الأسبوع الأول: في محطة القطار بالبيضاء اشتريت كل الجرائد الوطنية والأسبوعية التي هجرتها منذ سنوات، اللهم بعض القراءة للعناوين في المقهى على مضض، اشتريتها لتزجية الوقت فقط، طالعتها خلال الظهيرة، لاجديد ولاشيء تغير، بل ازدادت حدة السخافة في الصحافة-هناك استثناءات بخصوص بعض الملفات التربوية أو الثقافية التي لازال بعض الصحافيين يشرفون عليها- القضايا الحقيقية يتم تعميمها وسط ركام من الأخبار اليومية التافهة لشغل الرأي العام باليومي، وتصوير الأمور وكأنها أحداث عادية تقع بفعل عدم نضج المجتمع، أو استهتار مسؤول شاذ، أو تقصير من طرف آخر في مسؤولياته. لا أحد يشير للنظام العام للأشياء الممؤسس خارجيا أو داخليا في سيكولجة كل فرد منا بفعل التماهي مع النسق. أخبار النهب للمال العام تملأ الصفحات، يوميا حتى صار القراء في المقاهي ينظرون إليها باعتبارها حالات عارضة وليست نسقا عاما ترسخ بفعل إقصاء المجتمع من حقه في السياسة والسياسي. أطالع افتتاحية لعبد الحميد الجماهيري يولّد فيها المعنى من الغبار، ويحاول أن يستنطق بكل أدوات التحليل التي يبدعها السخافي/الصحافي اليوم لتبرير الوضع الذي وصلنا إليه معيدا كيل المدح للتناوب التوافقي بقيادة اليوسفي، ومذكرا بمحورية الملكية في التغيير الديمقراطي وقيادتها لهذا التغيير، هل الجماهري أصم أم أعمى؟ أبدا! لكنها لعبة البقاء على رأس جريدة حزبية يقود الحزب فيها رجل لايقبل أن يكون معه سوى من كان ثعبانا يغير جلده باستمرار للتأقلم والتكيف والمساهمة و التخذير، الحزب الوطني والاشتراكي البرنامج والاجتماعي يتآكل يوميا، لماذا يصير التاريخ عبئا على صناعه وحالميه، هو الزمن اللعبة الوحيدة التي لايمكن لأحد أن يقاومها، إنها تكشف زيف الجميع، حتى المعادن النفيسة والخسيسة، فما بالك بالبشر متقلبي المزاج. المبادئ معايير متعالية كلما صار الشخص واقعيا صار أكثر وضاعة وخسة هذا هو الدرس الوحيد بنظري، شعرت بالملل والتعب من التفكير، هرولت مسرعا لموجة قادمة اعترضتها مثل فيل واستمتعت بالماء، لكن الألم لازال مستمرا، عليك أن تفكر لتعيش وأن تأكل لتحيا، كم هم كثيرون هؤلاء الأحياء وقليلون أولئك الذين لديهم شغف العيش؟ مع سائق طاكسي، مررنا من جانب أحياء تبدوا مكتظة جدا، وسحنات أصحابها تظهر أنهم مغاربة حقيقيون، سألت صاحب الطاكسي عن الأمر، عن سبب هذه التناقضات، فيلات هنا وفي الخلف كارينات، كان هائجا، قال لي: ماذا تريد؟ لم تعد هناك دولة، هناك مافيات منظمة في جميع القطاعات، أضاف بالحرف،”ليست هناك مؤسسات، هذي دولة ومؤسسات بلعاني خذها مني نصيحة” سأشرح”بلعاني” عبارة مغربية تعني أن الأمور ليست جدية مطلقا، وأن لاشيء يعني أن الأمر حقيقي”، نزلت في مانيسمان أسأل عن الصويري أو نبيل المشهور بأكلات السمك هنا حسب ما حكى لي نادل من أكدز يشتغل في مقهى لابرجواز، السؤال الذي ظل في ذهني من سائق الطاكسي وصولا إلى ماسح أحدية، الجميع يفهم اللعبة لكن من يضمن استمراريتها ؟ هناك شيء ليس على ما يرام، شعور الناس بالأشياء لايعني وعيهم بها، ربما هذا ما يمنع وقوع حدث يغير قواعد اللعبة . سير تكول الحوت “وديها في كرك” يقول صوت ممل ومنهك في داخلي. في سوق تجاري يحكى أن أسهمه تعود للهولدينغ الملكي، دخلته فقط للتجول وشراء علب طام، نظرا لإقفال أصحاب المحلات في حي يسمى بنيس على اسم المدينة الفرنسية بالمحمدية، قيل لي من طرف سائق طاكسي أن الوالي الرميل يقيم في إحدى الفيلات خلفكم، داخل هذا المركب التجاري امرأة تضرب ابنتها بشكل عنيف وهي تصرخ فيها، أخبرتك أن لا تحرجينني دائما، “جينا ندورو ماشي نشري ليك ، باش غادي نشري ليك”، الفتاة الصغيرة تلاحظ في مكان الألعاب التي يبلغ ثمنها بين 200 درهم و 2000 درهم ، بعض الأطفال ” البويض جدا هههه” يشترون فلم تحرم هي من هذا الحق؟ لحسن الحظ أنني أعرف اللعبة وأقوم بإعداد نفسي لأنور مسبقا، حيث أخبره أن هذه الألعاب تافهة، ومعطلة وأن ألعاب السوق الأسبوعي والجوطية وغراج علال أفضل وأجمل. المشكلة ليست في الألعاب بل في غياب الرقابة على الأثمنة الباهظة، هناك ألعاب تجدها في سوق الجملة في درب عمر مثلا ب 300 درهم بينما سعرها في ياتو أو مرجان يصل إلى 1000 درهم ويكتبون على اليسار PROMOTION -50% أضحك وأمر،أين جمعية حماية المستهلكين.ههههه الأهم هو ما طرح في ذهني: نحن هنا في قلب مركب تجاري مرجان تحيط به كل العلامات التجارية المعروفة من أديداس و دكتلون وكتيا ومكدونالدز وسيليو وغيرها وخلف المركب ، يوجد الكاريان وأمامه حي نيس، وأحياء أخرى، الذي استغربت زوجتي منه هو غياب الحركة فيه، والسبب هو أن الأغلبية لا تتحرك على أقدامها، فكل أنواع السيارات الفاخرة توجد هنا من الرانج إلى الجاغوار والفيراري، مدينة بهذا الحجم من التناقضات المجالية لابد أن تنفجر يوما، إنه قانون فيزيائي، تنافر العناصر لايمكنه إلا أن يولد نوعا من الطاقة النشيطة في العمق التي ستؤدي إلى انفجار كبير يوما ما، لا أحد يفكر هنا في هذا الميز العنصري الليّن، فهناك جدران كبيرة بين الأحياء وبين الطبقات، والأسواق والناس، ربما تجسدها أسوار الفيلات وربما غلاء العقار و الأثمنة الباهظة لبعض المحلات “6 تاع لبتيبانات قيمتها 6 دراهم تباع في مرجان المحمدية ب 32 درهما، لا أحد يحتج، السوق وزبائنه المعتادون لايشكل لهم الثمن مشكلة، لكن الأمر لايتعلق بالقدرة على الدفع بل بالمعيار، بالقانون…….. إنه عزل منهجي قائم بطرق خفية وظاهرة، إنه نفس ما وقع في جنوب إفريقيا من طرف الإنجليز وفي أمريكا في حق السود، لكن في المغرب يقع الأمر دون أن تراه الأغلبية الساحقة، لأن أساطير عديدة تغذي وهما تاريخيا بآسم الإجماع والاستثناء والمؤمنون إخوة والمغاربة يد واحدة… أساطير لا يقبلها غير السذج والمرضى، ليس المشكل في أن تكون هناك فئات غنية لأن الأمر مرتبط بالتوزيع في العالم، الإشكال في هذه الفوارق والتناقضات الصارخة التي لايمكن تبريرها في بلد لايحقق نسبة نمو تصل إلى 3.5 في المئة بشكل قار، ومديونية تصل إلى رهن 87% من الناتج الوطني لسادة العالم، وتجد فيه ثروة ريعية ممركزة في يد طبقة واحدة، هذا لايمكن إلا أن يكون وضعا شبيها بالتيتانيك المشي بسلام تام نحو الحائط كما يقول صديقي منير الحجوجي. نحو الكارثة. يوم آخر : أستيقظ في السابعة صباحا، أمشي قليلا وصولا لشاطئ مونيكا أغطس رأسي في الماء وأعود للمقهى لأتناول فطوري، هناك شيء آخر يسترعي الانتباه، الحرمان وسوء التوزيع المجالي والنهب العام هو السبب الأول في جميع الأمراض الاجتماعية، التحرش، التعصب الديني، السلفية، العداء الشديد لجسد المرأة، الإهتمام بالشريعة على حساب الأخلاق، كلها تجد عمقها في الحرمان وتجربة الذل والاحتقار التي ينتجها النظام