(1) إدراكاً من حركتنا الإسلامية في الداخل الفلسطيني لأهمية العمل السياسي في صياغة الحياة اجتماعيا وتربويا وثقافيا ودعويا وسياسيا واقتصاديا، ولضرورة تغيير الأوضاع التي يعيشها مجتمعنا العربي تحقيقا لرؤيتها في بناء مجتمع صالح ومتماسك ومنسجم مع قيمه الدينية والوطنية والقومية، جاء قرارها بالمشاركة السياسية ابتداء في انتخابات البلديات والمجالس المحلية منذ العام 1983 (الشيخ كامل ريان/كفر برا رئاسة، وكفر قاسم عضوية)، مرورا بمحطة انتخابات العام 1989 حيث حققت فيها الحركة الإسلامية إنجازات كبرى لفتت انتباه السلطة المركزية والرأي العام في المجتمعين العربي واليهودي على حد سواء، وليس انتهاء بالانتخابات البرلمانية التي خاضتها الحركة الإسلامية عام 1996 في إطار وحدوي مع الحزب الديموقراطي العربي (عبدالوهاب دراوشه)، الوحدة التي أسست لوحدة اكبر فيما بعد، وألهمت بطريقة مباشرة وغير مباشرة كل العاشقين للوحدة العربية في الداخل ان يحثوا الخطى غير هيّابين ولا مترددين لتحقيقها مهما طال الزمن وبلغت التضحيات، حيث تكللت هذه الجهود في النهاية في إقامة (القائمة المشتركة) عام 2013، لأول مرة في تاريخ الأقلية العربية الفلسطينية الأصلانية منذ نكبة فلسطين عام 1948 وحتى الآن.. (2) للحركة الإسلامية فلسفتها ومنطقها في خوض غمار المنافسات على المستويين المحلي (الحكم المحلي) والقطري (البرلماني)، أضافة الى تفكيرها الجدي في خوض غمار المنافسات في مجال النقابات المختلفة ومجالس الطلاب الثانويين والجامعيين إلى غير ذلك من مجالات العمل العام، والذي اعتقد انه لن يكون بعيدا او مستبعدا في المستقبل المنظور.. تقوم هذه الفلسفة ببساطة على مجموعة من المبادئ والأسس من أهمها: اولا، تمتلك الحركة الإسلامية مشروعا إصلاحيا (برنامج سياسي) شامل يستحق ان تعرضه على الجمهور العربي الفلسطيني، وأن تطلب تأييده بناء عليه في إطار منافسة ديموقراطية حقيقية ونزيهة تسعى لتطوير الأنموذج السياسي المحلي والقطري، وتقبل بنتائج (اللعبة الديموقراطية) أيا كانت إيمانا منها بالقول الفصل للامة والشعب دون غيره. ثانيا، غياب المشروع الإسلامي الإصلاحي عن الساحة كمنافس مشروع وذي مصداقية كاملة لا تقل عن غيره، خسارةٌ كبيرة للتعددية والتنوع الذي يحتاجه مجتمعنا من اجل تحقيق النقلة النوعية التي يسعى لتحقيقها منذ امد بعيد في ظل الظروف والأوضاع المعقدة والمتشابكة التي يعيشها منذ امد بعيد، وتفويتٌ غير مبرر لفرصة يكون فيها مجتمعنا أقرب إلى الصلاح منه إلى الفساد بفضل ما تملكه الحركة الإسلامية من إمكانات وقدرات ومهارات ورؤىً إن انضافت إلى غيرها كان ذلك ربحا خالصا لكامل المجتمع.. ثالثا، انسحاب الحركة الإسلامية ومشروعها الإصلاحي من الساحة فيه تعزيز لرؤىً علمانية وليبرالية يمينية ويسارية أحادية، وفيه أيضا تضييق لمساحة الاختيار أمام المواطن الفلسطيني التواق إلى فكر ونهج يلامس أشواقه الروحية كما يلامس أشواقه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وسيوقفه حائرا امام بديل واحد وإن تنوعت ألوان طيفه، الامر الذي يزيد حالة الإحباط والانكفاء نحو الذات انتظارا ل – “المخلص” الموعود! رابعا، غياب الحركة الاسلامية عن المشاركة السياسية فيه تهميش ظالم لمشروعها، كما ان فيه تعزيزا لحصون المنافسين له والرافضين لمشروعيته سرا وعلانية، وسيهيئ أجواء مريحة لأصحاب الأهواء والمنافع السياسية من كل مِلَّةٍ وَنِحْلَة لتعزيز قبضتهم – منفردين – على المجتمع ومقدراته وتشكيل وعيه وتحديد مصيره! خامسا، انسحاب الحركة الإسلامية من المشاركة السياسية فيه إضعاف للجبهة العربية الفلسطينية