قرأت تدوينة/مقال الدكتور محمد جبرون الأخيرة حول الاحتجاجات الفئوية (الجمعة 14 يونيو 2019)، وسررت بها لأنها بالتأكيد تساهم في إخراج النقاش حول “الحراك” الذي يعرفه المجتمع المغربي اليوم من دائرة ضيقة يتبادل فيها الناس التهم والتصنيفات والتصفيات وغيرها، إلى مجال أرحب يستحضر الدولة والاصلاح والمصلحة العامة والمجتمع وغير ذلك من المفاهيم الكبرى. ولم أفاجأ أبدا بالمنحى الذي سار فيه الصديق جبرون في تحليله المقتضب حول الإحتجاجات التي يعرفها المغرب اليوم، بل تأكد أن رأيه لم يتغير، وهذا لا يعاب وأن كنا نختلف معه في مقاربته. لكن الذي دفع إلى هذا التفاعل النقدي مع تلك التدوينة/ المقال ليس “الغضب” منها، كما توقع الكاتب من كثيرين، بل لأنها خرجت من المسار الطبيعي (صفحته على الفايسبوك،…)، لتسلك مسارات تداول أخرى يوظفها فيها البعض لتبرير رؤى تشوش على ثقافة النضال الحقيقي خاصة داخل حزب العدالة والتنمية، بذل أن تنميها. وبالنظر إلى ما تنطوي عليه تلك التدوينة/ المقال من قراءة أعتبرها غير متوازنة، ولا مقنعة، بل أعتبرها “ظالمة” في حق الاحتجاجات الفئوية، فقد قررت أن أتفاعل معها باقتضاب. لقد عنون الصديق جبرون مقاله ب”الشجاعة التي لا نملكها والحقيقة التي نرفضها .. رأي على هامش احتجاجات كليات الطب”. والعنوان يلخص المقال، فهو يقارب الاحتجاجات الفئوية، وليس فقط المتعلقة بكليات الطب، من زاوية ثنائية “الشجاعة”، والتي يصنف المقال نفسه في خانتها، و”الحقيقة”، والتي يذهب المقال أحيانا إلى حد مصادرتها ونفي تملكها وإدراكها من طرف الغالبية العظمى التي تساير الاحتجاجات أو تساندها أو تتعاطف معها. والظاهر أن مشكلة مقال السيد جبرون هي أنه محكوم كالعادة، بهاجس الدولة أكثر من هاجس المجتمع، وبالخوف من أن تضعف الاحتجاجات الدولة، ويُمس الاستقرار أكثر من أن تحقق تلك الاحتجاجات استمتاع المجتمع بحقوقه وكرامته. بمعنى أننا أمام انحياز غالب نحو الدولة مقابل المجتمع. وهذا يجعل بيننا تناقضا عموديا. ففي آخر فقرة ختم بها السيد جبرون مقاله، باعتبارها زبدته، يقول حفظه الله: (إن الدولة المغربية، وعددا من الدول الشبيهة في محيط إقليمي مضطرب، وبالنظر إلى جملة من التحديات، تولي أهمية قصوى للاستقرار السياسي والاجتماعي، وربما في بعض الأحيان تضطر للتنازل، خوفا من تبعات وتداعيات التشدد في مواجهة الاحتجاج الفئوي. وتزداد هشاشة الدولة ورخاوتها أمام هذا النوع من الحركات الاحتجاجية بسبب اصطفاف أسماء معتبرة تنتمي للنخبة مع هذه الحركات وتعاطفها معها، متجاهلة الأخطار والخراب الذي تخلفه وراءها). ولذلك فالسيد جبرون لم يتوان، من خلال تحليله، من التموقف من الحركات الاحتجاجية والاعلان مند مطلع المقال على أن ( مآل الحركات الاحتجاجية، وتطوراتها، وأشكال عملها.. في السنوات القليلة الماضية يكشف بالملموس عن سطحية وسذاجة كبيرة تميز هذه الحركات من الناحية الفكرية والسياسية، ويكشف أيضا عن ضعف الأصوات الراشدة داخلها، وتواضعها أمام الأصوات المراهقة، حيث أمست هذه الحركات «جيوبا» و«خلايا» نَشِطَة لكل أشكال التطرف والتنطع السياسيين، وفضاء رحبا للمغامرين). وبين النظر إلى الاحتجاجات على أنها تهدد الاستقرار والنظر إليها على