دُمر الربيع العربي بالحرب الأهلية في سوريا والحرب في اليمن والانقلاب في مصر، كما دمر بالمال الفاسد والإعلام الفاسد في تونس، وأن جهود محور الشر تتجه حاليا نحو ليبيا للقضاء على ما يعتبرونه جيبا من جيوب الثورة : المنصف المرزوقي 1 – ننطلق في هذه الورقة عن قناعة مبدئية مؤداها ، أن بناء دولة وطنية مدنية مستندة إلى المنجز الديمقراطي الكوني ، و احترام القيم و القوانين الدولية ، ذات الصلة بمأسسة الحياة الإنسانية و عقلنتها ، و التشبث بثوابت الأمة الدينية و الحضارية و الثقافية ، هو الهدف الأسمى الذي يسعى من أجله الشرفاء و الصادقون المعنيون بالشأن السياسي و الثقافي في الوطن العربي ، كما نعتقد أن مسؤولية تجسيد تطلعات المواطنين إلى الحرية و الكرامة و العدالة و التنمية الشاملة .. تفوق مجهودات مكون مجتمعي مهما “اشتدت وطأته” بل تستدعي جبهة وطنية موسعة ، و مساهمة كل الحساسيات و التيارات السياسية و الأيديولوجية و الأطراف الممثلة لأحلام الشعوب العربية ، التي خرجت منددة بالفساد و الاستبداد منذ اليوم الأول من الولادة المجهضة للربيع العربي ! سبب نزول هذا الكلام هو هذا الكم الهائل من المقالات الصحفية و المواضيع الإعلامية ، التي جاءت تعلق على “حصاد” الربيع العربي و تستقرئ تجلياته و محدداته . و لئن كنا نؤمن إيمانا مطلقا بحرية الفكر و التعبير ، ونرفض الوصاية و النزعة الأستاذوية ضد أي كان، فإننا في الآن عينه نصر على قراءة الديناميكية السياسية التي يشهدها الراهن العربي العصيب ، من منظور منفتح بعيد عن النزعة الطائفية القبلية ، و التمترس وراء دوغمائيات “أيديولوجية” حدية .. 2 – و بعودة خاطفة إلى أدبيات الفكر السياسي العربي الحديث ، الذي شرع في التبلور منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى الآن ، نستنتج دون عناء أن هناك شبه إجماع من قبل كبار الباحثين ، حول محورية الخيار الديمقراطي و أولويته قصد تحقيق النهوض العربي ، و كان هؤلاء على وعي بالغ العمق بالمعنى الفسيح للديمقراطية ، باعتبارها نسغا ثقافيا و وعيا نوعيا و رؤيا مخصوصة إلى الكون و الإنسان و المجتمع .. قبل أن تكون مجرد إجراء انتخابي ضيق ، يفضي إلى أغلبية تعتلي سدة الحكم ، و أقلية تنتهج معارضة اقتراحيه هادفة ، و بمجرد أن اهتزت الأرض العربية اهتزازا و اشتعلت ساحات التحرير اشتعالا ، حتى بدأ بعض “الزعماء يفهمون ” شعوبهم ، بعد سنوات من الجبروت و الفساد و التحكم في البلاد و العباد .. و شاءت ” الأقدار ” أن يُفسَح المجالُ (بعد عقود من التعنت و الحكم الفردي ) ، لكل ألوان الطيف السياسي للمشاركة في بناء دولة وطنية حديثة أثناء و بعد العاصفة ، و كانت المفاجأة غير المدوية تتمثل في انهيار عظيم للأحزاب السياسية الوطنية العتيدة ، التي طالما أثثت المشهد السياسي العربي سنين عددا ! و اعتلت الأحزاب الإسلامية المعتدلة منصة التتويج الشعبي ، إثر استحقاقات انتخابية نزيهة و شفافة ، باعتراف المراقبين المحليين و الدوليين ! ندرك مدى وقع المعاناة و الإحساس بمرارة الهزيمة الكبرى لدى التيارات العلمانية من يساريين و قوميين و اشتراكيين و ليبراليين.. و لكننا لم نكن نتصور أن يكفر البعض من هؤلاء بالديمقراطية ذاتها و يطلب التدخل الأجنبي لحماية “المكتسبات المدنية و الإنجازات ” الحداثية ” (كذا) ! 3 – ما من شك في أن الأحزاب السياسية الإسلامية التي حققت فوزا انتخابيا ديمقراطيا في بعض الدول العربية : مصر- تونس – المغرب ، تشكو من نقص واضح في تجربة تسيير شأن الحكم و تدبير قضايا الشعب بكفاءة مطلوبة ، فهكذا مهام تستدعي تراكم خبرات و ممارسة فعلية ، و احتكاك بالملفات الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية و العلاقات الدولية ، و عوض انتهاج مسلك العمل الوطني المشترك ، و المسعى التوافقي في أفق تأسيس لمرحلة سياسية جديدة تتطلع لغد أفضل ، أصرت نسبة كبيرة من الهيئات الحزبية و النقابية و الجمعيات الأهلية على عرقلة عملية الانتقال الديمقراطي ، و إجهاض حلم الملايين من الشعوب العربية من الممارسة الديمقراطية السليمة ، بمعنى آخر أن الأحزاب العلمانية المتعثرة مسنودة بفلول الدولة العربية العقيمة ، بقدر ما أنها رفعت من إيقاع حملاتها غير الشريفة ضد الحكومات المنتخبة ديمقراطيا ، بقدر ما أنها مضت بخطوات “ثابتة” نحو العدم ، بيد أن السبيل الوحيد نحو الخروج من عنق الزجاجة ، و الانطلاق في اتجاه البناء التنموي الشامل ، و إنجاز أحلام المنتفضين الشباب و الداعين إلى إرساء قيم الحرية و العدالة و الكرامة .. هو التسلح بالعقلانية و الديمقراطية ، و العمل الجماعي في إطار كتلة تاريخية مفصلية ، تضم الإسلاميين و العلمانيين الوطنيين بعيدا عن الاتهامات المتبادلة و الصراعات السياسوية عديمة الجدوى و المردودية . * باحث مغربي في قضايا الفكر و السياسة