تنطلق الممارسة السياسية من قاعدة التدافع الإنساني، الذي ينتج غالبا عن الاختلاف، أو التنوع، والاختلاف والتنوع يرتبطان بالإنسان وعالم أفكاره، وقائمة احتياجاته، و كذا تأثره بعوامل هي: البيئة التي نشأ فيها، ومستواها الثقافي، ومدى احتكاكها بشرائح المجتمع، كما يتأثر بهامش الحرية و الديمقراطية المتاح. وبكلمات اخرى فالسياسة حالة تعايش مستمرة بين التعاون من جهة والصراع من جهة اخرى. ; و تبعا لكل هذا من الطبيعي جدا أن يكون التنافس هو السمة الغالبة على الممارسة السياسية لمختلف مكونات المشهد السياسي ، لا سيما في بلد كالمغرب، حيث تعتبر التعددية الحزبية مظهرا أساسيا في المشهد السياسي المغربي، حيث تتواجد مجموعة من الأحزاب مختلفة الرؤى، و متباينة التوجهات. و إذا كان وجود التنافس السياسي شيء طبيعي بالنظر إلى ما ذكرناه آنفا، فإنه من جهة أخرى يعتبر ضروريا لأنه الترجمة المنطقية لوجود الأحزاب السياسية في المنظومة الديمقراطية، إذ لا معنى لتعددية حزبية دون تنافس سياسي يجد قناته الطبيعية في المسلسل الانتخابي الذي يجسد المعيار الحاسم لترجمة البعد الديمقراطي في أي نظام كما يترجم مسألة المواطنة والمشاركة السياسية إلى واقع ملموس. لكن المتابع للمشهد السياسي المغربي لين يجد كبير عناء في رصد كثير من التحولات التي يعرفها ذلك المشهد، ومنها النزوع نحو ما أضحى يسمى بعد الربيع العربي بالبلطجة عوض التنافس السياسي النزيه. فما هي البلطجة المقصودة هنا؟ و ما هي مظاهرها؟ و ما هي المقترحات الكفيلة بالعودة للتنافس السياسي كعامل إثراء للتجربة الديمقراطية الناشئة ببلدنا المغرب؟ البلطجة: نزوع نحو استعمال العنف الفظي أو المعنوي أو المادي غرضه فرض السيطرة على الطرف الآخر، و إرهابه و تخويفه غايته إلحاق الأذى به، أو قمع الرأي أو الحد من تأثيره الاجتماعي. و قد استعمل هذا المصطلح بكثرة إبان الربيع العربي و خاصة بمصر، وفي المجال السياسي لا يخرج هذا المصطلح عن كونه أسلوبا من أساليب العنف السياسي، باعتباره سلوكا يقوم به فاعله ابتداءً لتحقيق هدف سياسي أو للتعبير عن موقف سياسي , أو يقوم به فاعله ردا ً على موقف أو حالة أو عنف سياسي معين . وثمة شبة اتفاق بين اغلب الدارسين لظاهرة العنف السياسي على أن العنف يصبح سياسيا عندما تكون أهدافه أو دوافعه سياسية رغم الاختلاف بينهم في تحديد طبيعة هذه الأهداف ونوعيتها وطبيعة القوى المرتبطة بها , ومن هنا , عُرفَ العنف السياسي بأنه “استخدام القوة أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين، و قد يكون هذا الأذى جسميا أو نفسيا فالسخرية والاستهزاء من الفرد وفرض الآراء بالقوة وإسماع الكلمات البذيئة جميعها أشكال مختلفة لنفس الظاهرة.لتحقيق أهداف سياسية”. من مظاهر تفشي ظاهرة البلطجة في المجال السياسي نذكر ما يلي: 1- طبيعة الممارسة السياسية لدى البعض، حيث أن ممارسته للفعل السياسي مجرد وسيلة للوصول إلى المصالح الشخصية و المنافع الذاتية على حساب المبادئ و الأخلاق. 2- ظاهرة تفريخ الأحزاب السياسية و قيام العديد منها على أساس البلقنة و اللاعقلانية، بل أضحى العديد من تلك الأحزاب عبارة عن دكاكين انتخابية لا تفتح أبوابها إلا في الحملات الانتخابية، فضلا عن افتقادها للخط السياسي الواضح و البرامج الانتخابية الواقعية و القابلة للتطبيق، و لذلك نجد بعض الأحزاب نظرا لضعف تواجدها الجغرافي تعتمد على ما يسمى بالمرتزقة السياسيين من أجل تغطية الدوائر في الانتخابات. 3- الأمية السياسية لدى بعض الفاعلين، الذين ينظرون للآخر نظرة عداء وبالتالي فالعلاقة مع المخالفين بالنسبة لهؤلاء هي علاقة صراع صفري يقوم على محاولة القضاء على الآخر و إزالته و إنهائه سياسيا. 4- افتقاد عدد من الفاعلين السياسيين و الأحزاب السياسية إلى الشعبية و القاعدة الجماهيرية التي تؤهلهم لخوض التنافس السياسي النزيه بناء على الكفاءة و البرامج، مما يجعلهم ينزعون إلى البلطجة من أجل كسب الأصوات اعتمادا على العنف و شاء الذمم و إرهاب الخصوم و التشويش عليهم بشتى الطرق. 5- بناء تحالفات ليس على أساس برنامجي، أو بهدف خدمة مصالح الوطن و المواطنين، بل بغرض محاصرة بعض التجارب و الأحزاب المخالفة، كما هو الحال في تجربة G8 أو حاليا من خلال التحضير لتحالف G7. 6- اختلاق بعض الأزمات و النضالات الوهمية بغرض التشويش على حزب معين و تزييف الوعي الشعبي اتجاهه، كما حدث في المسيرة المشهورة باسم ” مسيرة ولد زروال” هذه فقط بعض الأسباب على سبيل الذكر لا الحصر، التي أدت إلى تفاقم ظهور هذا النوع من السلوك السياسي المعتمد على البلطجة و العنف، على أن مصطلح البلطجي و إن كان مستوردا من الواقع المصري، إلا أنه كان موجودا في المجتمع المغربي تحت مسميات أخرى منها” الكلوشار” و التشرميل” مؤخرا و غير ذلك للتعبير عن كل أشكال العنف المادي و المعنوي الممارس من طرف من يُعرَفون بشغبهم وفظاظتهم، وإمكانية قيامهم بكل الأدوار التي قد لا تكون مشروعة مقابل منفعة أو مصلحة مادية أو غيرها.. و إلى جانب ما ذكر، ظهر في الميدان نوعا جديدا من البطجة ، و هي البلطجة الإعلامية و بلطجية مواقع التواصل الاجتماعي، فالفئة الأولى تضم مجموعة من الدخلاء على الجسم الصحفي همهم الوحيد تسخير أقلامهم و مواقعهم الإلكترونية لمن يدفع أكثر، بل عبر التهجم على خصوم من يسخرهم، بالتشهير و التبخيس و التشويش، و قلب الحقائق و تغيير المعطيات، و محاولة ترصد الأخطاء، و اختلاق الأحداث. و إذا كان بلطجة الواقع يتميزون بالعنف في السلوك و التهجم المباشر على الخصوم، فإن البلطجية الإعلامية تسخر كل أدوات الإيذاء المعنوي و اللفظي، في محاولة لصنع رأي عام مناوئ للخصوم المفترضين، حتى أضحى عند البعض أن من يتعرض لهجوم بعض المواقع و الجرائد فذلك كاف لتأكيد مصداقيته و نزاهته. و من جهة أخرى أضحى التدوين في المواقع الاجتماعية مهنة من لا مهنة له، فمع تنامي الاستخدام اليومي لمواقع التواصل الاجتماعي بشكل مهول في المجتمع المغربي، فقد سخر البعض هذه التكنولوجيا المتقدمة لممارسة نوع من البلطجية السياسية من خلال تسخير تدويناته و العديد من الصفحات – من خلال ما أصبح يعرف بالذباب الإلكتروني- لمهاجمة الخصوم المفترضين معتمدين في ذلك على الإشاعة و السب و القذف وكل أساليب السخرية و الاستهزاء و الصور المركبة- الفوطوشوب- من أجل النيل من المخالفين لهم في الرأي و الموقف و الإيديولوجيا، و بالاعتماد على خطاب التعميم و التشكيك و لتحدث باسم الشعب، بل أضحت عبارات ” بارتاجي يا مواطن” و كلنا ضد…” و ” الشعب المغربي ضد…” عبارات دارجة في مختلف الصفحات من دون أي اكتراث بقوانين حماية الحياة الخاصة للأفراد. مع ذلك فإن تسخير هذه التكنولوجيا يبقى إيجابيا حين تكون أداة لحماية المواطن من جشع بعض الشركات أو أحزاب الشركات كما حدث في مقاطعة بعض السلع من طرف المواطنين. و بالرجوع إلى موضوعنا، فإن السؤال المطروح اليوم، يكمن في كيفية الارتقاء بالأداء السياسي، و هو ما يتطلب تغليب منطق التدافع التنافسي الذي يفوز فيه كل طرف بنسبة، عوض التنافس الصفري حيث يسعى كل طرف لإنهاء الآخر. إن ظاهرة البلطجة في المجال السياسي لا يمكن لها ان تستشري في أي مجتمع الا اذا توفر لها مناخ من التواطؤ والتغاضي والتقليل من حجمما ومحاولة ايجاد الذرائع التبريرية لها. لكن ينبغي أن يعي الجميع أن البلطجة و العنف لن يكونا بديلا عن التنافس السلمي ولا عن الحق في الاختلاف وما اللجوء اليهما الا لإخماد الصوت المخالف وفرض الراي الاوحد بالقوة وتعبير عن افلاس الخطاب وفشل قوة المنطق. بيد أن مصلحة الوطن تكمن في الاتجاه نحو بناء مستقبل افضل، و هذا دور جميع الاطراف و لا سيما الأحزاب التي ينبغي عليها أن تسعى الى ترجمة المبادئ المعلنة في أدبياتها و برامجها الى نشاطات ومقترحات قابلة للتنفيذ وايجاد اليات عملية للتنافس النزيه بينها يلتزم الجميع بالعمل على تفعيلها. هذا وحده هو الكفيل بالتأسيس لمناخ يضمن حرية التنافس بين مختلف الفرقاء، و الخروج من خطاب الإدانة إلى خطاب البناء خاصة وأن الانتظارات المجتمعية في تزايد مطرد. إن ما راكمه المجتمع المغربي في مجال الديمقراطية كفكرة وكممارسة وكثقافة يفترض ان ينعكس في السلوك السياسي، وفي الدعائية الحزبية عامة، و القدرة على الإقرار والاعتراف بالآخر. فالديمقراطية ليست صندوق انتخابات فقط ، وهي ليست قطعا ممارسة لمرة واحدة ، وهي لا تكون ديمقراطية نزيهة متى فزنا وتصبح فاسدة متى خسرنا. إن الديمقراطية أسلوب حياة وثقافة مجتمع، وممارسة وقيم موجهة للسلوك السياسي اليومي.