لا يمضي يوم حتى تطالعنا أخبار هنا، وأحداث هناك أن المجتمع المتعلم والجسم التربوي يتعرض للتبخيس والضربات الموجعة، بدءا من الأشكال الأقل استفزازا، وصولا إلى أشدها ايلاما وقتلا لما تبقى من رمزية الحياة؛ وهي سحل المعلم ومواجهته بما تُواجه به العصابات، كل ذلك والعقل السياسي نائم أو مريض، يجتمع أو يتفرق (وكلاهما هنا سيان) ليعيد إنتاج ويلات العدم والضياع، دون أن يدري أحد –حتى الذين خبروا الميدان واستوعبوا قواعد لعبه- إلى أي مجهول يمضي الوطن ! لقد تهاوت الأقنعة بما يتخطى الوضوح، وتعرت المنظومة حتى من ورقة التوت، وأَسقطتْ حرارة المشهد تلك المساحيق والأصباغ التي علت الوجوه أولا، ثم طالت الجدران ثانيا، وإذا بها ترسم لوحات الذل من الدماء على الأرصفة ووسط عاصمة البلاد. لقد افتضح الوجه بلا أية رتوش، ونطق الضمير المعبأ باللامسؤولية، وسيق النموذج التربوي إلى قفص الاتهامبشكل غير مسبوق. فهل تكون ضريبة عسيرة لمواطن يبحث عن وطن مفقود يأبى الخنوع أم تكون قاصمة الظهر التي تفتح المستقبل على مزيد من القوارع والكوارث؟ من العسير جدا على الضمير أن يقرأ في الفواجع رموزا مؤذنة بالخلاص، ومن اليسير على الذين ابتُلينا بهم أن يروا الأجساد متشردة في الشوارع وأمام المؤسسات، مادامت العقول السياسية قد تنشأ أيضا في كهوف مظلمة يصلها كل شيء، إلا نور الحوار وفضيلة الإنصات وفقه الضمير. نشعر بإهانات مضاعفة والمتعلمون يسألون: هل عنفوا الأساتذة من جديد؟ وهم يسألون، لا ينتظرون من يجيبهم؛ لأن الإعلام البديل يفضح ولا يستر، لكنهم يريدونها إجابات أخرى؛ تُكذب البشاعات التي تصلهم بالصوت والصورة من عين المكان، ينتظرون من يقول لهم إن المعلم أكبر من أن ُيهان،ينتظرون من يقول لهم إن من يأمرون بتعنيفهم إنما يكتبون تاريخهم هم، وليس تاريخنا؛ لأن الذي يكتب تاريخه بقلم نظيف ويبني عقول الوطن البديل، لا يستوي مع من يكتب تاريخه بآذان صماء وحناجر لا تروي إلا لغة السحق والمحق. في أشد لحظات الأزمة الاجتماعية تحيد الأخلاق عن مسارها الصحيح، وتحشر كل ذرة روح في القذارة، ثم لا تستغربْ بعدها، أن تُعاين تدبيرا سياسيا محبطا للآمال، وقرارات هشة تنتظر أن ينحني لها الجميع بلا نقاش، وحينما تتراكم الاخفاقات، وتموت السياسة وينزف الواقع بجروح غائرة، فلماذا الدولة ولأي غرض صَنعت أكتافُ الناس هذا الوطن؟ تلك هي المعادلة العصية على الأذهان، وذاك هو المنطق الذي يستوعب المتناقضات دون أن يختل توازنه، وكأن ليس غريبا على السياسي أن يعزف على كل الأوتار ويرقص على كل الحبال، مادامت السياسة – على حد علمه- تحايل ولف ودوران، وليست علما وفقها وحكمة جاءت لتروي عطش الإنسان. أسست المجتمعات الطلائعية آمالها على المعلم وأوكلت إليه مهمة بناء الإنسان، وترتيب مكوناته حتى يستحيل مواطنا مثقفا وفردا مبدعا وانسانا حاملا في ذاته ولذاته ولمجتمعه معنى الوجود، تَسلم القيادة في لحظة فارقة كان المجتمع فيها مشبعا بالآلام، يعيش الافلاس المادي والرمزي، وتنهشه سموم الداخل والخارج، حتى استحال مجرد فرد نكرة تناثرت شظاياهفي كل مكان. يبني المعلم أحلاما كبيرة كانت قد انكسرت، ويربي ضمائر بعد أن غاصت في سقوط أخلاقي رهيب، معيدا ترميم البيت الداخلي؛ بتقويم سلوكات محاصرة بين أمية منظمة ومسخ مهيكلظلت الآلة الإعلامية أكبر مصنع لإنتاجه؛ ومع ذلك كان المعلم يعالج جهلا مركبا بأدوات عصره غير المعقمة، حتى إنه اتهم غير ما مرة، علنا ووضوحا، أنه وراء الاخفاقات التي أنتجها الحقل التعليمي والتربوي، رغم ذلك ينفض المربي التهم عن نفسه، ويمضي يغذي عقولا وأرواحا أرادت أن تعيش الحياة بكرم، ويبني أهدافَ المتعلم على فضيلة الحكمة ومحبة العلم، ضاربا صفحا تلك الضربات التي لم تكُف عن ملاحقته والنيل من رمزيته. عَلمتنا دروس المعلم دائما أنه إن كان من المستطاع قتل الإنسان، فلا أحد يستطيع محق إرادته أو سلب طموحه وأمانيه، تلك الإرادة تتحول تحتإملاء الرسالة وتوجيه الضمير إلى عمل ينتج جهابذة العقل، وتضحية تبني عمالقة الوطن، وحقيقة تبدد جغرافيا الوهم والعمى المنظم. المجتمعات المواطنة لا تعالج الأزمات بمنطق الاقتلاع واصطناع أذن من طين أو عجين، بل تعالج الواقع بالإصغاء إليه، والتواجد فيه، واحتواء كل مكوناته، بما يتيح عيش الجميع بجانب الجميع؛ في مستقبل مشترك لا يتحول معه الشعب إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. لأجل ذلك، إذا تقلصت أجنحة العناد، وتُرك المجال لحوارٍ عقول، وأيقن الجميع أن ألسنة الجمر ليست جزءا من الماضي، ولكنها حتما ستمتد وتنمو لتأكل خيوط المستقبل وتنهش آمال أجيال لم تأتي للحياة بعد، إذا تدبرنا ذلك الدرس جيدا، فتلك نهايةُ شؤم، وبدايةُ حياة.