الداخلية في مواجهة التغول الصهيو – يهودي المتحالف مع بعض القوى المحلية المستفيدة، خصوصا وان الحركة تُعتبر مكوِّنا أصيلا يستطيع تقديم خدمات نوعية لمجتمعه قد لا تستطيع قوة غيرها تقديمها بشكل ناجع، او على الأقل يمكنها رفد عملية النضال الجماعي بطاقةٍ ما مِنْ شك في انها تشكل إضافة نوعيه للمجهود الجمعي. سادسا، رفض المشاركة يساهم في صناعة وعي عربي فلسطيني مشوه يعزز الانعزالية الحقيقية (لتمييزها عن العزلة الشعورية المشروعة)، الامر الذي نعتبره تحريفا لمفاهيم وقيم راسخة في الفكر الإسلامي جعلت من التعامل المباشر مع الناس والصبر على خدمتهم ومخالطتهم، وحمل الخير لهم دون استثناء، أضافة إلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (إصلاح)، والتعرف على الأمم الأخرى والبحث عن المشترك معهم، من الأصول الإسلامية الكبرى التي لا غنى عنها أبدا. سابعا، لم تكن المقاطعة بكل اشكالها في منظور الحركة الإسلامية هي القاعدة، بل الاستثناء، فلا تُستعمل إلا في أضيق نطاق كإجراء وقائي لا يتم اللجوء اليه إلا في حالة عجز الفرد أو الجماعة عن إنكار المنكر والامر المعروف وإقراره، أو يخشى الفرد او الجماعة على دينه/ها، وهي حالة لا يمكن ان نتصورها في عالمنا المعاصر إلا نادرا! ثامنا، يتصور البعض ان الهدف من المشاركة السياسية الفاعلة والشاملة هو أن يملأ المسلم الأرض قسطا وعدلا بعدما مُلِئَت ظلما وجورا، وهذا من المحال عقلا ونقلا. مجتمعنا العربي الفلسطيني ككل مجتمع في الدنيا فيه ما فيه من الخير والشر والحق والباطل والحَسَنِ والسيئ، إلا أنه لا مجتمع لنا غيره ولا شعب لنا سواه، فعليه لا نملك الا أن نفديه بالغالي والنفيس، وأن ندافع عن قضاياه ومصالحه العليا الدينية والوطنية والقومية، وجودا وهوية وحقوقا، بكل ما نملك، وأن نسعى بلا كلل ولا ملل لإصلاح حاله ومعالجة أمراضه، ليس طمعا في مكسب، ولكن أداء لأمانة وعملا بفريضة ربانية، وتحقيقا لغاية إلهية علوية سَنِيَّة.. أن نصل إلى مجتمع يستحق أن يكون في قلب الحدث الكوني لا على هامشه. تاسعا، تؤمن الحركة الإسلامية أن جلب المصالح ودرء المفاسد (دونما تقديم او تأخير، ودونما نظر فيما منهما الأصل وفيما منهما الفرع)، هو الطريق الأقصر لصناعة مجتمع يكون أقرب الى الصلاح منه الى الفساد. كما تؤمن أن تحقيق هذه الغاية من الواجبات الشرعية، وان الوسيلة إلى ذلك تشمل فيما تشمل المشاركة السياسية، وبما أنه (ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب)، أصبحت المشاركة السياسية واجبا من حيث المبدأ، إلا إذا طرأ ما يمنع هذه المشاركة مؤقتا لأسباب موضوعية.. لذلك، فالادعاء ان المشاركة السياسية في ظل واقع فاسد هو (تلميع!!) لهذا الواقع، ادعاء لا يرتكز إلى ادلة شرعية ولا إلى اعتبارات موضوعية، لأن الأصل في المشاركة توفر النية الصالحة والصادقة ومقدار ما يدفع من المفاسد ومقدار ما يجلب من المصالح دون النظر إلى حجمها او مقدارها او أثرها. فقد علمتنا التجارب ان الإنجازات تراكمية ولا يمكن الحكم عليها في نقطة ما من زمان او مكان، وهي في المشاركة السياسية المحلية (بلديات ومجالس) أوضح منها وأسهل خضوعا لمعايير الحساب الكَمِّي منها في الانتخابات القطرية (البرلمانية)، وذلك لأسباب لا تخفي. من أهم هذه الاسباب ان السلطات الممنوحة للرئيس وإدارته في الحكم المحلي أوسع وأعمق وفي جميع المجالات التي حددها القانون، وهي أقرب الى اختصاصات السلطة التنفيذية في الدول (حكومة)، بينما هي أضيق بكثير في المجالس النيابية خصوصا حينما يكون الحديث عن (معارضة) وليس عن حكومة! (3) لكل هذه الأسباب تبنت الحركة الإسلامية خيار