قال تعالى:” وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) الأنعام، وحذرنا من قتل الأولاد مهما تكن الظروف، قال تعالى:” وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31) الإسراء، وفي قوله تعالى “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” تعبير دقيق فالنفس “نفسان: نفس حية بشرية لا روح فيها وهي الوجود الموضوعي( البشر) ونفس نفخت فيها الروح وهي النفس الإنسانية” وأرى أن مجرد الحياة الجنينية الأولى في الرحم قبل نفخ الروح موجبة للحرمة فلا يجوز التعدي عليها. فحرمة الجنين تبدأ مع وجود الحياة فيه، جاء في حاشية ابن عابدين (3/176): “لو أرادت (الحامل) الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح، هل يباح لها ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه، وكان الفقيه علي بن موسى يقول: إنه يكره؛ فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله إلى الحياة، فيكون له حكم الحياة كما في بيضة الحرم، ونحوه في الظهيرية”. اه وربما قصد بالكراهة كراهة التحريم، فيرجع القول إلى القول بالتحريم، وهو غير بعيد. « ويقصد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ… الآية) (المائدة: من الآية95).وجاء في السنة تحريم أكل بيض الصيد؛ لأنه أصل الصيد، فكذلك لا يجوز اجهاض الجنين متى بدأت حياته ونبض قلبه ولو قبل نفخ الروح لأن تلك المرحلة أصل الإنسان.. وهي تكون كذلك بحسب الطب الحديث ابتداء من اسبوعين مستدلين بانفصال التوأمين في اليوم 14 ، ويؤكدون ان قلب الجنين تبدأ نبضاته نهاية الاسبوع الثالث اي يوم 21 من بداية الحمل، وتشتد الحرمة عندما يأخذ صورته الآدمية البشرية السوية، أي بعد أربعين يوما من جمع خلقه في بطن أمه. وهو بالتعبير القرآني عندما يصير “خلقا آخر” فلا تسمى النطفة نفسا ولا العلقة ولا المضغة كذلك ، قال تعالى:”(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين). وروى مسلم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني أنه سمع عبدالله بن مسعود يقول : الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره . فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري . فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال : وكيف يشقى رجل بغير عمل ؟ فقال له الرجل : أتعجب من ذلك ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة ، بعث الله إليها ملكا . فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها . ثم قال : يا رب ! أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء . ويكتب الملك . ثم يقول : يا رب ! أجله . فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك . ثم يقول : يا رب ! رزقه . فيقضي ربك ما شاء . ويكتب الملك . ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده . فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص”. فبظهور ملامح البشرية على الجنين يصبح نفسا بشرية كاملة الحرمة يحرم الاعتداء عليها أوحرمانها من حق الحياة، وفي هذا المستوى يكون كل اعتداء عليه بالخطأ جريمة يعاقب عليها في الشرع بما يسمى ب”غرة” أي عشر دية أمه.أي حوالي 213 جراما من الذهب.(88256 درهم تقريبا) مع الكفارة للمتسبب سواء كان المرأة نفسها أو ساعدها من طبيب وغيره. قال الرملي في(نهاية المحتاج ): ويقوى التحريم فيما قرب من زمن النفخ لأنه جريمة، ثم إن تشكل في صورة آدمي وأدركته القوابل وجبت الغرة) (نهاية المحتاج (8/442). ونص زين الدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي في (البحر الرائق )على أن الجنين الذي ظهر بعض خلقه بأنه يعتبر ولد” وقال غيره من العلماء لا يجوز التعرض للجنين إذا استبان بعض خلقه، فإذا تميز عن العلقة والدم أصبح نفسا، ولاشك بأن حرمة النفس محسومة بالإجماع، وبنص القران الكريم. وتحريم الإسقاط في جميع الأطوار ، هو قول أكثر المالكية وبعض الحنفية، والغزالي وابن العماد وابن حجر من الشافعية ، وابن الجوزي من الحنابلة، وقول الظاهرية وهو واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب والعز بن عبد السلام _رحمهم الله تعالى. فببلوغ اكتمال انسانيته بنفخ الروح تكون الجريمة أشنع، ورغم وجود الاختلاف بين حديثين في موضوع نفخ الروح بين اثنين واربعين يوما وبين اربعة اشهر، فمقتضى الاجتهاد المقاصدي استحضار كلية الحفاظ على النفوس باعتبارها احد اهم الضروريات الخمس والتي تكاد تنعدم الضرورات الاخرى اذا ضاعت النفس، ثم الاخذ بالاحوط وسد الذرائع في حفظها وتاكيد حرمتها، فالحديثان لم يردا في أصل موضوع الاجهاض واسقاط الجنين ومتى