تدويل خصوصية قيمة الحوار في سياق الفعل الثقافي بما أن الثقافة أي ثقافة تشكل إحالة ضمنية على مختلف وسائل الحياة، الظاهر منها و الضمني، كما العقلي و اللاعقلي، التي توصل إليها الإنسان عبر التاريخ، و التي توجد في وقت معين، و تكون وسائل إرشاد توجه سلوك الأفراد في المجتمع، فهي على نحو ما : “كيان مركب من أساليب التفكير و الشعور و العمل، و هي أساليب منظمة، إلى حد أو آخر، يعتنقها و يعمل بموجبها عدد من الأفراد، فتحولهم موضوعيا و رمزيا، إلى جماعة موحدة ذات خصائص مشتركة”، و هي ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة، و العقيدة و الفن، و الأخلاق و القانون، و العادات و المواقف و كل القيم . إن الانفجار المعلوماتي غير المرشد، و التلوث، و التكنولوجيات القابلة للاستعمال في مختلف الاتجاهات، و الاكتشافات العلمية المُتَيَمِّمَةُ شطر الإسناد لمرجعيات ثقافية و فكرية متنوعة، و شطر الربح المنفلت من كل كبح قيمي، و مختلف الصراعات الدينية و الطائفية و العرقية، و النزعات التوسعية اقتصاديا و سياسيا و جغرافيا؛ تعتبر اليوم مصادر تأثير كبير في هندسة المنظومة الثقافية لمجتمعنا. إذ قد بات من الضروري التفكير في آليات و إجراءات للحد من الآثار السلبية لما سلف ذكره، و لضبط مناهج الكسب العلمي و الاكتشافي ضبطا استشرافيا، حتى يُوقَّعَ كل ذلك بحسب النفع، و يتجافى عن الإفساد، و لا يتصور ذلك في انفكاك عن استحضار وعي حضاري يتيسر تحصيله بجعل الحوار أفقا للفكر و الثقافة و جعل القيم حافزا يستوعب كافة أضرب النشاط الإنساني، مع التكييف التفصيلي بحسب طبيعة كل منهما. إننا نعيش اليوم – كونيا – أزمة انهيار نظم و قيم ثقافية بسبب التغيرات الكبيرة التي أصابت بنى المجتمعات جراء تغييب الحوار التوافقي المستوعب لمختلف المشاكل و الأزمات، و التي أصابت بنى و قواعد المجتمعات، و هياكل العلاقات الأسرية و الاجتماعية و الدولية، مما زج بالإنسان المعاصر في أنواع متعددة من الصراعات التي تبوأت مراتب خطيرة في الآونة الأخيرة، و هو مقتضًى ينذر بتمزق قيمي غير مأمون العواقب. و لقد أًحلت على الصعيد العالمي محل القيم المنهارة، قيم جديدة ذات طابع برغماتي، تتسم بنسبة كبيرة جدا بسبب الضعف في المعطيات الناجم عن القصور في البحث و الاستقراء من جهة، و عن الافتقار إلى مرجعية صواب تابثة تحيل على الحوار المرشد من جهة ثانية. و لعل من أهل الحقائق التي تحتاج إلى استيعاب و إدراك تامين، هي حقيقة التعدد والتنوع في هذا الوجود.. فهي قاعدة تكوينية شاملة و ناموس كوني ثابت، و أي سعي إلى إلغائها بدعوى المطابقة و ضروراتها و فوائدها هو سعي عقيم لأنه يخالف الناموس، و سعي لتبديد و تبديل حقائق الوجود، و هو أمر ليس بمقدور الإنسان فعله، و لكن هذا التنوع في الحقائق لا يؤدي إلى المفاصلة الشعورية و العملية و الاجتماعية، و إنما في الإنسان نزوع أصيل و حاجة حيوية إلى اعتماد مشتركات مع بني جنسه، لا تنهض بدونها أي حياة اجتماعية.. من هنا فإن مشكلة الإنسان الدائمة لا تنشأ من وجود الاختلاف أو التنوع، و إنما تنشأ من العجز عن إقامة نسق مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها. لذلك انطلقت الإرادة الدفاعية للمثقف الفاعل، تروم تجاوز كل المحاذير والهواجس التي تحول دون قبولنا أو تفاعلنا الخلاق مع كل مشروعات الحوار و مبادراته، في أفق تأسيس فعل فعال يجدد المدركات و يجودها، وتأسيس فضائنا الثقافي والاجتماعي، لكل شروط فعالية الحوار و ديناميته، بحيث يضحى هو عنوان حياتنا و وجودنا الإنساني. و الحوار من النوافذ الأساسية لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعية سوية بدونها، وعليه فإنه لا يدعو الآخر إلى مغادرة موقعه الطبيعي، و إنما لاكتشاف المساحة المشتركة و بلورتها و الانطلاق منها إمعانا في النظر إلى الأمور.