أنها محاضن “جيوب” و “خلايا” التطرف والمغامرة، يحاول السيد جبرون الاستدراك مباشرة بعد ذلك التعميم الذي قدم به المقال، لكن فقط ليؤكده مرة أخرى، حيث قال مباشرة(هذا الكلام، ليس معناه ومقتضاه إنكار شرعية الاحتجاج، وتبخيسه، والضرب في شرعيته، بل على العكس من ذلك، فالاحتجاج الراشد، والمسؤول، والذي يرعاه وسطاء شرعيون.. ظاهرة صحية، وجزء من العملية السياسية الديموقراطية، ومحرك أساسي للإصلاح والتقدم، لكن ظاهرة الاحتجاج التي تضخمت في بلادنا في السنوات القليلة الماضية، والتي نتحدث عنها في هذه المناسبة، خارج كل أطر الرعاية السياسية، وبدون تأطير عقلاني راشد، ليست من هذا النوع، وبعيدة عنه، فهي أقرب ما تكون لحالة العصيان منها إلى الاحتجاج، فغرضها في النهاية هو قهر الدولة، وإكراهها على الاستجابة لمطالبها «الضيقة»، ولا تتفهم هموم الدولة، ومشروعها الإصلاحي.. وغير منفتحة عليها، وتتعامل معها كما تعامل العدو). وقبل التطرق إلى وضعية “الاحتجاج الراشد والمسؤول، والذي يرعاه وسطاء شرعيون” ، الذي نناشده جميعا من الناحية النظرية، نسجل ملاحظة سريعة وهي أن المقال يعج بمصطلحات ذات الحمولة الأمنية الخطيرة في تحليله للاحتجاجات الفئوية، فنجد مثلا: “هشاشة الدولة”، “الخراب والدمار”، “جيوب” و “خلايا” التطرف والمغامرة، “العصيان”، “قهر الدولة”، و”التعامل مع الدولة ومشروعها كما تعامل العدو”… ولن نحاول تفسير ذلك ونكتفي بتسجيله. غير أننا نفهم من كلام السيد جبرون على الأقل أنه يفرق بين مرحلتين لم يحددهما، مرحلة الاحتجاجات المشروعة والديموقراطية، ومرحلة “العصيان” المراهق والساعي إلى قهر الدولة وإكراهها على الاستجابة لمطالبها الضيقة. وبالطبع من خلال إشارات هنا وهناك نفهم أن هذه المرحلة الأخيرة ليست وليدة اليوم بل نجد أن ديناميتها تعود إلى عهد الحكومة السابقة، ولنا أن نسأل عن أسباب وكيفية انتعاشها؟ لقد انتقدت شخصيا مواقف وشعارات عرفتها الاحتجاجات، من منطلق المساهمة في الترشيد، حين خرجت عن الحدود “المعقولة”، لكن لا يمكن أبدا تسفيه الحراك الشعبي والفئوي جملة وتفصيلا، ومحاكمته إلى معايير نظرية لا تسعى الدولة نفسها إلى تعزيزها أو التأسيس لها، بل واتهامه في مقاصده ومراميه. إن مشكلة الرأي الذي عبر عنه السيد جبرون هي أنه ينطلق من حالات خاصة ليخرج بتعميمات، وهو يعلم أن ذلك المنهج أقل ما يقال عنه أنه لا يندرج ضمن مناهج التنوير. وكان عليه أن يضع الحركات الاحتجاجية الحالية في سياقها العام، حتى يتمكن من الحكم عليها بشكل عادل. ومساهمة في توسيع آفاق النقاش، أقول إنه في التقدير (حتى نكون نسبيين ولا ندعي الفهم وامتلاك الحقيقة)، لا يمكن فهم طبيعة الحراك الفئوي الحالي إلا بوضعه في سياقه الطبيعي الذي تطور فيه، والذي يؤكد، عكس ما يراه السيد جبرون، أن المجتمع لم يكن يتواجه مع الدولة بقدر ما كان يتصارع مع السلطوية (بما هي توظيف غير مشروع للسلطة لتحقيق أهداف غير مشروعة، سياسية واقتصادية وإديلوجية)، وما تنتجه من فساد واستبداد، وسنستعرضه باقتضاب تفرضه طبيعة المقال، من خلال العناصر التالية: 1 – قبل سنة 2011، اشتغلت السلطوية بشكل مريع يستلهم النموذج التونسي، وبلغ بها الأمر أن تصنع بشكل فج حزبا جديدا لها راهنت عليه ليستحوذ على السلطة من باب صناديق الاقتراع، وعاين العالم كيف أن ذلك الحزب استطاع بدعم السلطوية اكتساح الانتخابات الجماعية في أقل من سنة من عمره، وكان يستعد لاكتساح الانتخابات التشريعية، حتى تتمكن السلطوية من الهيمنة على المشهد السياسي خدمة للفساد والاستبداد. 