سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    زياش: عندما لا يتعلق الأمر بالأطفال يفرون    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    وسيط المملكة يعلن عن نجاح تسوية طلبة الطب ويدعو لمواصلة الحوار الهادئ    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حينما كتب المسيري: الحجاب تعبير عن مقاومة الاستعمار الأجنبي

لابد أن أبدأ هذا المقال بتأكيد أهمية الحوار بين أبناء الوطن الواحد وإلا سقطنا كلنا فى صراع يستنزف قوانا. ومن هنا الإصرار على التغيير والإصلاح الدستورى وإطلاق حرية تأسيس الأحزاب وإلغاء الأحكام العرفية حتى يمكن لكل ألوان الطيف السياسى أن تعبر عن الإرادة الشعبية دون خوف من البطش الأمنى ومن خلال حوار ديموقراطى سلمى. ولكن هذه الحرية، شأنها شأن أى شكل آخر من أشكال الحرية، ليست مطلقة، إذ أن أى تيار أو تنظيم سياسى يريد أن يشارك فى العملية السياسية الديموقراطية عليه أن يلتزم بقواعدا اللعبة، وبتداول السلطة، ولا يحاول أن يجلس على العرش مدى الحياة وكأنه امبراطور الصين العظيم. ولذا من الضرورى أن تُسن القوانين وتوضع الضوابط والآليات التى تضمن التزام الجميع بهذه القواعد.
كما أود أن أؤكد احترامى للسيد الوزير فاروق حسنى، فأنا معجب به عن بعد، فلم ألتق به سوى بضعة لقاءات قليلة قصيرة عابرة فى مناسبات رسمية. فأنا أعرف الجهود التى تبذلها وزارته فى عملية ترميم الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية وبناء المتاحف وحماية الآثار الفرعونية من السرقة.
بعد كل هذه المقدمات أحب أن أتوجه إلى تصريحات السيد الوزير بخصوص الحجاب، وأنا مثله، ومثل الكثيرين من أبناء جيلى، لا أعرف الكثير عن الرأى الفقهى فى مسالة الحجاب. وحين أقول "الرأى الفقهى"، فأنا لا أتحدث عن "احتكار السلطة والتشريع" كما قد يظن البعض. فأنا كمتخصص فى النقد الأدبى، أدرك تماماً ضرورة أن يكون الناقد على إلمام بقواعد النقد ولغته وتراثه ونظرياته وآلياته حتى يكون مؤهلاً لأن يقدم رؤية مركبة مستندة إلى قراءة متفحصة للنص الذى يدرسه، وإلا كان نقده عبارة عن انطباعات متناثرة ذاتية. وأزعم أننى متابع جيد للحركة الفنية التشكيلية، ومعجب بأعمال كثير من الفنانين، ولكننى حينما يسألنى أحد الصحفيين عن رأيى فى هذا الفنان أو ذاك، فإنى أنبهه أننى لست متخصصاً، وأن ما أقوله هو رأى انطباعى لأننى غير مؤهل لإصدار حكم نقدى مركب. بعد كل هذه التحفظات أدلى برأيى باعتبارى أحد المهتمين الهواة وحسب. وهذه ليست دعوة لاحتكار السلطة النقدية وإنما توضيح لحدود أحكامى التى أصدرها فى هذا المجال.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للنقد الأدبى والنقد الفنى، فلابد وأن نطبق نفس القواعد على أمر فى أهمية الشئون الدينية، أليس كذلك؟! لكل هذا سألت أحد أصدقائى عن الرأى الفقهى فى قضية الحجاب، وصديقى هذا ليس من رجال الدين ولكنه يعرف هذه الأمور أكثر منى فقال: "الحديث النبوي الأكثر شيوعاً حول شكل الحجاب وحدوده هو حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) للسيدة أسماء بنت أبي أبكر الصديق رضي الله عنهما، وهو بالمعنى: إذا بلغت المرأة المحيض، فلا ينبغي أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار عليه الصلاة والسلام إلى الوجه والكفين. هذه الرواية أو الحديث فيه ضعف من حيث أنه "منقطع"، أي أن الصحابي الذي روى عن السيدة أسماء مجهول.
ثم استطرد صديقى قائلاً: "بيد أن التوصيف العام لما ينبغي أن يُستر من المرأة – في رواية أسماء- متفق بشكل عام مع التوجيهات والأوامر القرآنية حول الموضوع. ومنها الآية التالية: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ... ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون" (سورة النور: 31). والجيوب هي الفتحات، فتحات العنق والصدر، والإبطين، والساقين. والخمر جمع خمار هي أغطية الرأس والصدر.
