الحمد لله وبعد .. يقول الحق سبحانه وتعالى: " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" ( العنكبوت: 1-2). إن إيمان المرء لا يكتمل في فؤاده حتى يحوله إلى سلوك عملي في حياته، هذا السلوك الذي يخط من خلاله استجابته لنداءات الفتن التي تعترض طريقه وهو سائر لتحقيق هدفه، فطريقة استجابة الإنسان للفتن هي المعيار الذي يستطيع الإنسان من خلاله تقييم مدى إيمانه، ولا نقصد بالإيمان هنا الإيمان بالله فقط، بل أقصد كذلك الإيمان بالمبادئ والقيم والأخلاق، وجزما لا يمكن أن يكون هذا الإيمان حقيقيا صادقا إلا إذا خرج من دائرة الاعتقاد ليزاوج بينها وبين دائرة القول والفعل، وقد عرف أهل العقائد الإيمان فقالوا :" الإيمان هو التصديق بالجنان والقول باللسان والعمل بالجوانح والأركان". إن من أعظم المبادئ التي ينبغي أن يؤمن بها الناس عامة والمسلمون خاصة، مبدأ السلم الذي يكون كلما كان العلم، ونبذ العنف والإرهاب اللذان يكونان كلما كان الجهل مثلما نظر لذلك مفكر السلم خالص جلبي، إذ هو مبدأ أصيل متأصل في دينهم وعقيدتهم وسلوك نبيهم الذي بعث رحمة للعالمين مصداقا لقوله تعالى: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ومن العجيب في دين الإسلام أن جعل الله الآية المتكررة في القرآن الكريم كله ( ماعدا سورة التوبة ) هي قوله سبحانه: " بسم الله الرحمان الرحيم "، حتى تكون بوصلة كل مسلم في التعاطي مع الأحداث والوقائع التي تعترضه في مساره وحياته، وقد ذهب الأستاذ أحمد خير العمري في كتابه كيمياء الصلاة وبالضبط في الجزء الذي خصصه لسورة الفاتحة ليقر قاعدة مهمة مفادها أن كل فعل ارتكب في الدنيا لا يراعي مبدأ الرحمة هو بعيد كل البعد أن يكون باسم الله سبحانه. وإن من أعظم الرحمات التي يمكن أن يقدمها الناس للناس هي ضمان أمنهم وسلمهم واطمئنانهم على أرواحهم وأرزاقهم، ففي حالة السلم والاطمئنان مع وجود التحدي( كما يرى جون آرلوند توينبي) تتفجر مواهب الناس وإبداعاتهم وتتولد أفكارهم من منطلق الحوار والتفاعل الإيجابي، فالسلم هو ضمان انتشار الأفكار البناءة التي تسهم في رقي كل مساحة جغرافية ساد فيها، ولذلك أمر الله عز وجل المسلمين بالجنوح للسلم حيث قال سبحانه: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، كما قال أيضا " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا " كما أمرهم أن يكونوا سلاما للناس فقال: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " وقال أيضا " فاصفح عنهم وقل سلاما "، كما أعلى النبي صلى الله عليه وسلم من شأن الرفق فقال: " ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع عن شيء إلا شانه ". فإذا كان الإسلام بهذا التقرير الرباني والنبوي بل حتى العقلي هو دين الرحمة والسلم والرفق، فهو بالضرورة دين يجانب القتل والعنف والإرهاب والتطرف، هذه الأفكار التي لم تكن وليدة المتن المؤسس للإسلام بقدر ما هي وليدة لحظات تاريخية عاشت فيها الأمة أزمات سياسية، وبقدر ما هي وليدة رؤية خاطئة للإسلام تقوم على أنه دين غلبة وقهر للمخالف ودين جاء ليحكم الناس ويسود بقوة الحديد والنار، وليس دين الرحمة للعالمين، هته الرؤية الخاطئة لا بد أن تتأسس عليها أفعال وممارسات خاطئة بل كارثية في بعض الأحيان، تنفر الناس من الدين، ليتحول الدين بهذا الفهم وهذا الفعل، إلى دين ضد الدين على حد تعبير علي شريعتي. إن العودة للقرآن الكريم وفهمه فهما جيدا، هي السبيل الأمثل لعودة الأمة إلى هذه القواعد والأصول التي بيناها، وهي السبيل الأمثل كذلك لمعرفة كيف أن الإسلام حارب ظاهرة العنف مدافعا عن الحياة وعن الإنسان. وسأحاول من خلال هذا المقال أن أفكك البنية الفكرية المؤطرة لظاهرة العنف، قبل أن أعرض محفزات لنبذ العنف فكريا وسلوكيا. البنية الفكرية المؤطرة للعنف: في تقديرنا أنه من الضروري لحل إشكالية العنف، أن ننطلق في تحليله ابتداء من البنية العقلية والبنية النفسية للإنسان، باعتبار أن أزمة العنف تنطلق من العقل ثم تتحول إلى ممارسة قولية قبل أن تتحول في مظهرها النهائي إلى ممارسة فعلية سلوكية، فباعتبار هذا المدخل الفكري النفسي سنجد أن للعنف أربعة مدخلات أساسية تؤدي إلى نهج سلوك سنسميه " الإجرام". 