من الأمور التي اتفقت عليها الشعوب بل حتى أصحاب القرار في دول العالم الإسلامي هي فساد دولهم لكن لم يتفقوا على طرق الإصلاح، بل لم يتسنى لهم بعد الجلوس للتفكير في ايجادها. لذا من الواجب على كل فرد محاولة التفكير في الحل حسب ما يسمح به الظرف ولو بدا الأمر عظيما لسببين: الأول ان ايجاد الحل كان فرض كفاية على النخبة، وبما أن النخبة لم تتخذ مبادرة جادة صار التفكير في الحل فرض عين، أما السبب الثاني عدم استصغار اي مبادرة ولو من ابسط الناس، لأن الحكمة ليست من احتكار النخبة فقط. وفقا لما سبق معنا، يتعين علينا جميعا خلق نقاش حول صياغة مشروع الإصلاح، دون نسيان كل ما يُقدم من محاولات هنا وهناك، لأن ورش الإصلاح والتفكير فيه ليس وليد لحظة، بل لم يعرف التوقف منذ الأزل إلا أن التجديد وإعادة تفكيك الواقع أمر لابد منه لإنتاج ما يناسب واقعنا، وليس الاكتفاء بالتقليد أو التهرب من تحمل المسؤولية بدعوى فشل من قبلنا. إن دول المغرب الكبير والشرق الأوسط عرف حركات احتجاجية بل انتفاضات عديدة، ولعل آخرها ما أُطلق عليه الربيع العربي. خلقت نقاشا واسعا وتفاعل معها الداني والقاصي، وأنتجت رؤى ومواقف مختلفة ومتباينة، ستكون سببا في الوصول إلى الحل ولو بعد حين. لذا لا ينبغي السماح لأنفسنا بالفشل او اليأس لمجرد أن الوضع بقي كما كان أو ازداد سوءا في بعض الحالات (كما وقع في مصر، سوريا، اليمن ….)، لسبب بسيط هو أن إصلاح الدولة يستغرق عقودا من الزمن وليس بالأمر السهل، لاسيما أن الفساد بلغ درجات لم يسبق أن عرفته الشعوب من قبل في تاريخهم. بدون شك، سنختلف في الطرق المقترحة للعلاج، وهذا أمر صحي يبعث الأمل. لكن قبل الانتقال إلى مناقشة الطرق المقترحة لابد من محاولة تفكيك الواقع وتحليله، ليتسنى بعد ذلك تقديم الحلول والترجيح بينها أو تصنيفها، حسب ما يتطلب الواقع أولا والغاية التي نتوخاها ثانيا. لعل القيام بعملية استقراء الواقع، وما يصاحبه من ملاحظات خلال محاولات المصلحين، يمكن القول أن التأكيد قد يكون وصل إلى شبه إجماع ؛بين فئات المجتمع بما في ذلك جزء ممن يشارك في صناعة القرار؛ على فقدان الثقة في من يتولون الأمور أو يقدم نفسه للقيادة، لكثرة الخيبات التي اصابت الشعوب من جراء وثوقهم تارة بالحكومات أو المسؤولين وتارة أخرى بالأطياف المعارضة لهم. بل وصل الأمر بنا إلى الحديث عن فقدان الأمل وليس الثقة فقط، الأمر الذي يستوجب على كل غيور على بلده المساهمة في إخراج الحل كيفما كان وبأي تكلفة، لأننا على حافة الهلاك المبين. لاسيما أن الأمل بمثابة روح الإنسان ومن لا روح له لا حياة له. بناء على ما سبق، يمكن اقتراح طريق للإصلاح عبر مرحلتين، الأولى سيكون فيه محاولة تحديد أنواع الفساد وطبقاته، والثانية طرق التعامل مع كل نوع من الفساد وطبقته. للتذكير فقط، عند الحديث عن الإصلاح لابد من استحضار أمرين أساسين ومحاولة التوفيق بينهما وهما: الأول متعلق بالمبادئ والقيم وما ينبغي أن يكون، والثاني الواقع وإكراهاته ومدى صعوبة تنزيل ما ينبغي أن يكون. وهذا الشيء ولو بدا بديهيا إلا أن واقع كل مناضل يخبرنا بتجاهله، بل نكرانه لهذا اثناء محاولة