{بعيدا عن أيه مبالغة يمكننا أن نعترف بأن واقع التعليم في المغرب يلخص فيما يمكن أن نطلق عليه – نبل النظرية ودناءة الممارسة-}. هل ثمة حاجة إلى الخوض في المقاربة بالكفايات كموضوع هنا والآن؟ ما حدود هذه الحاجة وما مبرراتها؟ وكيف تكون الإفادة النوعية من هذا المقترب البيداغوجي؟ لربما هذه بعض التساؤلات، تستفز القارئ المفترض لهذه السطور. يندرج هذا المقال في إطار اهتمامنا بالشأن التربوي بالمجتمع المغربي، وما يعرفه من مستجدات تطرح معها إشكالات لا يحجبها الواقع. واهتمامنا بمقاربة التدريس بالكفايات مرتبط كذلك بالإصلاح الذي عرفته المنظومة التربوية والذي دخل حيز التنفيذ في بداية الموسم الدراسي 1999/2000 بتطبيق مضمون الميثاق. عرفت المدرسة المغربية مند الاستقلال في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، دينامية فرضتها حركية المجتمع والتحولات الكبرى التي عرفها المغرب. إذ بعد خروج المستعمر الفرنسي لم يعد مسموحا أن يظل النظام التربوي بمناهجه وبرامجه وإستراتيجيته تابعا له (أي للمعمر) ومفصولا عن مجتمع يسعى إلى التقدم والازدهار وتحقيق ذاتيته على مختلف الأصعدة. على هذا الأساس تأسس التعليم المغربي على أربعة مبادئ رئيسية وهي: المغربة، التعريب، التعميم، التوحيد والتركيز على المحتوى المعرفي مرورا ببيداغوجية الأهداف (1985) ليستقر به الحال بتبني المقاربة بالكفايات (1999) والتي تعتبر من أهم ما جاءت به الفلسفة التربوية في عهد الملك محمد السادس، والتي تهدف إلى تسليح المتعلم بمجموعة من الكفايات الأساسية، حددها الكتاب الأبيض (2002) في خمسة وهي: كفايات إستراتيجية وتواصلية وثقافية ومنهجية وتكنولوجية. (راجع الكتاب الأبيض) يتمثل الغرض الأسمى من هذه الكفايات في تمكين المتعلم من مواجهة الوضعيات الصعبة والمركبة التي يصادفها في واقعه المدرسي أو الشخصي أو الموضوعي، فالكفايات بهذا المفهوم هي بمثابة معارف ومهارات ومواقف يستحضرها المتعلم لحل مجموعة من المشكلات بغية التكيف والتأقلم مع المحيط وتحقيق التميز الدراسي والحرفي والمهني والاستجابة لمتطلبات سوق الشغل الذي لم يعد، في الوقت الراهن بحاجة إلى أفراد لديهم كم هائل من المعارف، بل يحتاج إلى أفراد لديهم القدرة على توظيف هذه المعارف، وذلك بنقلهم المعارف والمكتسبات المدرسية إلى الحياة المعيشة، وتعبئتهم المكاسب المعرفية داخل سوق الشغل. في ظل هذا المنطق الجديد الذي يسوده التكوين داخل المؤسسات التربوية كما يؤكد عبد الكريم غريب” فإن الأمر لم يصبح متوقفا على المعارف والمكتسبات، وعلى ما خزنه المتعلم في ذاكرته من معلومات، بقدر ما أصبح متوقفا على تكوين قدرات الدراية Savoir والإتقان Savoir- Faire وحسن التواجد Savoir- être وحسن التخطيط للمستقبل Savoir devenir ذلك أن هذه القدرات تسعى في مجملها إلى تكوين شخصية وفق نموذج الكفايات للتكيف مع مختلف الوضعيات والظروف، وتكون قادرة بالتالي على الإبداع والابتكار. هذه هي الرهانات التي أصبحت المدرسة المغربية المثالية تسعى إلى ربحها، من أجل الاستجابة لنوع المتطلبات التي تفرضها مختلف القطاعات الاقتصادية في ظل مناخ يسوده عنف المنافسة المأسسة على نجاعة الأداة أو الوسيلة وجودة المنتوج”(عبد الكريم غريب، نحو قراءة جديد للميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص 77). بناء على ما تقدم يتبين لنا أن اكتساب الكفايات هو السبيل الأنسب لتحصيل النجاح على جميع الأصعدة، وتحقيق الاستقلالية وهي بذلك تشكل مدخلا ضروري إلى تحمل المسؤولية والاعتماد على الذات لحل جميع المشاكل بعيدا عن الاتكالية والسلبية والغش. جاء البرنامج الإستعجالي (2009) بعد سنوات من التدريس وفق المقاربة بالكفايات، وبالتحديد المشروع الثامن منه ليتشبث بالتحديد الذي وضعه الكتاب الأبيض فيما يخص الكفايات الخمسة دون زيادة أو نقصان وبقي الحال على ما هو عليه مع الرؤية الاستراتيجية (2015/2030) التي رفعت شعارا، من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء…إلخ إن المتأمل في النظريات والرؤى التي تخص التربية والتكوين، سيخرج بخلاصة مفادها ” أن النظام التربوي المغربي من أرقى الأنظمة التعليمية عالميا على مستوى التنظير وتنزيل المخططات، لكن على مستوى الممارسة فهو من أفشلها”.وهذا ما تؤكده التقارير الدولية وحتى الوطنية خاصة الموضوعية منها. فهل استطاعت المدرسة المغربية ربح الرهانات التي وضعتها أثناء تبنى العمل بالكفايات؟ هل استطعنا تجاوز بيداغوجية الأهداف؟ هل استطاعت المقاربة بالكفايات خلق متعلم مبدع ومبتكر يحسن التصرف أم أنها أنتجت متعلما يتقن الغش والاتكالية؟ هل التدريس بالكفايات أنجع من التدريس بالأهداف أم أنه انتهى عهد العسل الحر وحل محله العسل المغشوش؟ تسمح الملاحظة الميدانية ومخرجات التقارير الوطنية والدولية (اليونسكو، البنك الدولي….) والخطب الملكية (20غشت2012 و20 غشت 2013)، بإقرار تدني مستوى جيل المقاربة بالكفايات رغم الجهود المبذولة من طرف جل الفاعلين من أجل تحسين جودة التربية والتكوين. ذلك أن تبنى هذا النهج التربوي لم تحترم فيه شروط التنزيل، وكذا خصوصيات المدرسة المغربية التي تعيش (الويلات) على مستوى البنية التحتية والتجهيزات، وهذا ما أكده التقرير الصادر سنة 2017 عن منظمة الأممالمتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونسكو)، حيث استبعدت المنظمة الدولية أن يحقق المغرب أهدافه في مجال التعليم العام، نظرا لتردي عرضه التعليمي وكذا الواقع المزري للمدارس العمومية، التي قال عنها التقرير أن 50% منها لا تتوفر على مرافق صحية…إلخ إلى جانب خلاصات التقارير الدولية التي يحتل حسبها التعليم المغربي مراتبا متدنية، نتوقف عند التقرير الصادر مؤخرا عن المجلس الأعلى للحسابات حول تقييم المخطط الاستعجالي لوزارة التربية الوطنية (2009/2012)، والذي أشار إلى أن النظام التعليمي لا يزال يعاني من نقائص تهم على وجه الخصوص الطاقة الاستيعابية وغياب التجهيزات والاكتظاظ وتزايد نسب الهدر المدرسي…إلخ. حتى يكون طرحنا موضوعيا؛ سيكون من المنهجي استحضار جيل بيداغوجية الأهداف التي تأسست نظريا على المدرسة السلوكية، والتي قيل عنها أنها تغيب المتعلم وتحد من فاعليته وإبداعيته. لكن بالرغم من هذا التفسيرات فقد استطاع جيل ما قبل (1999) تحقيق التفوق الدراسي والمهني والتمكن اللغوي والمعرفي. أما في عصر الحاسوب والإنترنيت ووسائط التواصل الاجتماعي والنظريات العصرية، فإن جيل الكفايات يعرف عن (رونالدو وميسي) أكثر مما يعرف عن مقرراته الدراسية، وهذا ما يؤكده الواقع المدرسي، حيث الكل يشكو من تدني المستوى الدراسي وعدم التمكن اللغوي وبروز ظواهر سلبية من عنف وغش…إلخ. أمام هذا الوضع يحق لنا أن نتساءل عن مآل التربية والتكوين بالمغرب، الذي لا يتوقف عن إصدار القوانين والمخططات المليئة بالأحلام والطموحات، إلا أن هذه الطموحات والمرامي يتصدى لها الواقع بقوة فأين يكمن الخلل؟. لا جدال أن الخلل يكمن من جهة أولى في هذه المخططات والرؤى التي يتم تنزيلها دون إشراك باقي الفاعلين عند صياغتها، وفي الدولة من جهة ثانية، هذه الأخيرة التي عملت خلال سنوات على تبخيس صورة الأستاذ وعدم منحه الأهمية التي يستحقها لا ماديا ولا معنويا، حيث تراجعت مكانته الاجتماعية وتدهور وضعه الاقتصادي وحتى النفسي بسبب المخططات التي تصدر ضد نساء ورجال التعليم (نظام التعاقد، واقعة ترسيب (150) أستاذ سنة 2016، مرسوم فصل التكوين عن التوظيف، أساتذة الزنزانة 9…). إلى جانب ما تعيشه أسرة التعليم بالمجتمع المغربي، نستحضر كذلك التكوينات المدرسية والجامعية لكونها تكوينات مفصولة اجتماعيا، حيث سجلت مجموعة من الدارسات والتقارير الفارق الكبير بين مواصفات المتخرجين وبين متطلبات سوق الشغل ( ولعل الواقع هو خير دليل؛ إذ نلاحظ تزايد نسبة بطالة المتخرجين، أو اضطرار بعضهم إلى العمل في وظيفة بعيدة كل البعد عن تخصصهم ، أو حلم الهجرة إلى الفردوس الأوربي…). نستنتج إذن أن هذه الوقائع التي لا تخفى على كبير وصغير، هي من ساهمت في تدني مستوى جيل الكفايات ولا يستطيع تحقيق تطلعاته المشروعة على المستوى المهني والمادي والاجتماعي، رغم الجهود المبذولة من طرف الفاعلين، فالتلميذ التي يعيش وسط هذه الظواهر ويشاهد حالة الإقصاء والعنف الذي يتعرض له باستمرار أهل التعليم، كيف نريد أن تكون له دافعية للتعلم. وفي الأخير لا بد من التأكيد أنه لا تقدم ولا تنمية ولا ديمقراطية، بدون الاهتمام الجدي بالتربية والتكوين ورد الاعتبار لأسرة التعليم، وتحقيق تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب الواحد، واحترام البيئة المجتمعية في أي إصلاح لأن استيراد المناهج والمقاربات ليس حلا. هذا لأن لكل مجتمع ظروفه التاريخية والمجتمعية والثقافية التي يعيشها. لذلك يتطلب التخطيط للتعليم بلورة فكرة واضحة تتناسب مع متطلبات العصرمن جهة وطبيعة المجتمع من جهة ثانية.