2 – جاء حراك 2011 وأنتج ديناميكية سياسية واسعة، جعلت السلطوية تنحني حتى مرت عاصفتها، وتوجت تلك الديناميكية بدستور جديد، وبانتخابات تعتبر الأنزه في تاريخ المغرب، وبحكومة قوية يمكن اعتبارها الأقرب من التعبير عن صناديق الاقتراع. لكن وبعد أن اطمأنت السلطوية إلى أنها في مأمن من الشارع، استعادت بالتدريج سيطرتها انطلاقا من سنة 2013 وسجلت عودتها القوية بالضربة التي وجهت إلى تشكيلة النسخة الثانية من حكومة الأستاذ ابن كيران، والتي ضمت وزراء تكنقراط لا لون سياسي لهم، ولم يتفاوض حولهم رئيس الحكومة مع أي حزب، وكان عددهم قرابة 8 وزراء! 3- عملت السلطوية مند ذلك التاريخ على إضعاف الحكومة بكل الوسائل، ومنها تأجيج الاحتجاجات القطاعية والفئوية، إلى درجة أنه يمكن القول إنه لا توجد فئة لم تخرج للإحتجاج. وبالتالي فالاحتجاج الفئوي المصطنع والموجه كان صناعة السلطوية، وليس صناعة المجتمع وفعالياته. وهذه الصناعة بلغت ذروتها من حيث الخطورة السياسية مع ما عرف بمسيرة ولد زروال المشهورة. 4 – عملت السلطوية أيضا على إضعاف كل دفاعات المجتمع المتمثلة في الاعلام ومؤسسات الوساطة المختلفة، فأجهزت على المجتمع المدني المناضل والحقوقي، وأضعفت الأحزاب بأن عمقت عدم استقلاليتها، والتي رأينا تجلياها الكبرى في “البلوكاج” المشهور. وأضعفت النقابات، وأضعفت الاعلام المهني الجاد وأغرقت الانترنيت بجرائد صفراء تعيش من فتات الاعلانات التي تؤمر لها عبر الهواتف الحمراء، وأنشأت “أوركسترا” إعلامية ورقية وإلكترونية وإذاعية وتلفزية تحركها كيف تشاء. كما عملت على إنشاء جيوش من “الذباب الالكتروني”، وكل ذلك لمحاصرة الحكومة التي يقودها غريمها السياسي، وكي تعمل على إضعاف حزب العدالة والتنمية كي تلحقه بباقي الأحزاب في غرفة التعليمات. 5 – النتيجة التي وصلت إليها مشاريع السلطوية، وبعد إضعاف مؤسسات الوساطة، وفي ظل انتشار الأنترنيت وخاصة منصات التواصل الاجتماعي، هي غياب ما أسماه السيد جبرون ب”الاحتجاج الراشد، والمسؤول، والذي يرعاه وسطاء شرعيون” لتجد السلطوية نفسها وجها لوجه مع الفئات التي تعيش أوضاعا ضاغطة، فأصبح الفايسبوك هو المؤطر للنضالات بشكل عام (وهذا توجه عالمي نجد له امثلة كثيرة منها احتجاجات اصحاب البدلات الصفراء في فرنسا)، وأصبح حراك الفئات الاجتماعية غير مؤطر من طرف المؤسسات التقليدية (الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني الحقوقي بالخصوص). 6 – في ظل النتيجة التي هي من كسب يد السلطوية، نجد أن المواجهات التي تكون بين الاحتجاجات الفئوية ومؤسسات الدولة هي حصاد حرث السلطوية، بل إن السلطوية كما حرصت على خلق المشاكل بين حزب العدالة والتنمية والدولة، وخاصة رئيس الدولة، فإنها تعمل دائما على صناعة الصدام بين الدولة والمجتمع، وخاصة في حالات تعبير فئاته على مطالبها، وذلك بالإمعان في ضرب الحريات والتطرف في استعمال العنف. 7 – لكن أخطر شيء في كل ذلك، هو أن الفئات الاجتماعية حين تعيش أوضاعا ضاغطة وترى الريع الذي ترعاه السلطوية منتعشا ومنتشرا، وفي ضل ضعف التأطير أو غيابه، فإنها تعبر أحيانا بأشكال متطرفة عن مطالبها، بل وتتطرف في تلك المطالب. وهو ما يعني أن معالجة تلك الظواهر لا يتم بالمواعظ والخطب، بل يتم بنضال سياسي يحد من تغول السلطوية ويعيد ثقة المواطنين في العملية السياسية وفي المؤسسات وفي الخطابات السياسية، وفي السياسات العمومية. في التقدير هذا هو السياق العام الذي نجني ثماره اليوم، والذي نتنازع في إطاره “الحقيقة” ، والذي يحدد مواقع الشجاعة الحقيقية من غيرها، ودون تبرير أخطائه الكثيرة. وخلاصته أن المجتمع يتواجه مع السلطوية وليس مع الدولة، فحتى في أوج الحراك الشعبي في إطار “20 فبراير” كانت المواجهة بين المجتمع والسلطوية، ولم تكن أبدا مع الدولة. وفي هذا الإطار يطرح سؤال أين ينبغي أن يقف المثقف والمفكر والمحلل وغيرهم من الفاعلين في مجال التأطير والترشيد؟ هل إلى جانب السلطوية، بوعي أم بدونه؟ أم إلى جانب المجتمع؟ بعد هذا التأطير العام المقتضب السابق، ننتقل إلى مناقشة رأي السيد جبرون حول تقييمه للاحتجاجات الفئوية، وخاصة من خلال المثالين اللذين اختارهما لبناء رأيه، وهما احتجاجات الأساتذة المتعاقدين واحتجاجات طلبة كليات الطب. وبما أن السيد جبرون حكم عليهما بالسلبية ولم يذكر لهما أية فائدة، فسوف أذكر باقتضاب معالم الوجه المشرق لهما، لأبين أن أحكام القيمة المحكومة بهواجس إضعاف الدولة والمس بالاستقرار غير واقعية بالإطلاق الذي يتم التعبير عنه. فيما يتعلق بملف المتعاقدين، اخترت شخصيا ألا أخوض فيه إلا بعد أن تحققت جميع المطالب المعقولة لتك الفئة احتراما لها كفئة معنية بالدفاع عن مصالحها، لكن انتقدتها حين استمر البعض في رفع مطالب غير معقولة. لكن الذي ينبغي ملاحظته هو أن نضالات المتعاقدين مكنتهم من تحسين شروط ذلك التعاقد، وهذا حقهم الطبيعي، والذي لا ننتبه إليه هو أن تجويد تلك الشروط سيحقق الاستقرار في عمل تلك الفئة، مما يعني أن نضالاتهم في النهاية نتيجتها ليست إضعاف الدولة فقط لأن الحكومة استجابت لمطالب معقولة وممكنة، بل توفير شروط مؤسساتية للاستقرار العام أيضا. لكن من الظلم أن نلصق اختلالات عمرت عقودا في التعليم برفض هؤلاء المتعاقدين فصل التكوين على التوظيف، وهو أمر انتقدته عليهم أيضا. فالسيد جبرون يزعم أن فشل الحكومة في اعتماد برنامج التكوين ذلك نتجت عنهُ3 اختلالات، نذكرها بتركيز وهي: – فقدت المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين بسبب هذا الفشل دورها في التكوين التربوي والتأهيل المهني لأطر التدريس، – فقدت مهنة التعليم حُرمتها، واحترافيتها شأنها شأن باقي المهن، كالطب، والتمريض، والمهن التقنية الأخرى.. بحيث أمست ممارسة التعليم مفتوحة في وجه الجميع. – كما تسبب فشل هذا المشروع في إجهاض محاولة إصلاح المدرسة الخصوصية، وأفقد كل الالتزامات التي حاولت الدولة إلزام أصحاب التعليم الخصوصي بها المصداقية. وكما هو ملاحظ فهذه من أمراض التعليم المزمنة وليست شيئا نتج عن فشل الحكومة في اعتماد برنامج التكوين الذي رفضه المتعاقدون. وفيما يتعلق بملف طلبة كليات الطب، فنضالاتهم أوقفت من قبل مشروعا ظالما يستهدفهم من دون غيرهم من المواطنين بالخدمة المدنية في العالم القروي، وقد كتبت ضد توجه وزير الصحة حينها، لكن تراجع الحكومة عن إقرار خيار ظالم سيكون عامل توثر دائم لم يضعف الدولة أبدا، بل جعل نضالات الأطباء تقتصر اليوم على مطالب تتعلق بالعدل وتكافؤ الفرص بين المواطنين في السياسة التعليمية. لكن ذلك لم يمنع الدولة من طرح مشروع الخدمة العسكرية الذي لقي نجاحا كبيرا وترحيبا فعليا من طرف الشباب، رغم كل الانتقادات التي وجهت له، لأنه بالأساس مشروع غير تمييزي هم الجميع. واليوم يناضل طلبة كليات الطب والصيدلة لأن الدولة تعيد تجربة مدارس التعليم الخصوصي بالتعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي في كليات الطب أيضا، فبذل حمل “كليات الطب الخاصة” على احترام دفاتر تحملاتها وتوفير أطرها، وبذل حملها على إيجاد حلول لآفاق طلبتها، أو بذل حمل تلك المؤسسات على تعديل مناهجها لتتناغم مع مناجه التعليم في كليات الطب العمومية بما يحقق العدل وتكافؤ الفرص بين الطلبة، تم اللجوء إلى الحلول السهلة على حساب طلبة كليات الطب العمومية. وإذا استوعبنا هذا الأمر ندرك أن نضالات طلبة كليات الطب لا تدخل في خانة الدفاع عن “المصالح الضيقة” كما يسميها السيد جبرون، بل هي نضالات لحماية المؤسسات العمومية، بل وحماية المهنة والصحة العمومية. إنه كثيرا ما ننتقد الاضرابات والاحتجاجات في بلدنا على ضوء ما تعرفه بعض الدول المتقدمة والراقية، حيث يتم التعبير مثلا بربط شريط أحمر على العضد، لكننا في المقابل لا ننتقد الدولة المغربية على ضوء تعامل تلك الدول المتقدمة والراقية مع التعبير عن الاضراب بالشارة الحمراء من طرف مواطنيها. والفرق أن الدولة هناك مبنية على تحقيق رضى المواطن، لذلك فسمعها رهيف، وتجاوبها سريع، أما عندنا وعند من يشبهنا، فالذي يهم هو الاستقرار، فمادام الاضراب والاحتجاج لا يهدد الاستقرار، فالمواطنون الغاضبون سيجدون آذانا صماء، وبيروقراطية قاتلة، بل واستهدافا إعلاميا خطيرا. إن النضالات الفئوية بالعكس حين ترفع السلطوية يدها عنها تسهم في الاستقرار، لأنها تحقق شروط استقرار تلك الفئات، مما يسهم بفعالية في تحقيق الاستقرار العام. وحين تحارب الدولة مشاريع الريع والفساد الاداري سوف يتفهم المواطنون خطابها حول الإكراهات المالية. وبالطبع هذا لا ينفي وجود انحرافات أو تطرفا أو غير ذلك في تلك الاحتجاجات، لكنها في الغالب الأعم تكون غير ذات تأثير، لأن الفئات المعنية حين تتحقق مطالبها المشروعة المعقولة تتخلى عن رافعي المطالب التعجيزية، وهو ما وقع في كثير من الحالات. وختاما كنت أود، وبصدق، أن يقدم الصديق محمد جبرون قراءته للمشهد السياسي في ضل المستجدات الأخيرة حيث فشلت السلطوية في توفير حزب بديل، وخاصة ما يتعلق بالمقاطعة المشهورة التي صفعت حزب الحمامة الذي ينافس حزب الجرار على تحويل استثمارات السلطوية السياسية إلى حساباته، وما يتعلق بما يعيشه حزب السلطوية المذلل، الجرار، من أزمة تنظيمية خانقة. وتقييم رأيه السابق حول ما ينبغي أن يكون عليه موقف حزب العدالة والتنمية من التحكم هل الاستمرار في المقاومة؟ أم الرضوخ على سبيل “التعاون”؟