القباب، البلدة التي تحرس واد سرو أحيانا لا تشعرك الأماكن الجديدة بغربتها، فحين تجد نفسك في بلدة تتقاسم مع بلدتك الأم نقط تشابه عديدة، تمحى حدود المكان وتصبح جزءا منه. القباب وأنت تزورها يوم الاثنين الذي يصادف سوقها الأسبوعي، تطل على عبق تاريخ منسي لقبيلة إشقيرن، وعلاقاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعود بنا لقرون، إلى عهد سيدي بوبكر أمهاوش، المحارب والمتصوف والشاعر الذي قهر دار المخزن مع بداية القرن التاسع عشر. القباب لازالت تتنفس قيم “تيموزغا” الأصيلة، ولست بحاجة لعين سوسيولوجية لتلامس ذلك، في تعامل ساكنتها، وترتيب أزقتها الضيقة، وسوقها، ومقاهيها. القباب قلعة أمازيغية تقاوم النسيان الرسمي والتعنت السياسي، مطلة بشموخ وعزة على واد سرو الذي يعانق في طريقه واد إشبوكة، قبل أن يفسحا المجال لوانسيفن (أم الربيع ) ليعوض عنهما رحلة الانسياب نحو الأطلسي. القباب بأناسها الطيبين وموقعها الذي يغذي ثقافة الانفتاح على الآفاق البعيدة، ويمنحك الإحساس بأن العالم أكبر مما نتصوره. القباب، شتاء بطعم الحنين للشتاء طعم خاص بالقباب، هنا في جبال فازاز، الساكنة تكيفت مع هذا البرد القارس، وتعودت على لسعاته منذ أن حل أجدادهم هنا، أجسامهم اكتسبت مناعة ضد موجاته، وحين يشتد تجند له كل الإمكانيات التقليدية والعصرية، مدافئ حديدية موروثة عن فترات قديمة، وأخرى حديثة تعتمد على غاز البوتان والكهرباء، و ملابس صوفية، و أحذية شتوية، وأغذية خاصة غنية بالدهنيات والبروتينات. مدافئ القباب في المحلات التجارية، والمقاهي، والمنازل وعلى جنبات الطرق تدعوك لتشارك سكانها حكايات الأولين، وقصص اليوم، بالكثير من الدعابة، فذاك يمنحك بيتا شعريا غيب الموت ناظمه، وذاك يكشف لك عن معنى ما عبر نكتة أو حكاية. حين تسمع لكبار السن بالقباب تطل بنظراتك على حياة الرحل في أزغار شتاء بمنخفضات إسرفان، وتصعد نحو أعالي ملوية صيفا، وتكتشف حياتهم تحت الخيام وعلاقاتهم ببعضهم البعض، ومع الماء والقطعان والشجر. في كل زيارة للقباب، أشعر أنني في حاجة إلى مقام أطول، للإنصات والتأمل أكثر. يوم آخر في القباب في الصعود إلى تلك السفوح التي تطل عليها سلسلة من أشجار “تايدة”، و أنت تستمتع بنغمات كمان وصوت الفنان لحسن الخنيفري على متن سيارة أجرة أنيقة، تعبر تلك المنعرجات بغنج تنسيك ملل انتظارها عند ملتقى الطرق، في الأفق تظهر لك لقباب قلعة خرجت للتو من يد محتل أبيض لازالت بعض معالمه في القمم المجاورة، وعند النزول منها على نغمات موسيقية من أثير الإذاعة الأمازيغية، يستقبلك حوض سرو ببساتينه وحقوله التي اعتلتها خضرة مبكرة هذه السنة. جولة أخرى في أزقة ودروب القباب، وتنقل بين ردهات ومتاهات ذاكرة بلدة أطلسية تعج بحكايات المقاومة، وأشعار فطاحلة قبيلة إشقيرن. في كل زيارة للقباب تستقبلك، وجوه و ومسارات جديدة، تفتح لك الباب على تاريخ يعود بك إلى زمن وليها الصالح مولاي المختار، وبسالة المقاومين في معاركهم البطولية ضد قوات الاحتلال في تين تغالين وتازيزاوت وبواطاس… القباب تنعم على زائرها بهدوء قرى الأطلس، وجوها الخريفي المعتدل نهارا والبارد ليلا، وعلى جنبات أزقتها فواكه فصلية طازجة، و لذيذة وأعشاب عطرية طرية، تعرضها أنامل تكد، وتتعب لضمان قوت يومها وسط بطش وتوحش رأسمالي. لقباب ذاكرة أطلس قاوم وناضل وكافح في كل الأزمنة، في مواجهة عنف الطبيعة، وتسلط المخزن المركزي وجشع الاستعمار، ولا مبالاة وتهميش مخزن ما بعد 1956. القباب… ستكونين ذكرى مرة أخرى أخذتني خطواتي إلى بلاد إمزيناتن، في جو ربيعي مشمس، يزوره ضباب خفيف بين الفينة والأخرى، أجواء تغري بالذهاب والإياب على ضفاف سرو ودونة، أو الصعود والنزول على الطريق التي تربط القباب بممر السلاطين، الطريق الثعبان على حد تعبير الأب ميشيل. القباب هادئة كعادتها بعد يوم صاخب، استقبلت فيه ساكنة النواحي وتجار الحواضر والبلدات القريبة، لمشاركة طعم الحياة، مره وحلوه، وبناء أواصر محبات وصداقات جديدة. الأمطار الأخيرة أخفت لون الحمري على جنبات الطريق، وحولت تلك المنخفضات إلى لوحات فنية بأزهار مختلفة الألوان… مرت أسابيع عديدة قبل أن يحل ضيف الربيع، غزيرا، ويفتح شهية الإزهار. أمطار شهر مارس، هبة السماء للجبل، كي تمتلئ السنابل، و تأخذ المواشي حصتها من طاقة الاخضرار وشمس الظهيرة. القباب… حكاية، جديدة تكتب، قد تطول فصولها، وتفتح الشهية للسرد، والسفر وبناء المعنى، وتظل القباب ذكرى ليست ككل الذكريات.