الإصلاح، إما بتسفيه كل حركة يقوم بها الغير أو المطالبة بالتغيير الجذري او الاتهام بالخيانة والفساد. لذا عند تحديد أنواع الفساد وطبقاته، ينشأ عندنا ضرورة الانتباه إلى عدم الوقوع في التناقضات، وذلك بالتركيز على نوع أو أنواع فقط من الفساد، أو طبقة من المفسدين دون غيرهم لوجود تحامل مسبق، أو هروبا من معرفة حقيقة انخراطنا؛ بعض الأحيان؛ في عملية الإفساد بقصد أو بدونه. كل هذا التنبيه المشار إليه من أجل تفادي قيام تشخيص ناقص ستكون له تأثيرات كبيرة على مشروع الإصلاح، الذي ما عاد يقبل أخطاء من هذا القبيل. حتى لا يكون قولنا ضرب من خيال لابد من أمثلة واقعية ليتضح ما قيل آنفا، فنجد مثلا منظمة سياسية كل خطاباتها فيها نقد للفساد والديكتاتورية الممارسة من طرف الحكومة، غير أن الفساد الداخلي للمنظمة يزكم الأنوف بل يستوجب محاربته قبل أي فساد آخر. لأن وصول أمثال هؤلاء لمركز القرار لا يفيد في شيء، بل يزيد الوضع سوء. الفساد لا يسهل القضاء عليه لانتشاره أو للدعم الذي يحصل عليه من طرف لوبيات قوية. لكن اكبر شيء يُصعب محاربة الفساد هو الاضطراب الحاصل في صفوف المصلحين. فقبل الانتقال إلى مباشرة الإصلاح لابد من الحسم في نوع العلاقة مع الفساد والمفسد، إما أن تكون علاقة تصحيح وتعاون أو علاقة تغيير وتصادم. ما يعني أن نظرتنا إلى المفسد مهمة جدا في تحديد طبيعة التعامل. لذا حسم النقاش في هذه النقطة بالذات هي المفصل، حيث أن القول بفساد المنظومة والمسؤولين مع فقدان الأمل فيهم مع اتهامهم بالعمالة والخيانة، لا يقبل إلا العمل على اقتلاع جذورهم. لكن يبقى الأخذ بمبدأ توازنات القوى لا مفر منه حتى لا نسقط في تكريس الخيانة وتمكين الفساد كما حدث في بعض الدول كمصر مثلا …، وإلا حُق لنا نعت المصلح بالمتهور أو بصفات الغباء والحمق، لأن من لا يدرك قيمة خصمه ودرجة قوته لا يحق له ادعاء امتلاك قدرة الإصلاح لفقده أهم عنصر وهو التنبؤ بردات فعل المحارَب. أما القول بفساد المنظومة دون اتهام احد بالخيانة ، فإنه يقبل التشارك في صناعة القرار، لكن مع أخذ الحيطة والحذر من الوقوع في تقوية نفوذ المفسدين من حيث لا ندري، إما باتخاذ قرارات توحي بجهل الواقع نتيجة التأثر بذكاء المفسد الذي يحسن تشويه صورة المصلح بدون التصادم معه، وإما بعدم ترتيب الأولويات بشكل أدق والاغترار بادعاء الإصلاح وثقة الشعب. ولعل تجربة إخواننا في حزب العدالة والتنمية (المغرب) أقرب إلى هذا الصنف مع وجود اختلافات طفيفة. ختاما، بكل تأكيد لا يمكن وصف علاج فعال لإصلاح الدولة في مقال أو خطبة عابرة، لكن واجب الاسهام في انتاج مشروع الاصلاح لابد منه. لأن خطاب اليأس بلغ أقصاه، وأن الجمع بين التناقض امسى أمرا عاديا. لذا، إن أي عملية إصلاح تتوقف على زرع الأمل ونبذ لغة اللامنطق وليس الاكتفاء بالنقد دون تقديم البدائل. لاسيما أن الجمع بين اتهام الحكام بالخيانة والعمالة مع انتظار مباشرة الإصلاح من قبلهم هو أعلى درجة الحمق والغباء الممكن تحقيقها. إذن لابد من الالتزام بمقتضيات الأحكام الصادرة منا إن أردنا حقا تحقيق الإصلاح. اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.