من خلال جعل الاحتكار لكل الخيرات في البلد في يد أقلية صغيرة جدا، لاحظت أنه في حي نيس ومونيكا، كل الذي يخرجون من هذه الفيلات يلبسون ألبسة قصيرة جدا لكن الأمر لايثير انتباه أو حقد الأغلبية التي تجلس بالعشرات في الصباح الباكر لتناول الفطور في مقهى “لابرجواز”، يركنون سياراتهم، من يبقي نفسه في هذا الحي يمكنه أن يحكم على أن المغرب بلد حداثي، وأن الاختلاف متجذر هنا، وأن التشدد الديني مجرد نشاز وحالة معزولة، فرض علي الابتعاد حوالي 3 كلمترات لشراء الدجاج، نظرا لأن الحي الذي أتواجد فيه هناك إمكانية وحيدة وهي دجاج مرجان الذي لا يعجبني، لاحظت سحنات الباعة المتجولين وأصحاب الدكاكين لم تكن راضية على قميص زوجتي القصير بنظرهم، لا أحد تجرأ على الحديث، أنا أيضا “مسبب نقودها مع شي قمقوم”، لكن الأمر يبدوا غير مقبول وهناك امتعاض يعبرون عنه بنظراتهم، تلاوة للقرآن في أغلب المحلات، هنا تبدو مقولة أن البؤساء أكثر تدينا معقولة ومعبرة عن الواقع، هذا لايعني أن الطبقات الاجتماعية الأخرى أكثر حداثة بل هي أكثر انفتاحا على قيم السوق والاستهلاك، إنها تعيش استيلابا من نوع آخر، وفهما من نوع آخر للحياة، إنها تعتبر أن الحياة المعاصرة تتطلب هذا النوع من التسام على التدخل في شؤون الآخرين وفي أجسادهم ومعتقداتهم، لكنها في الحقيقة لاتؤمن بذلك عن فهم تاريخي أو سياسي أو ثقافي بل فقط لأنها نفسيا تجد نفسها في حاجة لهذا النوع من القيم للحفاظ على مصالحها وأسلوبها ونمطها في الحياة، بل حتى في قلب هذه الأحياء الراقية تجد المتشدد والمتعصب الديني للباس وأسلوب الحياة المبني على الاختلاف الجنسي والمؤمن بأن المساواة في الإرث تجاوز لحدود الله، لكن حين يتعلق الأمر بالمال فالقانون واحد “هز الشاقور والمقدة ودخل للسوق، وفي الجمعة والعيد لبس الجلابة البزيوية ولا الجبادول وقول على مولانا الحنين”. يوم آخر: ستحاول أن تتخلص من كل هذه الملاحظات لتعود لذاتك، لقد وعدت أن أمضي الأسبوع الأول من العطلة دون تفكر سوى في نفسك وذاتك، لاتهتم لأمر العالم، للأسف جربت ووجدت أن الأمر غير ممكن إن أردت أن تكون إنسانا، لاتوجد ذات يمكن العودة إليها، العالم للأسف يقيم داخلنا، الأمر مختلف من الناحية الوجدانية، لايمكن للفينومينولوجيا أن تسعفنا هنا، فالعالم لايتجلى بآعتباره موضوعا خالصا بل هو في العمق وعي بهذا الموضوع بشكل تأويلي متآن في الزمان والمكان، لكنه ليس تأويلا ثابتا، بل هو تأويل خاضع لصيرورة شعورنا المتغير باستمرار ولعواطفنا المتضاربة، هذا الشعور بالعالم لايمكن التخلص منه، يحتاج الأمر منك ليس إلى اللامبالاة، لقد اكتشفت أن اللامبالاة نوع من الشعارات الزائفة، لقد ارتكب صاحب كتاب فن اللامبالاة جريمة في حق الفكرة الأبيقورية القديمة، وهي جرائم متعددة ترتكب اليوم في حق الفكر وفي حق كل شيء من أجل الربح، كيف يمكن لمن لايلهم نفسه أن يكون ملهما؟ شعار: لا تهتم سوى بما يمتعك وابتعد عن ما يؤلمك زائف ومخادع، الأمر مختلف، ليست اللامبالاة هي التي تجعل الناس لايهتمون بالعمومي، وبقضاياه، إنه مرض خاص يمكن أن نسميه الأنانية العاطفية، إن عدم الاكتراث هو في حد ذاته مبالاة شديدة تجاه الأشياء، لكن الفرد يمارس نوعا من القمع على ذاته، اتركهم، لست المخلّص، لاتهتم، كلها تصويغات سيئة وتبريرات ذاتية، الأمر لا يحتاج أن تكون حيوانا، حتى هذه الفكرة التي اعتقدت أنها الدافع للمبالاة تخلصت منها، فالحيوان أيضا يهتم بمحيطه، يكفي أن تتابع سلسلة علمية حول السلوك الحيواني في البراري، البشر وحدهم يمكنهم أن لايكونوا مهتمين، حين يوجهون نظرهم فقط نحو أنفسهم ويستغرقون فيها، ربما العذاب الحقيقي هو أن تهتم فقط بنفسك، حاولت مرارا، ووجدت الأمر مستحيلا، إن الشرط الإنساني هو في العمق همّ وانهمام بهذا العالم.