إن النقاش الدائرة رحاه اليوم حول مضامين القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، ليس ترفا كما يحاول القفز البعض، بل مطلوب وحيوي لاعتبارات عدة، يكفي فيها أنه يتعلق بقطاع في حجم ومكانة التعليم، وأنه قانون إطار سيرهن مستقبل الأمة لعدة عقود، كما أنه سيؤطر مختلف التشريعات البعدية في مجال التعليم والتي لا تملك أن تقفز عليه، ثم إن قضايا من قبيل لغة التدريس والمجانية والتعريب ومضامين المناهج من الإستراتيجية بمكان. إن أحد الأسئلة التي على الدولة والمجتمع الإجابة عنها اليوم هو هل نريد الخروج من واقع الانحراف اللغوي والضياع الحضاري والمزاوجة بين مشية الحمامة والغراب، أم نريد أن نعزز التيه ونكرس واقع “التلفة” اللغوية، لعقود أخرى تنضاف لسابقاتها، حيث إن غلبة اللغة كما يقول ابن خلدون إنما هي بغلبة أهلها، وأن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم، بمعنى أن اللغة إنما هي صورة عن الحضارة الثاوية وراءها، ثم هل هناك أمة عاشت نهضة وتطورا دون أن تكون لغتها أو لغاتها الأصلية هي عماد تقدمها؟ إن مشكل التعليم بالمغرب يتجاوز مواقف الأحزاب التي تفعل فيها الإديولوجيا والمصلحة والاختراق، إلى موقف الدولة الذي يفترض أن يكون استراتيجيا وعميقا وحضاريا، ولتكن لها فيه إديولوجيا فلا مشكلة ولا حياد في هذا الأمر، من مضمون المناهج ومستوى التكوين والميزانية المرصودة ومدة الدراسة الإجمالية إلى ساعاتها ومستوياتها، وصولا لهندام التلاميذ والطلبة، فلا شيء من هذا اعتباطي أو محض صدفة، لكن يظل السؤال هل نجرب في السكة الصحيحة أو في السكة التي ليست لها نقطة وصول؟ إن حزب التدريس بالفرنسة والتبرير بسياسة الأمر الواقع، وصعوبة تأهيل آلاف المربين كما يزعم السيد وزير التعليم، -وهو موقف يخترق أكثر من هيئة- موقف ظاهره الواقعية والانسجام، وباطنه الهروب للأمام والتهيب من الانعطافات الكبرى، أو خدمة مصالح داخلية أو خارجية أو تنفيذ مهمة أو دفاع عن الفرنسة بشكل ساذج أو غير واع، حيث إن السؤال المحوري والمطلوب الإجابة عنه بإلحاح هو أي الاختيارات أعمق وأدوم وأنفع للأمة المغربية وليس للدولة فقط حاضرا ومستقبلا؟ من المفارقات المضحكة في مختلف قوانين التمكين للفرنسية بالمغرب أن عبارات “الانفتاح على اللغات الحية”، تعني فقط المزيد من الفرنسية وعبارة “التعددية اللغوية” تعني حصرا المزيد من الفرنسية، وعبارة “التناوب اللغوي” التي جاء بها القانون الإطار لا شك أن المقصود بها أيضا وبشكل عملي المزيد من الفرنسية. كما أن الدفوعات التي تقدم إنما يقصد بها استنتاجا تسييد الفرنسية، ووضع كل المتاريس أمام اللغة العربية لنعزز واقع هيمنة الفرنسية المتداعية على الدولة والمجتمع ليس فقط واقعيا بل أيضا بحماية قانونية، وهي ذات العراقيل التي وضعت أمام التعريب في الجامعة لنقول إنه فشل والحقيقة أنه تم إفشاله. إن أصحاب اللغات الحية والتعدد اللغوي الفرنسي، قطعا لن يجرؤوا على إعطاء اللغة الإنجليزية المتربعة اليوم على عرش العلم والاختراعات، نفس المكانة التي أعطوها في مشروع القانون الإطار وما سمي بالرؤية الإستراتيجية للفرنسية، وعلى الرغم من أنه لا مناص لتحول استراتيجي في تعليمنا إلا بالعربية وشقيقتها الأمازيغية، فإنك لن تجدهم يقدمون الإنجليزية على الفرنسية هذه الأخيرة التي تتذيل اليوم لغات العلم والابتكار، كما أن عدد متحدثيها لا يتجاوز 130 مليون فرد وهو ليس حتى نصف سكان الولاياتالأمريكية لوحدها بلغة الانتشار والجغرافيا. من بين المعضلات في موضوع التعليم أننا لا نتوفر على دراسات جدوى محكمة، أو لا نريد ذلك تلافيا لنتائجه، لكي نقول إن الفرنسية أنفع، أو العربية ليست لغة علم أو غيرها من الفرضيات أو “المسلمات”، كما أن من معضلاتنا أن أصحاب التعريب واللغات الأصلية في التدريس، قلة لا سلطة لهم، لا بلغة المال ولا الإعلام ولا ضغط ولا صناعة قرار، بقي فقط تجديد اختبار أمانة التمثيل والنيابة في البرلمان، أما فرنسا وحزبها في المغرب فمعروف قوتها ومن أين تستمدها هنا وهناك. دفعا لحق يراد به باطل تجدر الإشارة إلى أنه لا مناص من الانفتاح على اللغات لكن من هي؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن يقرر؟ في أي سن نعلم الطفل؟ وبأي لغة؟ وعلاقتنا باللغات هل الترجمة للاستفادة كما فعلت أمم وحضارات حتى مع العربية نفسها، أم اعتمادها لغة التدريس لتنضاف للإدارة والتشغيل وغيرهما، السؤال والتحدي مرة أخرى “كن أنت أولا ثم انفتح ثانيا”. إن أول ما صُدرت به المادة 3 من مشروع القانون الإطار التي عددت أهدافه هو ترسيخ الثوابت الدستورية للبلاد المنصوص عليها في الدستور، فهل الفرنسية ضمن تلك الثوابت حتى توصي بها الرؤية الإستراتيجية للتعليم، ويخُطها القانون الإطار ويُلزم بها ما سينتج عنه من تشريع عاد لاحقا؟ 1. وسوم