ومن الآيات الأخرى آية "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ..." (الأحزاب: 33)، وآية "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما" (الأحزاب: 59). والجلابيب، كما نعرف، هي القمصان الطويلة المسدلة إلى القدمين.
وقد استنتج صديقى من كل هذا ما يلى: "هذه الآيات مجتمعة تحدد الإطار العام للستر المنافي لتبرج الجاهلية والمانع للإثارة والاستفزاز الذي يختزل إنسانية المرأة وعقلها وشخصيتها ويلغي دورها الاجتماعي والإنساني إلى مجرد مصدر للاستفزاز الغرائزي". ويجب أن أشير إلى أن هناك من المدافعين عن الحجاب من يرى أنه بالفعل فرض ولكنه جزء من كل، وأنه فى إطار فقه الأولويات لا يعد أولوية كبرى، فهناك أولويات إسلامية أخرى مثل إقامة العدل فى الأرض والحرب ضد الفساد ومقاومة المستعمر..إلخ. وكما قال فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين: "الجميع يعلم أن الحجاب فريضة إسلامية، ومع هذا فالقضية أخذت أكثر مما تستحق. فمصر تعانى من مشاكل وأزمات أكبر وأخطر ألف مرة من الحجاب مثل الاستبداد والفقر والبطالة والفساد والتدهور الخطير فى التعليم والصحة."
وحيث أن الوزير فاروق حسنى ليس من المتفقهين فى أمور الدين مثلى، فأنا أصدقه تماماً حين قال إنه لم يكن يصدر حكماً دينياً. إذن، كيف يمكن تصنيف تصريحه أو دردشته (على حد قوله)؟ أعتقد أننى لن أجانب الصواب كثيراً حين أقول إنه كان يصدر حكماً ثقافياً حضارياً، فالتخلف مقولة اجتماعية حضارية، والجاهلية والردة تماماً مثل النهضة والاستنارة هى مصطلحات ذات مضمون ثقافى وحضارى غير دينى فى الخطاب التحليلى المصرى المعاصر. ولذا فلنتناول الموضوع من هذا المنظور!
إن من يصفون الحجاب بأنه مظهر من مظاهر التخلف يزنون كلماتهم، ووزير الثقافة واحد منهم. وحيث أنه يحاول أن يدفع هذا البلد فى طريق التقدم، فإنه بلا شك يعرف مؤشرات التقدم، ومن ثم يعرف أيضاً مؤشرات التخلف، وقد جعل الحجاب إحداها!
ولنحاول أن نحلل خطاب السيد الوزير وكل من يحذو حذوه. إنهم يتحدثون عن حرية التعبير والإبداع، باعتبارهما مطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهذه صيحة يطلقونها فى وجه كل من يتجرأ ويحتج على رأى ما. قد لا يعرف الكثيرون أن إحدى اهتماماتى هو تطور الأزياء، وبالذات أزياء النساء، إذ أحاول رصد تطورها كتعبير عن تطور الرؤية للإنسان فى الغرب. وقد لاحظت أن ملابس النساء تزداد فى الغرب انكماشاً يوماً بعد يوم من المينى سكيرت إلى المايكرو إلى البلوزة التى تكشف البطن demi-ventre إلى أن وصلنا إلى ما سماه أحد الصحفيين the well-undressed woman (أى المرأة قليلة الهندام، فى مقابل المرأة حسنة الهندام (the well-dressed woman. (ولعل أحسن ترجمة لهذه العبارة، هو عبارة عادل إمام الشهيرة "لابسة من غير هدوم"). وحين أخبرت أحد مصممى الأزياء عن اعتراضى على الأزياء التى لا علاقة لها بأى دين أو ثقافة أو ذوق، قال إن هذه أعمال فنية، وأن اعتراضى هذا يعد شكلاً من أشكال الرقابة على حرية الفكر والإبداع، هذا المطلق العلمانى الجديد. وهنا سألته: أليس من حق المجتمع أن يدافع عن نفسه ضد أى اتجاهات تفكيكية عدمية؟ وقد صُدم صاحبنا من هذا الطرح الذى لم يطرأ له على بال، لأنه لا يدرك (شأنه شأن المثقفين الذين يدافعون عن الحرية المطلقة للإبداع) أنها رؤية بورجوازية تجعل من الفرد مرجعية ذاته (تماماً مثل رأس المال الذى يتحرك فى السوق بكامل حريته لا يخضع إلا لقوانين مادية آلية غير إنسانية غير اجتماعية هى قوانين العرض والطلب والربح والخسارة). ولكن المجتمع ليس هو السوق، فالمجتمع كيان مركب متماسك يتسم بقدر من الوعى، وله أسبقيته على الفرد مهما بلغت درجة إبداع هذا الفرد، فالفرد ينتمى إلى المجتمع وليس المجتمع هو الذى ينتمى إلى الفرد، إلا إذا كان مجتمعاً شمولياً. إن بعض المثقفين الثوريين انساقوا وراء هذه الدعوة للحرية المطلقة للإبداع والمبدعين، دون أن يدركوا تضميناتها الفلسفية المعادية للإنسان وللمجتمع. عندئذ لزم مصصم الأزياء الصمت، خاصة وأنه كان يعرف أن خمسة من كبار مصممى الأزياء ماتوا منذ عدة أعوام، من مرض الإيدز، وكانوا جميعهم من الشذاذ جنسياً، فسارعت مصانع الأزياء بالتعمية على الخبر حتى لا تتأثر أرباحهم سلباً، أى أنهم أدركوا البعد غير الاجتماعى غير الأخلاقى غير الإنسانى لإبداع مصممى الأزياء، باعتباره إبداعاً لا ينتمى إلى المجتمع.
