إذا كنت في بيت المتقاعد المغربي عبد الكريم بلفرحون فلا تسأل “كم الساعة؟”، لأن المكان يضم حوالي 100 ساعة حائطية، أغلبها ساعات ميكانيكية عتيقة، لكل واحدة منها حكاية خاصة معه، تحكيها تكتكاتها باستمرار في كل أرجاء البيت المكون من طابقين. ويضم البيت أيضا تحفا فنية أبدعتها أنامل الرجل البالغ من العمر 67 عاما. حكاية عشق لبلفرحون حكاية عشق مثيرة مع الساعات، يقول في حديث لجريدة “العمق”، إن هذا العشق بدأ منذ كان طفلا يدرس بإحدى المدارس ضواحي العاصمة الرباط، موضحا أنه انبهر آنذاك بساعة يدوية كان يضعها معلمه حول معصمه. ولأنه كان ابن أسرة فقيرة فشراء ساعة بالنسبة له آنذاك، كان بمثابة ترف يستحيل بلوغه، لذلك فكر في صنع ساعته الخاصة بما أتيح له من أدوات وقطع. أخذ غطاء حديديا لقنينة مشروب غازي ووضع داخلها ورقة رسم عليها عقارب وكتب عليها الأرقام، ثم وضع عليها قطعة زجاج حرص على قطعها بشكل دائري وثنى عليها جوانب الغطاء بدقة فائقة، ثم ربطها بخيط حول معصمه. ويضيف بلفرحون، وابتسامة حنين إلى الماضي تغازل شفتيه، أن هذا العشق للساعات ظل كامنا في نفسه قبل أن يتحول عام 1987 إلى هواية، لما اقتنى أول ساعة ميكانيكية عتيقة من أحد المهاجرين القادمين من أوروبا. حاول بلفرحون أن يضبط الساعة، إلا أنها تعطلت، فلجأ إلى أحد أصدقائه يسأله كيف السبيل لإصلاحها، لكن طريقة جواب هذا الأخير جعلته يعدل عن الفكرة ويقرر خوض تحدي إصلاحها بنفسه. واستطرد قائلا بأنه انتظر الصباح تلك الليلة بفارغ الصبر، وما إن أصبح حتى غادر فراشه متعجلا نحو سطح البيت حاملا معه تلك الساعة، قائلا: “حطيتها وفككتها وحاولت نفهم أشنو الحاجة اللي ماشي فبلاصتها.. وبقيت معها حتى خدمت”. المكان الذي أصلح فيه الرجل ساعته الأولى تحول بعد ذلك إلى ورشة يعمل فيها على إصلاح وتزيين ساعاته التي دأب على اقتنائها كلما سنحت له الفرصة على مر السنين، إلى أن وصل عدد الساعات في المنزل إلى 100 ساعة. “ساعة تستور” يعرف بلفرحون ساعاته كما يعرف أصابع يده، فلكل واحدة منها قصة يحكيها بإسهاب، يعتني بها طوال الوقت ويتفقدها كل لحظة، أما هي فلا تبخل عليه بتكتكاتها التي يرتب أفكاره على إيقاعها، أما رقّاصاتها التي تتأرجح بين اليمين والشمال فإن النظر إليها باستمرار مبعث راحة نفسية له، كما يقول. يحكي بلفرحون ل”العمق أن أغلى هاته الساعات كلفته 2250 درهما، مشيرا إلى أن لمسة من أنامله جعلتها تبدو في حلة جديدة، إذ صنع لها صندوقا خاصا زينه بالخرز الخشبي من الجوانب. أما ساعة أخرى وضعها في ركن ببهو البيت فإنها بدت أكثر تعقيدا وإبداعا، فرقّاصها عبارة عن حصان نحاسي تأرجحه يبدو كالركض، وعلى إيقاعها يتحرك سهمان اخترق كل منهما شكل قلب أحمر. وعند رنينها، الذي يستمر دقيقتين على رأس كل ربع ساعة، يتدفق الماء من نافورتين على جانبيها، وتدور ناعورة صغيرة، كما تطوف مجسمات حيوانات حول محور، وفي نفس الوقت تتحرك دمى في طابور أسفل الإطار مجسدة مطاردة بين فرقتين من الجنود. وتتوهج أيضا لوحة ومزهريتان في ركن آخر من البيت. غير بعيد عن هذه الساعة تبث بلفرحون في غرفة أخرى من البيت ساعة حرص على وضع لمسته الخاصة عليها، فهي عبارة عن إطار خشبي يضم ساعتين، استطاع الرجل أن يجعلهما تشتغلان برقّاص واحد، بدل رقّاص لكل واحدة منهما. تركيب الرجل لهذه الساعة جاء انطلاقا من رهان بينه وبين أحد أصدقائه الذي زاره في بيته، يحكي بلفرحون أنه اقترح على بعض الأصدقاء صنع ساعتين برقاص واحد، لكن أحدهم قال