لاشيء يمكنه أن يكون أكثر قسوة على الحياة من كراهية ذاتك، يتحقق ذلك حين تكره الآخرين، وعشق الذات يبدأ من خلال حبك للآخرين أيضا. شاهدت فيلم Professor Marston and the Wonder Women حول السيكولوجي الشهير بهارفارد مارتون وعشيقته وزوجته، ساهم مرتون في اختراع جهاز لكشف الكذب، ركز اهتمامه حول فهم العواطف التي تجعل الناس يقبلون بالخضوع والهيمنة والسيطرة في الحب بكامل إرادتهم، فهم مرتون بذكاء أن السيطرة السياسية مختلفة عن السيطرة العاطفية، لا يوجد في الحب سلب للحرية، لأن الأمر لا يتعلق مطلقا بخصوم، ولا بمجال سياسيى متنازع حوله أو حق متعاقد عليه يؤطره القانون، إن الأمر نسبي، هذا الأمر توصلت إله منذ سنتين للأسف لم أعرف مرتون حينها ولا أحد غيره، هو نوع من التوارد للخواطر أم أن كونية العقل وقواعده توصل لنفس النتيجة كلما فكرنا بشكل منظم. كلما كانت العواطف نسبية كلما كانت أكثر نبلا، هناك توتر حاذ في الفيلم بين زوجة مرتون وعشيقته، اكتشفت زوجة مرتون أن زوجها يحب طالبته وهي تحبه، ثار غضبها وهجرته ثم عادت، الحب يجعل الناس يقبلون أمورا متناقضة أحيانا، هكذا يصور المخرج، جهاز كشف الكذب الذي اخترعوه طبقوه على أنفسهم فكان الأمر غريبا، اليزابيت زوجة مرتون تعشق إليف بيرن وإليف بيرن تعشق مرتون وتعشق زوجته أيضا، يتعاقد الجميع على أن تصبح إليف بيرن عشيقتهما في الفيراش ينام معها ميرتون والزابيت في نوع من “التسامح” الحاد، ينجبون الأبناء وتقع مشكلات، يظهر المخرج الطابع المحافظ للمجتمع الإنجليزي إبان الأربيعينيات ، سيحرم مرتون من وظيفته وإليزابيت من لقب الدكتوراه، سيؤدي تطور المجتمع الإنجليزي إلى القبول بهذه العلاقة التي اعتبرت في الأربيعينيات شاذة، سيموت مرتون حسب رواية الفيلم في الأخير وتقضي بيرن أيامها الأخيرة مع اليزابيت، الجميل في الفيلم هو تناوله لهذا الجانب الخاص من تطور القيم في الغرب نفسه، لاشيء يبقى ثابتا ما يرفضه الناس في عصر بدافع الحماقات يقبلونه في عصر آخر بدافع العقل والضرورة والتسامح، المشكلة هي أن العديد من الناس يدفعون الثمن حين تكون بعض القيم مفروضة على الناس بدافع الحقيقة، ما أجوجنا لسينما مثل هذه تخضع قيمنا للتشريح والنقاش، ثقافتنا الدينية تثقل فقط الأذن بينما العين لدينا لازالت مظلمة. الأسبوع الثاني: يتحدث خطاب ثورة الملك والشعب! عن النموذج التنموي، من حيث الأهداف والمنطلقات يبدو الأمر شبيها بشعار “العهد الجديد”، “تقرير الخمسينية”، وغيرها من الشعارات البراقة التي صنعت أملا إعلاميا للشعب، ومادة استهلكت إلى أن فقدت بريقها بفعل عدم الربط بين الشعارات والواقع، أكيد أن هناك بنية تحتية أطلقت مثل الطرقات، هامش للحرية الخاضعة لرقابة دقيقة حين تمس بالنظام وبالهياكل الأساسية له في مجالات: الأمن والقضاء والريع الاقتصادي والنهب الخطير للمال العام،…هل يمكن لشعار النموذج التنموي أن يخلق نفس الأمل في 2019 ؟ لا أعتقد، وصلت الأمور إلى حد لم تعد فيه للدولة مكانة رمزية لدى العموم، حتى إن صدرت الحقائق عنها، وصل الناس لحد صاروا يعتبرون فيه أن ماهية الدولة ليس فقط العنف، بل ماهو أخطر من ذلك، إنه الكذب باعتباره ماهيتها، وحين يصل الأمر لهذا الحد، معناه أنه لم يعد هناك معيار يمكن أن يستند له الناس في تدبير علاقاتهم، النموذج التنموي سيواجه نفس المصير، ليس لأننا عدميين، بل لأنه لايمكنك الحصول على نتائج مختلفة بتكرار نفس التجارب، هذا هو الغباء السياسي، فنفس الوجوه التي أفشلت مخرجات تقرير الخمسينية -الذي لا ننكر أنه قدم معطيات علمية عميقة تقدم بها كبار الأكاديميين المغاربة ومخرجات هيأة الإنصاف والمصالحة والمخطط الاستعجالي- هم نفس الوجوه سيساهمون في الترويج للنموذج التنموي الذي يبدو في عمقه خادما للتبعية، وليس مؤسسا للاستقلالية الاقتصادية والتقنية والسياسية والصناعية والعلمية والثقافية…، فلا شيء يبدأ من خارج نظام الترويض العام للشعب وهو المدرسة المؤسسة الوحيدة لتطويع الأفراد وتوجيههم وصقل استعداداتهم وفق أدلوجة الدولة وهل للدولة في المغرب أدلوجة؟ !، أما الحزب والجمعية والنقابة والكشفية كل هذه المؤسسات تم تدميرها، وإغراقها بالتافهين الذين يتصورون أن الشأن العام هو البحث عن غايات الدولة، والعمل على التطبيل لها عوض ممارسة الدور الرقابي والنقدي والتحريري للطاقات، هل القصر غافل عن هذه الأمور: قال العروي يوما الدولة مربية المربين، ومن يربي المربي؟ منتصف الليل عائد من حانة بشاطئ صابليت، على الطريق الذي يفصل حي نيس عن مكدونالز، أمامي ثلاث فتياة يتمايلن مع بعضهن، تقول واحدة للأخرى، بصوت جهور:” الله يجيب ليسهرنا فشي بار” ، أتابع المشهد متثاقلا، يقفن أمام مكدونالز المليئ في ليل متأخر على 0خره، بشبان وشابات يبدوا من سحناتهن أبناء من ولدوا بملاعق ذهبية، وسيارات فارهة تحيط به، يمر صاحب رونج وأنا قريب منهن أدخن سجارتي، فتقول لرفيقاتها بعد أن لمحت له بمصاحبتهن فتجاهلهن،” معجبناهش ولد القحبة”، ابتعدت عشرات الأمتار، قطعت الطريق لأقف إلى قرب من الفيلا المحادية لمكان إقامتي، بقيت أشاهد المشهد وأنغام أغنيةYou Are The Reason تخترق وجداني، وسؤال يدور في ذهني ” ما الشيء الذي يفقده الإنسان ليصل إلى هذا المستوى من القدرة على أن يجعل من جسده، لحمه ودمه سلعة يتاجر بها؟ ماهو نوع المعايير التي يتلقاها شخص ليصل به الأمر إلى حد أن يصبح ماهو خاص به، يمنح عن رضى وعن حد أذنى من العواطف والحب والمشاعر والإحترام المتبادل سلعة يبيعها مثلما تباع كل الأشياء المحدودة الصلاحية؟ لاجواب لدي، ولاحكم قيمة لأصدره في حقهن، هن ضحايا نظام عام، يدفع الناس إلى الاعتقاد أن المعيار هو اللامعيار، المعيار هو المال، ويجب تحصيله بأية وسيلة، لا أعتقد أن كل واحدة منهن لو وجدت شغلا يضمن لها حاجياتها الأساسية كان ممكنا لها أن تصل لذلك الحد، لكن هذه المقاربة الإقتصادية لا أميل لها، فهي عامل أساسي لكن هناك الأسلوبية الذي اتخذته الدعارة في الحياة العامة المعاصرة، لقد صار الاتجار في الجسد أسلوبا في الحياة، بل جزءا لايتجزأ من تربية اقتصادية موجهة توظفه لغايات التسويق وخلق الدافع للاستهلاك، إن الأمر جزء من الحياة المعاصرة، فالجميع يتاجرون بأجسادهم، فقط الثقافة المحلية والعالمية في شقها التمييزي والمحافظ تجعل المرأة مسؤولة عن الأمر وتوجه لها الأنظار، فالمديعة الجميلة، والبنكي الأنيق، والموديليست، وعارض وعارضة الأزياء، والإشهاري والإشهارية…. بماذا يتاجر كل واحد منهم ومنهن؟ كلنا نمارس الدعارة بشكل من الأشكال …. أنهيت سجائري وتأملي ولازالت سيئات الحظ في مكانهن، التفتت وضحكت مازحا وليس ساخرا مع نفسي، ربما البدينة معهن هي “العكس/النحس” تاع المجموعة بكاملها ههههه خاصهم شي لائحة فيها promotion . الخميس 22 غشت عائد من الرباط، على متن قطار، في المقصورة التي ركبتها، فتاة تلبس لباسا قصيرا جدا، تبدوا لطيفة داعبت ابنتي شهرزاد، لكنني كنت منتبها للشخص الذي ركب من الرباطالمدينة وجلس بنفس المقصورة، كان ممتعضا بأننا اخترقنا المقصورة، وهو يهم بقول شيء للفتاة التي تجلس وحيدة، كنت أرى في ملامحه ما يلي ،” التران خاوي أصحبي حرمتي علي البلان” وهي كانت مبتسمة كمن وجد منقدا” المهم في الرباط أكدال ركبت سيدة أخرى وابنتها وأحفادها الصغار، لا أعرف كنت مشتت الذهن، فلا زال كأس تشيفاز يلعب بتركيزي من الرباط، لكنني أحافظ على يقظتي، أثير نقاش حول القضاء والقدر، لم أستطع تذكر سياقه، لكن تحدثت الجدة العجوز على أن الله قسم الأرزاق، وأعطى لكل واحد رزقه، وعليه أن يرضى به دون نقاش، كنت حرمت على نفسي النقاش مع العامة في الأمور المرتبطة بالمعتقدات، لكنني أجد نفسي متورطا، لذلك قلت لها، كيف تفسرين قولك بأن الله قسم وفرق وأعطى لكل واحد حصته، وأنا أشعر هنا أنك تتهمين الله بدون وعي بالظلم، ومعاذ الله أن يكون ظالما وهو من حرم الظلم على نفسه بمنطوق النص، أجابت السيدة بصيغة أمرية لي : استغفر الله، استغفر الله، أعوذ بالله ، تدخل الرجل الطويل الذي “حرمنا ليه لبلان” ، أيضا قائلا ، أستغفر الله ، لا الله سبحانه وتعالى فرق الأرزاق. بشكل بيداغوجي: قلت لهم، لنبسط الأمور ولنؤجل الحسم في مسألة من منا على صواب ومن منا على خطأ، الآن كيف يمكن لهذه الفكرة أن تنسجم مع ما يلي: شخص في أقصى أزيلال أو الرشيدية أو طاطا أو في عمق غيتوهات البيضاء ……… ، أو بوكماز تموت زوجته أو ابنه بلسعة عقرب، أو بسبب نزيف نظرا لغياب سيارة إسعاف، أو غياب الدواء، أو شخص يموت بالسرطان نتيجة عدم قدرته على تحمل تكاليف المرض بسبب مخلفات النبّالم في الريف، بينما أشخاص، بإمكانهم الحصول على علاج في أفضل مستشفيات العالم، هل هناك عدالة في الأمر؟، هل الله يحب الرجل البرجوازي صاحب الحظ والقسمة الخيّرة، ويكره الانسان الفقير صاحب القسمة والحظ السيء أم أن غياب نظام للعدالة داخل البلد هو السبب في ذلك؟ قالت مستغربة اااااه ، والله “ياخذ فيهم الحق”، لكن ابنتها المتزوجة، إعترضت قائلة: المشكلة أن الفقر في العالم بأسره، -عرفت إبان الحديث أنها متزوحة من سعودي-، قالت حتى في السعودية يوجد فقراء، فالفقر من الله، قلت لها مستنكرا، لكن في السعودية يسيطر أكثر من 7000 أمير، وهناك جزية دفعتها السعودية مؤخرا لترامب بملايير الدولارات كان ممكنا أن تخصص لتنمية البلد وبلدان عربية أخرى، الأمر سيدتي الكريمة يتعلق بالعدالة، فحاولت بنبرة متثافقلة أن تبرر، لكن “راه الموظفين تيسرقو الدوا وتيشدوا الرشوة، ماشي الدولة”، في خلطة عجيبة ترجع الإشكال إلى جذر أخلاقي بالأساس. أجبت يا سيدتي الكريمة الأمر أكبر من ذلك، لنتفق أن الإنسان شرير، وأناني، ولايمكن