وهؤلاء الذين يدافعون عن حرية التعبير والذين جعلوا الفن مطلقاً، سحبوا الإطلاق من الدين وأى قيم مطلقة (أخلاقية كانت أم إنسانية) وجعلوا من الدين شأناً خاصاً، وأمر من أمور الضمير، وتصوروا أن الدين يوجد فى قسم خاص فى وجدان الإنسان منفصل تماماً عن عالم السياسة وعالم الاقتصاد وعالم الاجتماع الإنسانى، (وكأن الضمير الفردى لا علاقة له برقعة الحياة العامة). ولذا حين يتم تناول ظاهرة ما فهى إما أن تكون ظاهرة دينية أو غير دينية، انطلاقاً من تعريف العلمانية أنها فصل الدين عن الدولة (أى الدنيا ومجمل حياة الإنسان). ولكن هذا رؤية سوقية للعالم وللنفس البشرية، فالإنسان كائن مركب، وكذا الفعل الإنسانى. فالدينى يتداخل مع السياسى والاقتصادى والنفسى. وهنا يمكن أن نطرح السؤال التالى: الفدائى الفلسطينى الذى يذهب ليهاجم مستوطنة فلسطينية: هل يفعل ذلك لأسباب دينية أم أسباب اقتصادية أم أسباب اجتماعية أم نفسية؟ الرد السليم على هذا السؤال أن دوافعه مركبة، فهو حين يقوم بفعله الفدائى فإن ما يحركه هو كل هذه الدوافع مجتمعة. ويرى هؤلاء الذين يفصلون الدين عن بقية مجالات الحياة أنه لو ظهر فى الحياة العامة فإن هذا مظهر من مظاهر التخلف، وفى ذهنهم بطبيعة الحال المشروع العلمانى الغربى وما يسمى مشروع النهضة العربى الذى جعل شعاره اللحاق بأوروبا، بحلوها ومرها، وخيرها وشرها، وكأننا ببغاءات عقلها فى أذنيها. ومن هنا كان الاقتراح المشئوم الخاص بالاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للحملة الفرنسية على مصر وغزو قوات الثورة الفرنسية لمصر المحروسة، باعتبار أن هذا هو بداية التقدم نحو الغرب والاستنارة على طريقة الغرب. لم يدرك هؤلاء أن الحملة الفرنسية على مصر هى بداية الاستعمار الغربى لبلادنا الذى يحاول تحطيم تراثنا وتحويلنا إلى مادة استعمالية يوظفها لصالحه. لقد تناسوا المقاومة النبيلة التى أبداها الشعب المصرى لهذا الاستعمار وتناسوا ثورة القاهرة الأولى والثانية التى اندلعت من الأزهر، كما تناسوا الأزهرى سليمان الحلبى الذى اغتال كليبر قائد الحملة، وعلماء الأزهر الذين رفضوا التعاون مع الاستعمار. لقد أخرجوا الحملة الفرنسية من سياقها التاريخى والاجتماعى المصرى والفرنسى، وحين يفعل أى باحث أو مفكر ذلك يصبح بوسعه فرض أى معنى يشاء على الظاهرة التى يدرسها، ولذا حولوا الحملة الفرنسة إلى مؤشر على التقدم وحولوا المقاومة (بالتالى) إلى مظهر من مظاهر التخلف. (وهذا لا يختلف كثيراً عما يفعله الغرب الآن مع المقاومة حين يسمى المقاومة الفلسطينية "إرهاباً"، ويصنف حزب الله وحماس والجهاد على أنها "منظمات إرهابية"، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