المشاركة السياسية الفاعلة والنشطة محليا وقطريا حيثما كان ذلك ممكنا، مقدِّمَةً لمجتمعنا العربي رؤيتَها الواضحة بخصوص عملية الإصلاح والتنمية المطلوبة والتي تجعل الانسان في المركز تنشئة وتوعية وبناءً: عقلاً (بالعلم) وروحاً (بالاخلاق) وجسداً (بالصحة والحيوية والعطاء)، ثم الاسرة تحصينا وتثقيفا ووعيا، فالمجتمع أداءً وبناءً وتنميةً وتطويرا وتحديثا.. تنبع أهمية المشاركة السياسية في (الحكم المحلي) في أدبيات الحركة الإسلامية فوق ما ذكرته سابقا من مسوغات شرعية وعقلية، من خلال قناعتها بالدور المهم الذي يلعبه هذا الذراع التنفيذي الذي اعتمدته الأمم قديما وحديثا من أجل تسيير شؤونها وتدبير أمورها، وما يترتب على ذلك من جلبٍ للمصالح الفردية والجماعية ودرءٍ للمفاسد والمخاطر التي تتعرض لها مجتمعاتنا وهي تعيش في قلبِ عاصفةِ الظروف الموضوعية التي تمر بها داخليا (الذاتية)، وخارجيا من حيث سياسة التمييز العنصري والقهر القومي التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ قيام إسرائيل وحتى الآن.. يشكل الانتماء الأصيل وغير المشروط لمجتمعنا العربي الذي تحرص الحركة الإسلامية على تعميقه وتطويره وتنميته دائما، المدخل إلى قيمة “الالتزام الذاتي” الذي تُربي الحركةُ كوادرَها واجيالَها على هديه.. الانتماء في منظور الحركة الإسلامية عبارة عن معادلة بسيطة لكنها جليلة، تعبر عن الذروة في الفهم العقائدي لهذه المنظومة المحكمة.. الانتماء = التزام + اهتمام.. فالالتزام دون الاهتمام لا قيمة له، كما ان الاهتمام دون الالتزام لا قيمة له أيضا.. أما الانتماء فلا وجود له الا في اجتماع العنصرين: الالتزام والاهتمام معا.. جذور هذه المعادلة (المدنية) ممتدة عميقا في تربة الانتماء للدين عقيدة وعبادة وأخلاقا وفهما وتضحية وعطاء. فمن (عاش دينَة)، وعاش ل – (دينِه) بهذا المفهوم، هو الأقدر على الانتماء الصادق لمجتمعه الذي يعتبره بوابته لسعادة الدنيا والاخرة.. (4) عرفت المجتمعات البشرية منذ القدم انماطا مختلفة من الإدارة المحلية تطورت مع مرور الزمن وارتقاء الفكر، حتى لا نكاد نجد مرحلة في تاريخ البشرية إلا وعرفت شكلا من اشكال هذه الإدارة.. بدأت الصورة الأولى لهذا النظام في الجنة حيث خلق الله آدم وحواء عليهما السلام اللذين شكلا النواة الأولى للمجتمع الإنساني في أعظم بيئة جمالا وجلالا وبهاء وراحة وسعادة، في الجنة.. كان لمجتمع الانسان الأول هذا نظامٌ يشمل العناصر الأساسية لأي نظام: أولا، مجتمع بشري (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، ثانيا، أرض وبيئة/منطقة نفوذ (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)، ثالثا، نظام يشمل الحقوق والواجبات “افعل ولا تفعل” (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ) و (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)، ورابعا، نظام عقوبات (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). كما اتسم ذلك المجتمع الصغير بصراع خفي بين الانسان الذي كرمه الله وأسجد له ملائكته، وبين الشيطان المتربص والذي يمثل كل شر في المجتمع، حيث زود الله (السلطة العليا) الزوج آدم وحواء عليهما السلام بكل ما يلزم من التعليمات والتحذيرات الكفيلة بحمايته من كيد الشيطان وضمان سعادته وراحته واستقراره وأمنه (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا. وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى).. بدأ الشيطان بممارسة ضغطه الرهيب على سيدنا آدم عليه السلام مستعملا كل ما يملك من أساليب المكر والدهاء وأساليب الترغيب والترهيب طمعا في