يباح ومتى لا يجوز، انما ورد الحديثان في امر الروح، وامر الروح الى الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى: “يسالونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم الا قليلا” ثم ان تعارض الحديثين يزيد في ظنيتهما ويفتح المجال للخبرة الطبية التي تطورت كثيرا في زماننا مقارنة بزمان فقهائنا السابقين واذا كان من ترجيح فيرجح حديث الاثنين والاربعين الذي تقويه المعلومات التشريحية والطبية الحديثة احتياطا للنفوس والارواح، ووجب ابطال جميع الاقوال السابقة التي تتجاوز هذه المدة لان لسلفنا عذر عدم الاطلاع على ما اطلعنا عليه اليوم من كون صورة الجنين في الاربعين تكون مكتملة او تكاد. واتعجب ممن يتمسح بالحداثة والاعلاء من شان العلم والتقدم حتى اذا كان بصدد التساهل في قتل الاجنة قال بالتسعين يوما وبالمائة والعشرين متعللا بقول الفقهاء المبني على مجرد ظنون لا يسنده تطور علم الاجنة المعاصر. وقد نقل الإجماع على حرمة الإجهاض بعد نفخ الروح الفقيه المالكي ابن جزي في قوانينه الفقهية حيث قال: وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له, وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح فإنه قتل نفس إجماعا) ( القوانين الفقهية(141). فالاصل حرمة الإقدام على إسقاط الأجنة قبل التخلق أو بعد التخلق ، أو قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح ، وهذا الأصل تدل عليه أدلة الكتاب والسنة ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم اخبر أن الروح تنفخ في موعد محدد ليس فيه اي دليل على جواز إتلاف الجنين في اي مرحلة كان. ويستثنى ما يغلب على ظن الطبيب الثقة أنه سيفضي إلى هلاك المرأة وموتها مثل أن يتخلق الجنين في غير موضعه الطبيعي ثم ينتفخ ويفجر القناة وينفجر في بطن المرأة فيقتلها ويموت الجنين نفسه ، فحينئذ يجوز الإسقاط ويجوز التدخل الجراحي لإخراج هذا الجنين ؛ لأنه لإنقاذ نفس محرمة وليس من باب إسقاط الأجنة ؛ وإنما هو تلافٍ لضرر، فالحياة المتيقنة مقدمة على الحياة المظنونة، كما يمكن للتي تعرضت للاغتصاب او زنا المحارم ان تسارع الى شفط وغسل رحمها قبل متم الاسبوعين من وقوع المصيبة بها بمساعدة طبية مناسبة تفاديا لذنب قتل الجنين وإجهاضه. وغير هذا من المبررات التي تقدم لتقنين الإجهاض وتوسيع إباحته لا يرقى إلى أن نضحي بنفس محترمة شرعا في سبيله، فاذا كان الاعتداء على الحيوان جريمة يعاقب عليها القانون ودخلت امراة النار في هرة تهاونت في شان حياتها اتهون علينا نفس الجنين قبل نفخ الروح ونتواطأ على اباحة اجهاضه وقتله بمررات لا ترقى لحرمة النفوس؟ واما الاغتصاب فهو فعلا جريمة عظيمة وتستوجب عقوبة صارمة ولكن لا ارى انها تبرر إضافة جريمة اخرى عليها وهو قتل الجنين، وإنما يكون الاجتهاد في احتواء الآثار ورعاية الجنين الذي لا إثم له ولا ذنب، والاجتهاد حتى لتسليمه لمن يقوم بشأنه من أفراد أو مؤسسات موضوعة لهذا الغرض، ومثل ذلك يقال في زنا المحارم أو حمل المختلات عقليا ونحو ذلك من الحالات، فضلا عن عدم الرغبة في الحمل أو دوافع الحاجة والفقر وما في حكم ذلك. كما أن التلويح بالأرقام الكبيرة (مابين 600 و800 حالة يوميا ببلدنا) لا يعدو ان يكون وسيلة للضغط والترويج للتغيير القانوني المنشود، والا اذا كان الامر سريا فكيف عرفت كل هذه الارقام واذا كانت حقيقية كيف تواطأ الجميع على تطبيق القانون بشأنها، وعلى فرض صحة تلك الارقام، فيمكن القول بأن التقنين لن يزيده إلا استفحالا وتزايدا والدليل ما يحدث في الدول التي قننته والأرقام تتحدث عن حوالي خمسين مليون إجهاض سنوي في العالم وأكثر من نصفها في الدول التي تقننه. ولو كان الجهد الذي يبذل الآن في السعي إلى تقنين الإجهاض وتوسيع إباحته يضاف إلى جهود تعميق العفة في المجتمع وتشجيع الزواج الشرعي ودعم أمن الأعراض وابداع الحلول لحالات الاغتصاب وزنا المحارم والدفاع عن الحق في الحياة لكان أجدى وأنفع من السعي في الاتجاه الخطأ. ولينتبه كل من يسعى في توسيع دائرة الاجهاض لحسابه عند ربه عندما يؤخذ بجريرة كل جنين أجهض بغير حق بسعيه ورايه وتقنينه وتشريعه وتصويته. وليجعل نصب عينه وقلبه قول ربه ” مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” ومن العار ان نصطف في تيار “قتل الاجنة” الدولي ونحن مسلمين ويسبقنا الى الدفاع عن حق الجنين في الحياة تيار “الحق في الحياة” الدولي من غير المسلمين، ولا يتوهمن احد انه يقف وسطا بين المانعين والمجيزين ووسطا بين المتشددين والمتساهلين فحرمة النفوس كما الصدق والوفاء وقول الحق والطاعة لا وسطية فيها بل هي مطلوبة بكمالها الممكن.