وأعتقد أن أصحاب هذا الخطاب قد فعلوا شيئاً من هذا القبيل، حين جعلوا من الحجاب رمزاً للتخلف. فقد نزعوه من سياقه الاجتماعى والتاريخى والإنسانى، واستقوا مؤشرات التقدم والتخلف من النموذج الغربى. وهنا يمكننى ان اسأل هؤلاء: ماهى مؤشرات التقدم بالنسبة لهم؟ السؤال هنا خطابى، فالمؤشرات هنا واضحة وهو أن خلع الحجاب علامة على التقدم والاستنارة، أما ارتداء الحجاب فهو علامة على التخلف والردة والظلمة..إلخ. ولكن هل المسالة بهذه البساطة والسذاجة؟ فلنأخذ على سبيل المثال لا الحصر فتاة متبرجة متحررة ومستنيرة لا ترتدى الحجاب، ترتاد نادى الجزيرة أو أى نادى آخر، وتلعب التنيس بالشورت، وتلبس المايوه، وترتاد قاعات الديسكو، وتجيد التحدث بلغة أعجمية أو لغة عربية معظم مفرادتها إنجليش أو فرنش، تماماً مثل مذيعات قناة LBC (التى يطلق عليها بعض المصريين قناة "إلبسى" إشارة إلى المذيعات الجميلات اللبنانيات والتى تحاول بعض مذيعاتنا اللحاق بهن وبركب التقدم). مثل هذه الفتاة التى تتمتع بمستويات استهلاكية عالية ولا تعرف شيئاً عن مصر الحقيقية، مصر الفقراء والكادحين والمتعبين، ولا تشترك بطبيعة الحال فى أى حركة سياسية، هى أكثر تقدماً من فتاة محجبة تعيش فى مصر الحقيقية بين أهلها وتعرف همومهم، ولا تتمتع بمعدلات الاستهلاك الشيطانية التى أمسكت بتلابيب المجتمع المصرى والتى ستقضى على كل محاولات التنمية؟ وغالبية المحجبات يشاركن فى العمل العام، السياسى والمدنى. ألم يلاحظ المتحدثون عن الحجاب باعتباره علامة التخلف الوجود الملحوظ للمحجبات فى المظاهرات؟ ألم يشاهدوا الصورة التاريخية لبعض المحجبات وهن يصعدن على السلم الخشبى للوصول إلى لجنة الانتخابات وصندوق الاقتراع، بعد أن تصدى لهن رجال الأمن الحكومى؟ ألم يسمعوا عن تلك المحجبات اللائى اضطررن لخلع الحجاب حتى يمكنهن الوصول لصندوق الاقتراع؟ حينما أذهب إلى دمنهور (المدينة التى نشأت فيها) أرى المجتمع المدنى هناك فى غاية الحيوية والنشاط، وكثير من القائمين على بعض جمعياته (غير الرسمية وغير المعلنة) فتيات محجبات. أعرف إحدى هذه الجمعيات وتخصصها هو توفير أجهزة غسيل الكلى لمرض الفشل الكلوى. وتقوم تلك الفتيات المحجبات بجمع الأموال من القادرين، بل ومن بعض الأقارب المقيمين فى الولايات المتحدة لتمويل مشروعهم الخيرى. بالله عليكم، من هو أكثر تقدما، فتاة نادى الجزيرة المتحررة وأمثالها أم هؤلاء المحجبات؟
يجب أن يُنظر إلى الحجاب فى سياق اجتماعى وتاريخى، وإذا كان الدينى يختلط بالسياسى بالاقتصادى بالاجتماعى بالتاريخى كما أسلفت، فيجب أن ننظر للحجاب بهذه الطريقة. فمن ناحية يرى الكثيرون أنه فرض دينى، ولكن يجب ألا ننسى أنه أصبح أيضاً عرفاً اجتماعياً. ويرى علماء الاجتماع أن كل مجتمع له dress code شفرة أو لغة الملابس الخاصة به، وهى لغة، شأن أى لغة، أمر اجتماعى، فالمجتمع هو الذى يحددها وليس الأفراد. وينضوى تحت هذا ما يُكشف وما لا يُكشف من جسد الرجل أو جسد المرأة، وما يُلبس وما لا يُلبس فى كل مناسبة. هل كانت إحدى الفتيات تتجرأ على لبس بلوزة تكشف عن بطنها منذ عامين فى الشرق أو الغرب، والآن هل يجرؤ أحد أن يعترض على هذا الزى؟! ولذا فإن شكوى البعض من أنهن يضطررن إلى ارتداء الحجاب بسبب الضغوط "الدينية" عليهن، قد يكن على حق، وإن كن عليهن أن يدركن أن هذه الضغوط قد تكون دينية فى الأصل، ولكنها تحولت إلى عرف اجتماعى ومن ثم أصبحت الضغوط اجتماعية. هل تجرؤ سيدة أن تذهب إلى مأتم مرتدية فستاناً أحمراً بهيجاً، أو أن تذهب إلى عرس ترتدى فستاناً أسوداً حزيناً؟
