(إذا دخل الفقيه السياسة، أفسدته وأفسدها) ابن خلدون حالتان منفردتان عرفهما صيف السياسة هذه السنة، إعفاء وزيرين من مهامهما وتنصيب وزير جديد، قد يكون الأمر عاديا كما جرت عادة تعديل جزئي على الحكومات المتعاقبة، لكن هذه المرة بالنظر إلى طبيعة الوزيرين المعفيين، وكذا سياق وطريقة إقالتهما، يوحي أن الأمر قد لا يكون عاديا. فمسطرة الإعفاء استندت أساسا على اقتراح رئيس الحكومة، أو بناء على طلبه واستشاراته قبل القيام بالإجراءات، لكن الغريب في الأمر هو تعامل رئيس الحكومة مع القرارين بشكل إداري، علما أن الموضوع سياسي يهم وزراء وهيئاتهم السياسية. فالسيدة كاتبة الدولة المكلفة بقطاع الماء، لم تكن فقط وزيرة في إطار توزيع كعكة المناصب الحكومية، ولكنها تنتمي لأحد أطراف التحالف السياسي الحكومي، وبالتالي إذا اتفقت هذه الأطراف على خلق الحكومة وهندستها، فمن الأخلاق أن تتفق كذلك على أي تغيير داخل هذه الحكومة، وهو الأمر الذي لم يحدث، حيث سمعنا رئيس حزب الوزيرة يؤكد أن لا علم له بالموضوع، وأن رئيس الحكومة لم يكلف نفسه حتى عناء تبليغ حليفه بالقرار قبل اقتراحه. يتضح أن الفقيه السيد رئيس الحكومة يتأفف من الشيوعيين. فهل يمكن تصور قيام تحالف بدأ ينقرض منه حزب بشكل تدريجي؟ حزب تحالف بخمسة وزراء فانتقل إلى ثلاثة ثم حقيبتين؟ وربما الآتي أسوأ؟. فيبدو أن هذا الحزب مع السيد رئيس الحكومة يتجه نحو نوع من الانقراض الحكومي. أما قصة الموضوع الثاني، فتهم حزبا سياسيا آخرا، هو نفسه جزء من هذا التحالف الحكومي، خرج منه وزير ودخل آخر، وصرح زعيمه بأنه هو من اختار واقترح الوزير الجديد على رئيس الحكومة، وهذا الأخير أكد أنه توصل بالاسم من رئيس الحزب المعني وهو من أحال اسمه على جلالة الملك قصد تعيينه. تضمحل السياسة حينما نقنع الناس بحسن احترام المساطر لإخفاء الحقيقة. غير أن الغريب في الأمر، هو أن هذا الحزب “الكبير” الذي قضى حوالي أربعين سنة في الحكومة، وفي الساحة السياسية، ويدعي قادته أن بالحزب مناضلين من كبار رجال الأعمال والأطر العليا، لم يستطيعوا أن يصنعوا وزيرا طول هذه المدة التي قضوها في الحكومات المتعاقبة، وفي الميدان السياسي، ليستعيروا وزيرا من الأبناك، وأخرا من التأمينات، وقبله من الداخلية وهلم جرا، حزب عاجز عن إنتاج الأطر والنخب والكفاءات، يدبر شؤون البلاد لأربعين سنة، لا يستطيع إنتاج وزراء، يستهلك التقنوقراط، أو يقوم بصباغة بعض الوافدين الجدد بلون الحزب الداكن، في الحقيقة تحول هذا الحزب إلى محمية للتقنوقراط، أو قل للمنتظرين ولا يهمه ما دون ذلك، يعلن هذا الحزب حربه على الحزب الأول في السياسة، ويعانقه في الحكومة، على عكس حزب الشيوعيين، فهؤلاء يعانقهم الحزب الأول في السياسة، لكنه يطاردهم في الحكومة. أما نحن في المعارضة، فعلينا أن نعارض، لكن، نعارض من؟ ونعارض كيف؟ شخص قدم من البنك مباشرة إلى الوزارة، من مهام المحاسبة النقدية والمالية إلى إدارة الشأن السياسي وتدبير السياسات العمومية، وزير جديد لا نعلم هل له تصور اقتصادي جديد؟ أم له تصور سياسي مختلف على الأقل لإدارة قطاعه؟ أم فقط سيكتفي بتكرار تجربة سابقة في الحزب؟ رغم أننا متيقنون أن حزبا لا ينتج وزراء، لا يمكنه أن ينتج تصورات اقتصادية. والعجيب في الأمر هو أنه في ظل هذه التشرذمات السياسية علينا أن نحدد المسؤوليات، وعلينا أن نربطها بالمحاسبة، فمن المسؤول؟ ومن مسؤول عن من؟ ومن سنحاسب؟ أنعارض حكومة تتحلل يوميا؟ من نراه وزيرا اليوم لا يأتي غدا؟ وعندما يعود يتمطط أكثر من السابق ولا يقدم أفكارا؟. في الحقيقة هذه الحكومة ذكرتني بأيام “المسيد”، حينا كنا نتلو ونحفظ القرآن بأعلى أصواتنا، بينما الفقيه نائم، من أراد أن يتسلل خارجا فله ذلك، ومن وصل متأخرا وأراد الولوج إلى “المسيد” فله ذلك، فلا حسيب ولا رقيب مادام الفقيه نائما، يبدو أن نفس الصورة تتكرر اليوم مع الفقيه الذي يترأس الحكومة، حيث يتضح أنه يديرها بطريقة إدارة “المسيد”، ألم يقلها ابن خلدون منذ عقود “إذا دخل الفقيه السياسة، أفسدته وأفسدها”.