الوثوق في طبيعته دائما، ليس في العالم العربي الكبير فقط بل في العالم، لكن في الدول المتقدمة الأمر لم يحل بشكل أخلاقي صرف، بل بنظام للعدالة يجعل المسؤوليات مرتبطة بالواجب، فكل من أخل بواجبه تتم معاقبته بشكل صارم. صحيح دائما هناك شروخات في نظام العدالة لكن بفعل يقظة المجتمع ، الإعلام، الجمعيات المدنية السياسية، والأحزاب، والهيئات المهنية، يتم التقليل و الحد من هذه الشروخ بشكل كبير . بنظري، الله يريد للناس جميعا أن يعيشوا بشكل أفضل ، لكنه ترك لهم مسؤولية تحقيق ذلك، إن كان هناك قدر سيدتي فهو موجود ولا ننكره، فعينيك وشعرك ووجهك ووالديك وبلدك الذي ولدت فيه، كلها أمور مقدرة، لكن أن تستمري في ظروف سيئة فهو مسؤوليتنا جميعا ولا يمكن القول أن الخلاص فردي أو الفشل فردي أيضا، هناك نظام يمكنه أن يقلل فرص الفشل أو يجعلها قاعدة عامة . وصلت للمحمدية، إلى اللقاء استمتعنا بالحديث معكم ونزلت وتركت للتاريخ ما يمكنه فعله، لأنني أومن أن الفكرة سمّ يؤثر مع الزمن، الغريب أن رفض زوجتي لفكرتها عن القدر أثارت الإستغراب فربما قالت “هذو مقطعين الاوراق كاملين وربما ستفكر ….”. يوم آخر في المقهى، حبيبان يتجادلان بعد خصام طويل ربما، الحبيبة تعاتبه عن سبب الغياب وهو يعاتبها عن سبب الكبرياء، لاشيء يمضي نحو الأفضل، الحب في العمق توتر دائم سببه غياب ذات تمنحنا المعنى والقيمة والاعتراف بكياننا الخاص، وليس نوعا من التملك الذي نمارسه تجاه الأشياء مثل أقلامنا أو ملابسنا أو منزلنا… تملّك من نوع خاص، إنه يشبه الهيمنة التي تمارسها وسائل الإعلام أحيانا بشكل ناعم، لا يمكن للتملك في الحب أن يكون معلنا أو معبرا عنه بشكل فج لأنه يخنق الجميع ، يقودني الأمر إلى التفكير في هذه العلاقات المغربية المعقدة المبنية على الاستحواذ والتملك، هذه الفكرة في العمق التي يقوم عليها الحب في بيئتنا سببها هذا الإستبطان للنظام الرأسمالي على مستوى علاقاته الإقتصادية، الحب الذي ينزع بنا نحو تملك الآخر في العمق هو استمرار لفكرة السيطرة على الطبيعة والعواطف والمادة و الذرة وكل شيء يحلم الإنسان بتملكه والسيطرة عليه. ربما بنظري المتواضع لم نستطع القيام بنوع من التمييز بين السيطرة على الطبيعة و الإعتراف بالإنسان، لازال الوجدان عندنا رخوا ولم ينفصل عن فكرة السيطرة/الحرب على الآخر المختلف، دائما هناك مسيطر وتابع، الكبرياء يخترق هذه العلاقات ويقوضها من الجذر، لأننا لم نستطع بأي شكل من الأشكال، أن نبني علاقات سوية، آمنت دوما أن الحب الحقيقي هو الذي يمنحنا فراقا هادئا أو استمرارية تتحمل التوترات مع قدرة هائلة على الاعتراف بالجراح التي يحدثها أحد الطرفين والتي يجب أن تقبل بصفح كبير، وليس بتعال الجبناء وغطرسة الوضعاء، في كلتا الأحوال حين تكون المشاعر حقيقة تجاه شخص آخر لايمكن لأحد أن يشعر بالخسارة، من يشعر بالخسارة لم يعشق يوما في حياته، يستمر العتاب لدرجة يخترق أحيانا آذان الجالسين في المقهى في الزاوية الأخرى. ورغم ذلك فالجميل في توترات الحب أنها اللحظة الوحيدة التي نكون فيها قادرين على تجاوز المجتمع غير آبهين سوى بمن تدور عوالمنا حولهم، لكن رغم ذلك يبقى في الحب جانب من المسؤوليات على الإنسان دائما أن يتحملها، وكذلك الكثير من الضرائب التي يجب أن ندفعها بسخاء، فكرة الهيمنة تعود مرة أخرى حين ينتفض في وجهها