غوايته والانتقام منه والكيد له، تماما كما يفعل اهل الشر في كل مجتمع، (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) و (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، فعندما وقعت المخالفة ووقع آدم عليه السلام في المخالفة، كان لا بد ان يتحمل المسؤولية (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِين).. لم يتوقف الامر عن هذا الحد فكان الهبوط، ولكن بعد تجربة مريرة كان لا بد لآدم وذريته من بني الانسان من الاستفادة منها (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ)، الا ان الله رحمةً بآدم وحواء وضماناً لحياة بشرية مستقرة، كان لا بد من توبة الله عليه، واستمرار التوجيه له حتى العودة إلى الجنة من جديد (فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) و (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)… (5) حَرِصْتُ على استعراض هذه التجربة الإنسانية التي شكلت بداية الخليقة لأؤكد على: أولا، ان عناصر بناء المجتمع الفاضل لم تختلف في جوهرها منذ تلك البداية البعيدة وحتى يومنا هذا.. الاختلاف الوحيد هو أن ظاهر المجتمعات وآليات عملها قد تطورت كثيرا جدا، إلا ان ازماته ما زالت هي هي، لم تتغير ولم تتبدل، وأن الصراع بين قوى الجذب داخل المجتمع (خيرا وشرا، حقا وباطلا)، ظلت هي هي، لم تتغير ولم تتبدل أيضا! ثانيا، ان الحركة الإسلامية وهي تخوض المشاركة السياسية المحلية أساسا تأخذ بعين الاعتبار هذه العواملَ المُشَكِّلَة للمشهد المجتمعي، وعليها بنت نموذجها في الإصلاح الاجتماعي مستفيدة من كل ما استحدثته الإنسانية من آليات ونظم حديثة في الإدارة تحقيقا لذات الغاية: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى).. غايتنا بناء مجتمع أقرب الى (الجنة) الأرضية يعيش فيها الانسان في سعادة واستقرار وأمن وتطور لا يتعرض لأي تنغيص لا في نفسه، ولا في كرامته، ولا في اهله، ولا في ماله، ولا في دينه، ولا في عرضه، ولا في عقله، ولا في حقوقه الأساسية. يهيئ نظام الحكم المحلي الذي اعتمدته دول العالم العصرية على مبدأ الجمع بين الأسلوب المركزي في الإدارة والحكم، وبين الأسلوب اللامركزي، والذي يعني نقل الدولة للكثير من الصلاحيات والاختصاصات ذات الصفة المحلية إلى إدارات منتخبة ديموقراطيا (بلديات ومجالس محلية)، تشاركها حمل العبء بعد تشعب واتساع اختصاصات الحكومة المركزية، مع احتفاظ الحكم المركزي بحق الرقابة على هذه الهيئات على أساس التعاون والتساند. (6) كأي تجربة بشرية فإن لهذا النمط من الحكم والإدارة إيجابيات كثيرة كما له سلبيات كثيرة. إلا أننا يجب ان نكون شجعانا في وضع الاصبع على موضع الألم في هذه المسألة في كل ما يخص تجربة المجتمع العربي في إسرائيل في هذا الصدد.. للحكم المحلي العربي في إسرائيل وجهان. الأول، يخص المجتمع العربي ولا دخل للحكم المركزي فيه غالبا.. أعنى، حسن استعمال وتنفيذ قانون الانتخابات البلدية بما يحقق الأهداف ويضمن ممارسة الاختصاصات بما يخدم مجتمعاتنا العربية بأعلى مستوى ممكن من المهنية والكفاءة. تطوير الثقافة والأداء السياسيين في مجتمعنا العربي من خلال اختيار أفضل المرشحين وأكثرهم كفاءة ومهنية للرئاسة والعضوية، واختيار التشكيلات السياسية الأقرب إلى روح العصر التي تخوض الانتخابات (قوائم عائلية او حزبية أو…)، وتحديد نوعية البرامج السياسية ومدى مصداقيتها وموضوعيتها وواقعيتها، واختيار أساليب الدعاية الانتخابية وحرفيتها، وغيرها من القضايا ذات الصلة، تقع كلها تحت سيطرة مجتمعاتنا نفسها والتي تتحمل المسؤولية الكاملة عنها سلبا او إيجابا.. فكلما كان أداؤنا كمجتمع عربي مهنيا واحترافيا ومبدئيا، كانت النتائج أفضل، والعكس صحيح.. اما الوجه الثاني، فهو في قبضة الحكم المركزي بالكامل، ويتحدد في: 1. مناطق النفوذ التي حددها لكل بلدية سعةً وضيقا، ومدى استجابتها لحاجات سكان المدينة الحقيقية. 