والحجاب إلى جانب كل هذا تعبير عن التمسك بالهوية (أعرف بعض الصديقات العلمانيات اللائى تحجبن تمسكا بالهوية، وهو ما حدث أيضاً فى إيران أثناء الثورة الإسلامية ضد شاه إيران)، وهو كذلك تعبير عن مقاومة الاستعمار الأجنبى. وهناك كذلك الجانب الاقتصادى، فالحجاب دون شك تعبير عن رفض النموذج الاستهلاكى (نموذج الموضات وضرورة تبنى الجديد ونبذ القديم، بناء على أوامر القرد الأعظم فى باريس أو لندن أو إيطاليا). حينما عدنا أنا وزوجتى من الولايات المتحدة عام 1979، كان الانفتاح قد اكتسح مصر المحروسة، وكان راتبنا الشهرى لا يتجاوز 180 جنيه مصرى. وحين ذهبت زوجتى لشراء حقيبة وحذاء، وجدت أن مجموع ثمنهما هو 150 جنيه بالتمام والكمال (هذا أيام الرخص)، فعادت وقالت إن الفتيات فى مصر أمامهمن حل واحد من حَلَين لا ثالث لهما لمواجهة هذا التضخم: إما الحل التايلانى (أى أن يبعن أنفسهن كما حدث فىتايلاند) أو الحل الإسلامى، أى ارتداء الحجاب، وتنبأت بأن الأرجح هو انتشار الحجاب. وهى بذلك اكتشفت البعد الاقتصادى فى ظاهرة الحجاب، ولكنها لم تردها إليه، فهو بعد واحد ضمن أبعاد أخرى، لأنه لو كان البعد الاقتصادى هو البعد الوحيد الحاكم، فإن الحل التايلاندى أضمن وعائده أسرع. ولكنهن اخترن الحل الإسلامى لأن الاسلام هو الإطار المرجعى لجماهير هذا المجتمع (هو عقيدة بالنسبة للمسلمين وحضارة بالنسبة للمسلمين وغير المسلمين) وهو الذى حماها من الاختراق الاستعمارى والاستهلاكى.
إن اختزال الحجاب فى البعد الدينى، ثم عزل البعد الدينى عن الابعاد الاجتماعية والانسانية الأخرى، فيه دليل على القصور التحليلى لمن حولوه إلى مؤشر على التخلف. حينما كنت صبيا فى دمنهور، ذهبت فى رحلة مدرسية إلى القاهرة، وبهرت بلافتات النيون، فقررت أن أجعل من عدد لافتات النيون مؤشرا على التقدم. وكنت أقوم بإحصائها فى دمنهور كل شهر، لأننى تصورت أنه كلما ازداد عدد لافتات النيون فيها، كلما ازدادت تقدماً واقتراباً من نموذج القاهرة المضيئة، (أى أوروبا). ولكننى نضجت واكتشفت اختزالية مؤشرى الصبيانى المضحك. جاء فى العهد الجديد (رسالة بولص الأولى للكورنثيين) ما معناه "حينما كنت طفلا، كنت أتحدث كالأطفال وأفكر كالأطفال، ولكننى بعد أن أصبحت رجلاً، تركت خلف ظهرى الأشياء الطفولية". فلماذا بالله يا إخوتى لا ننضج وننفض عن أنفسنا المؤشرات الاختزالية، وننظر لواقعنا بعيون لا تغشيها غشاوات أجنبية تعمينا عن رؤية الحقيقة الثرية المركبة بكل أبعادها المادية وغير المادية المتداخلة.
والله أعلم.
الراحل عبد الوهاب المسيري.. واحد من أكبر مفكري وعلماء الاجتماع بالعالم العربي والإسلامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.