اتفق العلماء قديما و حديثا على أهمية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، رغم اختلافهم في وضع تعريف موحد لمعناه، عرَّف الشَّاطبي الاجتهاد بأنه: استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم. أما الغزالي فقال: بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة. وقال ابن الحاجب: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي، وتبعه التفتازاني. وقال ابن مفلح: استفراغ الفقيه وسعه لدرك حكم الشرعي. و قال ابن جُزَي: استفراغ الوسع في النظر في الأحكام الشرعية. و قال القرافي: بذل الوسع في الأحكام الفروعية الكلية ممن حصلت له شرائط الاجتهاد. لكن رغم هذا الاتفاق في المعنى، اختلفوا في قضايا عدة من مبحث الاجتهاد منها: الاجتهاد بين الانقطاع و الاستمرار. وقد وفق الشاطبي في ذكر الاجتهاد الذي ينقطع و الذي لا ينقطع فقال: الِاجْتِهَادُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَتَّى يَنْقَطِعَ أَصْلُ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَالثَّانِي: يُمْكِنُ أَنْ ينقطع قبل فناء الدنيا. ثم شرع بعد ذلك في تفصيل نوع الاجتهاد الذي لا ينقطع أبدا فقال: فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ الِاجْتِهَادُ الْمُتَعَلِّقُ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَهُوَ الَّذِي لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي قَبُولِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِمُدْرَكِهِ الشَّرْعِيِّ لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَعْيِينِ مَحَلِّهِ. فهذا النوع من الاجتهاد لَا بُدَّ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نَاظِرٍ وَحَاكِمٍ ومُفْتٍ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ؛إِذْ لَا يُمْكِنُ حُصُولُ التَّكْلِيفِ إِلَّا بِهِ، فَلَوْ فُرِضَ التَّكْلِيفُ مَعَ إِمْكَانِ ارْتِفَاعِ هَذَا الِاجْتِهَادِ؛ لَكَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا، كَمَا أَنَّهُ غير ممكن عقلا. وأما القسم الثاني – وَهُوَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ -: فهذا القسم بيَّن الشَّاطبي ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الْمُسَمَّى بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ، وَذَلِكَ أَنْ يكون الوصف المعتبر في الْحُكْمِ مَذْكُورًا مَعَ غَيْرِهِ فِي النَّصِّ؛ فَيُنَقَّحُ بِالِاجْتِهَادِ، حَتَّى يُمَيَّزَ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ مِمَّا هُوَ مُلْغًى. وَالثَّانِي: الْمُسَمَّى بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أن النص الدال على الْحُكْمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنَاطِ؛ فَكَأَنَّهُ أُخْرِجَ بِالْبَحْثِ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ الْقِيَاسِيُّ، وَهُوَ مَعْلُومٌ. وَالثَّالِثُ: هُوَ نَوْعٌ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ ضربان: أَحَدُهُمَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَنْوَاعِ لَا إِلَى الْأَشْخَاصِ، كَتَعْيِينِ نَوْعِ الْمَثَلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَمَا أشبه ذلك، وقد تقدم التنبيه عليه. الضرب الثَّانِي: مَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ مَنَاطٍ فِيمَا تَحَقَّقَ مَنَاطُ حُكْمِهِ، فَكَأَنَّ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ عَلَى قِسْمَيْنِ: – تَحْقِيقٌ عَامٌّ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ. – وَتَحْقِيقٌ خَاصٌّ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِّ. فَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ نَظَرٌ فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ التَّكْلِيفِيَّةِ. مثال ذلك: جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ الْأَمْرُ بِالنِّكَاحِ وَعَدُّوهُ مِنَ السُّنَنِ، وَلَكِنْ قَسَّمُوهُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ وَإِنْ كَانَ نَظَرًا نَوْعِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالنَّظَرِ الشَّخْصِيِّ. وفيما اطلعت عليه لم يتبين لي أن أحدًا من الأصوليين صرح بهذا التقسيم للاجتهاد. من خلال ما سبق نتساءل هل يمكن خلوُّ الزمان من المجتهد أو لا؟ أو فتور الشريعة؟ هذا محل نظر؛ فبعض الأصوليين جوَّز اندراس الشريعة، وتعطل الأحكام؛ كالأشعري، ، والجويني، والغزالي. ففي القسم الثاني عند الشاطبي وهو إمكان انقطاع بقية أنواع الاجتهاد – دون ما سبق في القسم الأول – قبل قيام الساعة، فالشَّاطبي قد وافق فيه الجمهور. إذا تبين هذا، فالشَّاطبي متميز بهذا التقسيم الفريد، منفرد بتوضيحه بهذه الصورة.