2. الخرائط الهيكلية المصادق عليها، ومدى مطابقتها للواقع، وشمولية الحلول التي تطرحها لحل أزمات المدينة العربية المتراكمة. 3. حجم حرص الحكم المركزي على تطوير مصادر دخل البلدية العربية من خلال المصادقة على مناطق صناعية وتجارية متطورة. 4. حجم الميزانيات المقررة للحكم المحلي العربي (عادية وتطوير وغيرها)، مقارنة مع تلك المخصصة للحكم المحلي اليهودي. 5. قدرة البلدية العربية على تقديم الخدمات المتنوعة والمتطورة لسكانها مقارنة بقدرة البلدية اليهودية. 6. مدى جدية الحكم المركزي في دعم الحكم المحلي العربي في مواجهة المخاطر والتحديات التي تواجهها المدينة العربية، بما في ذلك التحرك الحقيقي لمكافحة العنف والجريمة المتفشية أسوة بتحركها في المجتمع اليهودي. كل هذه القضايا وغيرها هي بيد الحكم المركزي الإسرائيلي حصريا، وهو المسؤول الأول والأخير عن تنفيذها وتقديمها، ولذلك لا يمكن تحميل الحكم المحلي العربي المسؤولية عن أي تقصير في هذا الصدد ما لم يوفر له أدوات الفعل الحقيقية! نزعم في الحركة الإسلامية اننا ومن خلال تجاربنا المختلفة في إدارة عدد من البلديات والمجالس المحلية، أننا أحدثنا اختراقا في الملفين المذكورين.. أما في الملف الأول، فقد نجحت الحركة الإسلامية في نقل مجتمعاتها من نمط الانتخابات التقليدي (عشائري وحمائلي) إلى نمط سياسي جديد يتميز ب – 1. انه أيدولوجي فكري عابر للعائلات التي ظلت تحظى بالاحترام والتقدير مع الحرص على تطوير أدائها بما يتفق مع روح العصر 2. يقدم الكفاءة فقط سواء على مستوى الرئاسة او العضوية 3. يحمل رسالة تركز على المصلحة العامة بعيدا عن المصالح الخاصة غير القانونية وغير المشروعة 4. يكرس ثقافة العمل السياسي الرصين المبني على البرامج الواضحة والشفافة وتداول السلطة من خلال تحالفها 5. المزاوجة الذكية بين الوطني والخدماتي المطلبي 5. يحاول قدر المستطاع تحرير الجهاز الإداري من ابتزاز مجموعات الضغط وأصحاب المصالح الخاصة 6. يعزز ثقافة احترام القانون، وحماية الملك العام 7. تعزيز ثقافة الانتماء المجتمعي والالتزام الذاتي من خلال تنفيذ مشاريع تطوعية دورية 8. استكشاف المهارات والطاقات المميزة في كل فئات المجتمع وخصوصا في قطاع الطلاب، ووضعها على الطريق الصحيح حتى تحقق ذاتها. اما في الملف الثاني، فقد كان أداء الرؤساء من الحركة الإسلامية مهنيا حتى النخاع، الأمر الذي حظي باحترام كل المسؤولين على جميع المستويات الحكومية، وهيأ الظروف المناسبة للحصول على الدعم وإن ظل حتى هذه اللحظة تحت المستوى الذي نطمح اليه ونتمناه.. أذكر هنا انه وفي انتخابات العام 1989 وبعد ان حققت الحركة الإسلامية انتصارات كاسحة في عدد من المدن والقرى، خرج وزير الداخلية حينها (آرييه درعي) من حزب (شاس) الاصولي مصرحا: سنشتاق من الآن فصاعدا إلى (راكح/الحزب الشيوعي)، في إشارة منه إلى أن انتصار الحركة الإسلامية سيشكل مشكلة للحكومة المركزية قد تكون أشد تعقيدا من تلك التي شكلها الحزب الشيوعي حتى ذلك الوقت. لكنه عاد بعد بضعة أشهر وبعد ان التقى بالرؤساء من الحركة الإسلامية، ليعترف أنه كان مخطئا في انطباعاته الأولى، وأنه مقتنع الآن ان أمامه رؤساء شباب يعرفون ما يريدون، وأنهم جاءوا ليكونوا خدما لمجتمعاتهم لا سادة عليهم. يتبع ……… *** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني