من الظواهر التي أمست ملازمة لشهر رمضان في السنين الأخيرة، تلك المتعلقة بالدعاء بهذه الطرق الغريبة، والتي تظهر فيها الصنعة أكثر مما تحتاجه عبادة يفترض فيها الخشوع والإسرار الذي يستحضر جلال الله وعظمته فيستكين القلب وتهدأ النفس، مصداقا لقول رب العالمين: ” ألا بذكر الله تطمئن القلوب” [ الرعد: 28 ]. وهكذا صار شائعا في كثير من المساجد وقاعات الصلاة، اختلاط الدعاء بالصراخ بالعويل، وكأن الناس مجرمون موقوفون للحساب يوم القيامة، وليس مؤمنون ضيوف في بيوت الرحمان. إن الرجل الكريم إذا زارهخصومهفي بيته، لم ترض نفسه إلا بالقيام بواجب إكرام الضيف وتجاوز العداوة والصفح عن الذنب…هذا في حق رجل من الناس، فكيف بأرحم الراحمين؟! خصوصا وأن الذين جاؤوا إلى بيوت الله موحدون مؤمنون، وهم إنما أتوا طاعة له وطلبا لمرضاته، فكيف يتصرفون مثل هذا التصرف المنبئ عن سوء ظن بالرب الكريم!؟ ثم كيف يجوز لهم الدعاء على غيرهم من عباد الله بالويل والثبور، وخلط العبادة بالخلافات السياسية والمذهبية، والتجرء على مقام الألوهية، بحشر الذات الإلهية في نزاعات بين البشر، وكأن الله جل جلاله مع طرف ضد آخر!! مما لا يليق بجلاله الله وعظمته، ورحمته بخلقه وعدله بين عباده. إن الدعاء كما هو معلوم عبادة من أجل العبادات؛ مصداقا لقول الله عز وجل : ” وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ” [غافر:60]. و في الحديث الصحيح المليح –كما كان يقول المرحوم فريد الأنصاري-: (( الدعاء هو العبادة )) -صحيح ابن حبان- .وفي حديث آخر أدنى منه مرتبة: (( الدعاء مخ العبادة )) -جامع الترمذي-. ومعلوم لدى علماء المسلمين أن العبادات توقيفية، لا يدخلها الاجتهاد؛ بمعنى الإضافة إليها، والزيادة على أحكامها، لأن ذلك هو عين الابتداع في الدين المنهي عنه في الإسلام؛ وهو أن يضيف شخص -مهما كان- باجتهاده إلى العبادة ما لم يكن في عهدها الأول، وفي ذلك حديث أشهر من نار على علم، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ((كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) -المستدرك على الصحيحين- وهو حديث ظاهر الخطورة، وواضح التحذير من مغبة التمادي في الزيادة على ماهو مشروع من صور العبادات وأركانها. وقوله صلى الله عليه وسلم كذلك في الحديث الآخر الشهير كذلك (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))-صحيح البخاري- وعند مسلم بلفظ: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي مردود عليه؛ ينبغي أن ينبه إلى ذلك، وأن ينهى من قِبل الراسخين في العلم عن خروجه عن كتاب الله و سنة رسول الله. إن الدعاء كغيره من العبادات؛ له شروطه وضوابطه التي ذكرها القرآن الكريم، وأكدها النبي الصادق الأمين؛ يقول الله تعالى: “ادعو ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين”[الأعراف: 55 ]؛ فقد أرشد الباري جل وعلا العباد إلى الدعاء، وفي نفس الآية بين لهم كيفية الدعاء وطريقته، وهي أن يكون خفية. وفي الآية الأخرى، قال تعالى:”اذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ” [ الأعراف : 205 ]. فنص الرب تبارك وتعالى على كيفية الدعاء، وهي أن يكون سرا، دون الجهر، ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ أنزل الله : “وإذاسألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان” [ البقرة : 186 ]. وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لاتدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب)) . هذه الأدلة الكثيرة- وهي على كثرتها، نزر يسير من مجموع الأدلة- تبين بيانا قاطعا أن الدعاء بهذه الصور التي تنقلها الفضائيات، والتي تأثر بها عدد من أئمة الصلوات، لا أساس لها من الدين، ولا حجة لفاعليها إلا التقليد للغافلين، والإذعان للهوى وما تشتهيه الأنفس والاتباع لخطوات الشياطين. * أستاذ مادة التربية الإسلامية وباحث بسلك الدكتوراه