باستهزاء “مستحيل، إلا صايبتيها نجيب ليك مكانة كادو”، فتحفز الرجل لصنعها بدافع التحدي. يضم بيت بلفرحون أيضا ساعتان ميكانيكيتان عتيقتان تدور عقاربهما في الاتجاه المعاكس، من اليمين إلى اليسار، تماما مثل “ساعة تستور الأندلسية”، التي صممها المهندس الأندلسي محمد تغرينيو عام 1630 بالجامع الكبير بمدينة تستور شمال تونس. للخرز قصة الداخل إلى منزل عبد الكريم يجد نفسه في قلب لوحة فنية بديعة تتألف من ألوان وأشكال مختلفة ومتناسقة، محورها الساعات العتيقة. وقبل الدخول إلى المنزل يمكن تمييز البيت بسهولة عن بيوت الجيران، فبابه عبارة عن قضبان حديد وسيقان قصب زينت بالأصفر والبرتقالي والأخضر. جل أثات البيت صنعه المتقاعد البالغ من العمر 67 سنة بنفسه، من ثريات متدلية من السقف وموائد مزينة بالخرز الخشبي والألوان، ولوحات وغيرها، وكل التحف تقريبا مزينة بالخرز الخشبي. يذكر بلفرحون لما وجدت إحدى بناته خرزا خشبيا بالشارع وجمعته وجلبته له قائلة “شوف أش لقيت”، لكن الرجل نظر إليها وابتسم قائلا “أش غانديرو به”، ثم وضعه في الدولاب، ويستطرد قائلا إنه لما صنع ناعورة صغيرة لإحدى ساعاته لم يجد ما يضع مكان الدلاء غير ذلك الخرز. ويتابع في حديثه ل”العمق”، أنه منذ ذلك الحين وهو يستعمل الخرز الخشبي في جل التحف التي يصنعها، إذ يضم بيته اليوم عشرات الآلاف من حبات الخرز مرتبة بعناية فائقة، مشيرا إلى أنه بدأ هواية صنع التحف عام 2007. زيارة “العمق” لبيت بلفرحون صادفت عمله على كرسي بثلاثة قوائم مغطى بالخرز الخشبي، بعدما انتهى من صنع مائدة مستديرة وأربعة كراسي صغيرة كلها مغطاة بحبات الخرز التي عكف على قطعها إلى نصفين بمنشار صغير واحدة واحدة. أما الألوان في البيت وفي كل التحف لا تكاد تخرج عن ثلاثة؛ الأصفر والبرتقالي والأخضر، وبهذا الخصوص قال بلفرحون إن عشقه لهذه الألوان كان منذ طفولته لما كان في المدرسة ويرى هذه الألوان في كتب “الفنون”. رتب بلفرحون بيته بعناية فائقة، واضعا لمسته الرقيقة على كل شيء، مستغلا كل الأركان والجنبات، ما جعل البيت يبدو متناسقا كأن قطعه أصوات موسيقية تؤلف مجتمعة معزوفة بديعة. فلم يترك ركنا إلا استغله، مثبتا اللوحات في السلم ومزينا الدرابزين بالخرز والألوان، أما السطح فقط زينه بأصص النباتات والأزهار. واستغل أيضا السطح في إنتاج الطاقة الريحية والشمسية. يقول الرجل إنه يعمل في ورشته منذ الصباح حتى المساء، مشددا على أنه لا يحمل هاتفه النقال حتى لا يقطع عليه رنينه حبل تفكيره، مستدركا أن أفكار تصميماته قد تعن له في أي وقت، ويطورها ثم ينفذها، مشددا على أنه يصنع من كل تحفة قطعة واحدة دون أن يكررها مستقبلا. من صيد إلى صيد رغم أن بلفرحون عاش طفولة صعبة في كنف أسرة فقيرة إلا أن حنينه إلى الماضي وذكرياته ظل يراوده دائما، وهو ما عكسته صور طفولته وشبابه التي وزعها على الجدران. نظر بلفرجون مليا إلى إحدى صوره أيام شبابه يظهر فيها يحمل بندقية صيد، وقال بنبرة يعتريها الكثير من الحنين، “كانت الهواية ديالي هي الصيد، كنا كل موسم كنخرجو.. دوزنا شحال”. لكن صائد الأرانب والطيور لم يكن يعلم حينها أنه سيتحول إلى صيد الساعات العتيقة. حلم الستين غالبا ما يتشبث الأشخاص بأحلام في شبابهم لتحقيقها في الكبر، لكن بلفرحون الذي يتمتع بهمة وإبداع الشباب مازال ينتظر تحقيق “حلم كبير”، يتمثل في تكوين شباب في هذا “الفن”، ثم تأطيرهم وتوجيههم لتزيين بعض المساجد ببعض التحف، خصوصا تلك اللوحات التي كتبت عليها آيات قرآنية.