1 - نصدر في هذا المقال عن قناعة مبدئية، مفادها أن بناء دولة وطنية مدنية مستندة إلى المنجز الديمقراطي الكوني واحترام القيم والمواثيق والقوانين الدولية، ذات الصلة بمأسسة الحياة الإنسانية وعقلنتها، و التشبث بثوابت الأمة الدينية والحضارية والثقافية، هو الهدف الأسمى الذي يسعى من أجله الشرفاء والصادقون المعنيون بالشأن السياسي والثقافي في الوطن العربي؛ كما نعتقد أن مسؤولية تجسيد تطلعات المواطنين إلى الحرية والكرامة والعدالة والتنمية الشاملة.. تفوق مجهودات فريق مجتمعي مهما «اشتدت وطأته»، وتستدعي جبهة وطنية موسعة، ومساهمة كل الحساسيات والتيارات السياسية والإيديولوجية والأطراف الممثلة لأحلام الشعوب العربية، التي انطلقت منددة بالفساد والاستبداد! سبب نزول هذا الكلام هو هذا الكم الهائل من المقالات الصحفية والمواضيع الإعلامية، التي جاءت تعلق على «حصاد» الربيع العربي وتستقرئ تجلياته ومحدداته. ولئن كنا نؤمن إيمانا مطلقا بحرية الفكر والتعبير، ونرفض الوصاية أو النزعة الأستاذوية ضد أي كان، فإننا في الآن عينه نصر على قراءة الديناميكية السياسية التي يشهدها الراهن العربي العصيب، من منظور ندعي أنه بعيد عن النزعة الطائفية البغيضة والتمترس وراء دوغمائيات «إيديولوجية» حدية.. 2 - هكذا وبعودة خاطفة إلى أدبيات الفكر السياسي العربي، الذي أخذ في التبلور منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى الآن، نستنتج دون عناء أن هناك شبه إجماع من قبل كبار الباحثين حول جوهرية الخيار الديمقراطي وأولويته قصد تحقيق النهوض العربي، وكان هؤلاء على وعي بالغ العمق بالمعنى الفسيح للديمقراطية، باعتبارها نسغا ثقافيا ووعيا نوعيا ورؤية مخصوصة إلى الكون والإنسان والمجتمع.. قبل أن تكون إجراء انتخابيا جزئيا، يفضي إلى أغلبية تعتلي سدة الحكم وأقلية تنتهج معارضة اقتراحيه هادفة. وبمجرد أن اهتزت الأرض العربية اهتزازا واشتعلت ساحات التحرير اشتعالا، بدأ بعض «الزعماء يفهمون» شعوبهم، بعد عقود من الجبروت والفساد والتحكم في البلاد والعباد.. وشاءت الأقدار أن يفسح المجال (بعد صدامات دموية مكلفة) لكل ألوان الطيف السياسي للمشاركة في بناء دولة وطنية حديثة أثناء وبعد العاصفة. والمفاجأة غير المفاجئة انهيار عظيم للأحزاب السياسية الوطنية العتيدة، التي طالما أثثت المشهد السياسي العربي سنين عددا! واعتلت الأحزاب الإسلامية المعتدلة منصة التتويج الشعبي، إثر استحقاقات انتخابية نزيهة وشفافة، باعتراف المراقبين المحليين والدوليين! ندرك مدى وقع المعاناة والإحساس بمرارة الهزيمة المدوية لدى التيارات العلمانية من يساريين وقوميين واشتراكيين وليبراليين.. ولكننا لم نكن نتصور أن يكفر البعض من هؤلاء بالديمقراطية ذاتها ويطلب التدخل الأجنبي لحماية «المكتسبات المدنية والإنجازات الحداثية» (كذا). 3 - ما من شك في أن الأحزاب السياسية الإسلامية التي حققت فوزا انتخابيا ديمقراطيا في بعض الدول العربية (مصر، تونس، المغرب) تشكو من نقص في تجربة تسيير شأن الحكم وتدبير قضايا الشعب بكفاءة مطلوبة، فمهام كهذه تستدعي تراكم خبرات وممارسة فعلية، واحتكاك بالملفات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعلاقات الدولية.. لذلك أمضى حزب العدالة والتنمية المغربي، كمثال، وقتا طويلا وهو يستشير كل الزعماء السياسيين بدون استثناء من أجل تكوين فريق حكومي وطني، والانتقال إلى مرحلة التعاطي الجماعي مع متطلبات اللحظة التاريخية المفصلية، بعيدا عن نزعة الانتشاء والافتخار الذاتيين، لكن دون نتيجة. لقد قررت بعض الأحزاب «الكبيرة» اختيار نهج المعارضة «الشرسة» ونهج سياسة «تكسير الأواني» وتسفيه كل ما صدر وسيصدر عن الحكومة الجديدة، لا لشيء إلا لأنها لم تستسغ عقاب الشعب لها. والحقيقة أن الأحزاب العلمانية المتعثرة بقدر ما ترفع من إيقاع حملاتها غير الشريفة ضد الحكومات المنتخبة ديمقراطيا، تسير بخطوات «ثابتة» نحو العدم. إن السبيل الوحيد نحو الخروج من عنق الزجاجة، والانطلاق في اتجاه البناء التنموي الشامل، وإنجاز أحلام المنتفضين الشباب والداعين إلى إرساء قيم الحرية والعدالة والكرامة.. هو التسلح بالعقلانية والديمقراطية، والعمل الجماعي في إطار كتلة تاريخية، تضم الإسلاميين والعلمانيين الوطنيين بعيدا عن الاتهامات المتبادلة والصراعات السياسوية عديمة الجدوى والمردودية.