صارخا “نتي بغيتي تسيطري علي”، أستعيد فيلم بروفيسور مارتون ونظريته حول الهيمنة، لا أعتقد قلت يوما “العبودية في الحب هي أرقى أشكال الحرية ” ، لم أقصد العبودية بالشكل الكلاسيكي في الأدب السياسي أو التاريخ حيث يوجد سيد جالس على كرسيه أو أريكته وهناك عبيد يحيطون به، و رجال قد يحملونه على أكتافهم ونساء يقمن بتدليكه، أقصد بالعبودية هنا أنه حين نعطي بسخاء منقطع النظير في علاقة ما أو حين نتفق بشكل تام، لا نكون مستعبدين أبدا بل إننا أكثر حرية، وحدهم الأنانيون وعديمي المسؤولية من يعتبرون الأمر قيدا من القيود، لأنهم ليسوا مستعدين لتحميل مسؤولية مشاعرهم، يريدون كل شيء بدون مقابل وكأنهم في حانة يدفعون فيها فقط النقود ويحصلون على كؤوسهم، في الحب لاشيء يشترى، كل شيء يعطى بطيب خاطر، لم يصلوا لحل نهائيا هناك إزعاج، مللت من المقهى ومن ضجيج الحبيبين المزعجين فغادرت … مهما قلت، فأحيانا يكون لكلمة بسيطة القدرة على إفساد أحلام ووعود سنوات، سيتعلمون من صراعاتهم وربما إن أخلصوا للانتظار سيخلص الحب لهما . الأربعاء في لقاء مع صديقي العزيز المفكر المغربي إدريس هاني، رجل فاضل يعرف قيمة الصداقة وحدودها في مجتمع صار كل شيء فيه يمكنه أن يتغير، وأن يباع ويشترى، كان نقاشنا حول أطروحته التي ضمنها في كتابه :”حداثة السادة وحداثة العبيد”، حول الحرية والعدالة، حول التقدم والنهضة ، حول الفكر العربي والعالمي لخمس ساعات، تستمع للرجل دون ملل أو كلل، أثارتني فكرة فكرت فيها خلال عودتي في القطار عن الحداثة المغتصبة كما صورها في كتابه، يعتقد هاني أن النهضة لم تتحقق يوما والحداثة لم تتجلى، كيف يعقل أن نتحدث عن ما بعد الحداثة؟ يرفض رفضا قاطعا فكرة الحسم مع التراث أو فكرة الارتماء في أحضانه، لديه تصوره الخاص يسميه تصالح الإمكانين الإسلامي والحداثي ، الإمكان الاسلامي والإمكان الحداثي، يعتبر أن داخل المجالين، الديني والعلمي ومشتقاته من علوم إنسانية وآداب وعلوم وضعية إمكانات هائلة لنبني جسورا حقيقية لتحقيق النهضة المنشودة، لكن الأمر يظل على جميع المستويات رهين بمفهوم يشتقه مازحا وهو يستخدمه بكثافة لكنه يحاجج عليه بجدية وصرامة، مفهوم “الرجولة السياسة” ، يعتقد صديقي أن مفهوم الرجولة ليس قرينا للفحولة أو الذكورة، بل يقصد به الرمزية الأخلاقية المرتبطة بالشجاعة والوفاء والصدق والإخلاص والإلتزام بالعهود، تحقق هذا الشرط في الثقافة والسياسة والتربية وحده يمكنه أن ينتج لنا مشاريع علمية ونهضوية حقيقية، الرجل يتابع بدقة الدرس الفلسفي على المستوى الجامعي والثانوي التأهيلي، هو يعتقد أنه لا يمكن للفلسفة أن تؤدي أدوارها الحقيقية مالم نخلصها من التاريخ، التاريخ مهم للأكاديمي والطالب الباحث، أما المتعلم في المؤسسات التعليمية هو معني بشكل كبير بالحدس، يعلي إدريس هاني من قيمة الحدس ليجعله أساس كل المعارف، إنه يعبر عن الأمر بقول عميق:” المنطق يأتي لأن هناك جهل والحدس يأتي لأن هناك معرفة” . ،من المؤسف أن مفكرين ومثقفين لديهم ما يقولونه يحاربون بدعاوي طائفية في هذا البلد، كل الذين يدافعون عن الحداثة، بل أغلبهم يمر على مشروع الرجل الفكري عابرا أو لا يلتفت إليه، وهي عادتهم مع بعضهم فما بالك بالمختلف . صادف هذا اللقاء ما نشر عن العروي عبر الأخبار لا تعليق نحن في حاجة للرجولة السياسية. * أستاذ الفلسفة