1- العنف شهوة: إن أول مدخل من مداخل العنف هو الشهوة (الغريزة، ويمكن أن نسميها أيضا عقدة)، شهوة السطوة والانتصار والتغلب، هته الشهوة التي أمرنا بكبحها والتغلب عليها ومجاهدة النفس من أجل الارتقاء إلى درجة الإنسانية، فالوقوع في شهوة العنف وغيرها من الشهوات التي نتشارك فيها مع الحيوان، هو انحطاط وسقوط إلى درجة الحيوانية، عوض الارتقاء بالنفس إلى درجة الإنسانية. وقد أبدى الملائكة في بداية خلق الإنسان تخوفهم من هته الشهوة المدمرة للاستخلاف في الأرض، فقد أخبرنا الحق سبحانه وتعالى بقصة بدء خلق الإنسان في القرآن الكريم فقال سبحانه: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون" ( البقرة:30)، فتخوف الملائكة هذا عائد إلى اطلاعهم بتركيبة الإنسان النفسية التي تغلب عليها الشهوة، والتي ستؤدي بهذا الخليفة إلى أن يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وهو قادر على أن يبدع في هذا الجانب انطلاقا من القدرة على التفكير وتطوير قدراته في الإفساد. ( كما أنه قادر أيضا على تطوير قدراته في الإنتاج والاستخلاف الأمثل) 2- العنف فكرة ( عقيدة/ إديولوجيا ): إن الكثيرة من الحركات التي يظهر سلوك العنف في ممارساتها، تنطلق من كون العنف فكرة لديها أو عقيدة إذا لم يتبناها عضو من أعضاء هذه الجماعة نقص إيمانه بالفكرة أو انعدم، حيث أنهم ينطلقون في ممارستهم للعنف من تأصيل فكري مستمد من الكتابات المؤسسة لفكرتهم أو عقيدتهم، مرجعه الأساس هو فكرة الفرقة الناجية أو شعب الله المختار أو الفكرة التي ستحرر العالم من الرجعية…، مثل فكرة الجهاد عند المسلمين، فإن كثيرا من الحركات التي ظهرت في العالم الإسلامي إبان سقوط الخلافة العثمانية، وما تلاها من أحداث وصولا إلى احتلال أفغانستان (2001) والغزو الأمريكي للعراق (2003)، وأحداث الربيع العربي، وما أعقبها من ظهور جماعات إرهابية خاصة في سوريا، أصلت لأفعالها انطلاقا من آيات وأحاديث نبوية شريفة، مجتزئة إياها من سياقها، ومكتفية في فهمها لها بالفهم اللغوي المحض، وكأن التأويل اللغوي كاف لفهم القرآن والسنة بدون الاستعانة بدعامات من خارج النص ( السياق التاريخي، سبب النزول، فعل النبي، الواقع …)، ليتحول العنف عند هذه الحركات إلى فكرة أو عقيدة لا يصح إيمانك بالإسلام إلا إذا آمنت بها، حتى أصبحت فكرة الجهاد التي هي في الأصل مشروع لتحرير البشرية من العبودية، فكرة تستغل لتدمير البشرية واستعباد الناس قهرا. وكذلك الحال مع بعض الأفكار المادية مثل فكرة الماركسية ( الشيوعية)، فقد اعتبر الكثير من الماركسيين الأطروحة التي قدمها نيكيتا خروشتشوف في المؤتمر العام الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في العام 1961 حول ما سمي " الإنتقال السلمي إلى الإشتراكية "، أطروحة تحريفية خائنة ووصف هو نفسه بالتحريفي والخائن، إذ أن الفكرة الماركسة في الأصل منطلقها هو الصراع الطبقي وسبيل تحقيقها هو العنف الثوري، ليكون العنف جزءا من الفكرة بل أساسها، وليتحول من يدعي السلمية من داخل الفكرة الماركسية إلى خائن للفكرة ومحرف لها. ليكون العنف عند هذه الجماعات أو التنظيمات فكرة مقدسة وليس مجرد ممارسة. 3- العنف نهاية الفكرة: إن كثيرا من الأفكار والعقائد عندما تحشر في الزاوية وتصبح غير قادرة على إقناع الناس بصوابيتها، أو عندما تصبح فكرتها منتهية، تلجأ إلى العنف للتعبير عن ذاتها ولتطمئن أنصارها أنها لا زالت تتحكم في زمام الأمور، لكنها في الحقيقة تكون قد وصلت إلى مرحة الفناء والانتهاء، وقد ضرب الله لنا في القرآن الكريم أمثلة لذلك، سنختار منها مثلين يعبران بقوة عن انتهاء الفكرة، أولهما قصة ابني آدم حيث يقول الله عز وجل عنها: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين،لئن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه، قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين" ( المائدة:29-33). فالملاحظ من خلال هذه القصة العميقة جدا والتي تؤسس لنبذ القتل والعنف بنبذ أول من ارتكب هذه الجريمة، أن الشخصية الأولى في القصة -القاتل- انتهت فكرته وانتهت حججه ولم يتقبل قربانه، ليلتجئ إلى الحل الثاني في لحظة غير واعية يمكن أن نسميها لحظت توقف العقل، والدليل على ذلك هو أنه أصبح من النادمين، والدليل الثاني على توقف عقله هو أنه عجز عن التفكير في طريقة ليواري بها سوءة أخيه، ليبدأ القصف الإلهي لهذا القاتل إذ نفا الله عنه صفتا التقوى والخوف من الله، وأثبت له صفات الظلم والخسارة والندم ليكون مصيره النار، و لتكون هته الصفات هي صفات كل قاتل يأتي من بعد ابن آدم هذا، والاشتراك في الصفات يعني بالضرورة الاشتراك في المصير. أما الشخصية الثانية في القصة –المقتول- فلم تنتهي فكرته ولم يتوقف عقله وتقبل قربانه، فآثر الموت حتى تستمر تلك الفكرة فكرة التقوى التي تؤدي إلى الجنة، وليكون كل من يأتي من بعد ابن آدم الأول ويقول " لأن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" قد اشترك معه في الفعل والصفة والاشتراك في الفعل والصفة يعني أيضا الاشتراك في المصير. أما القصة الثانية فهي قصة فرعون مع السحرة والتي سأعرضها بالتفصيل فيما هو قادم من هذا المقال لتداخل الفائدتين. 4- العنف والنظرة إلى الآخر: إن من مداخل العنف المهمة التي ينبغي أن نعيها ونبين مخاطرها، هي كيف ينظر الإنسان إلى أخيه الإنسان تعميما وكيف ينظر أصحاب المشاريع الفكرية والسياسية في أوطاننا للإنسان أو للمخالفين لهم في الرؤى والتوجهات تخصيصا، ففي الغالب ما تكون نظرة الإنسان لمن يخالفه هي نظرة تستعدي الآخر وتجعله في موقف صراع وصدام، أما الإسلام فهو يتبنى موقفا آخر من المخالفين أو من الإنسان بصفة عامة، إذ يجعل من هذا الإنسان مجالا لدعوته فلا قيمة للإسلام بدون الإنسان، ولا قيمة للمسلمين بدون ممارسة الدعوة والتذكير برحمة ورفق للعالمين، إذ أن غاية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وخاصة الدعاة هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإنقاذهم من جهنم والسير بهم نحو رحمة ربهم وجناته، ولنا في سيرة نبينا ما يبين أن النظرة التي يجب أن ننظر بها للناس باعتبارنا مسلمين هي نظرة تحاول إنقاذهم من قبضة الشيطان إلى جنات الرحمان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "كان غلامٌ يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلَمَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار) "رواه البخاري )،وقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: "أليست نفسا"، وهناك زيادة أخرى غير أنها لا تصح عند أهل الحديث وهي " إنها نفس ضاعت مني إلى النار"، وهذه الزيادة وإن كانت لا تصح سندا إلا أنها تصح متنا لأن غاية وهدف من أرسل رحمة للعالمين هي إنقاذ البشرية من النار إلى الجنة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد كل ما مر به في هجرته للطائف من صد عن سبيل الله ومن ضرب ورشق بالحجارة حتى سالت دماءه الزكية من قدميه، إذ وصل بالنبي صلى الله عليه وسلم أن اعتبر أن ما لاقاه في الطائف هو أشد ما لاقاه خلال مسار دعوته الطويل، بعدما أتاه ملك الجبال عارضا عليه أمر إهلاك من آذاه وظلمه: " بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا " (البخاري ومسلم)، فهذه النظرة للآخرين وللمخالفين باعتبارهم مشروعا لدعوتي الدينية أو الفكرية أو السياسية التي أرى فيها خلاص البشرية هي التي تحدد وتلزم أن يتبنى الإنسان وخاصة المسلم، منهجا رفيقا سلميا في التعامل مع الناس عامة والمخالفين خاصة وأن يجعل العنف خارج دائرة حساباته السلوكية اتجاه من خالفه، فالإسلام لم يأتي للقضاء على الكفار بل جاء للقضاء على الكفر، والله سبحانه وتعالى يقول: " وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان " (الحجرات:7)، فهذا التمييز بين الأشخاص الذين يجب أن أدعوهم والفكرة المخالفة التي يجب دحضها هو مهم جدا من أجل تحديد منهج سليم في التعامل مع الناس. 5- العنف إجرام: يرى المتخصصون في علم النفس أن الإجرام هو وليد الكيان الخسيس للنفس البشرية حينما يطغى على الكيان السامي فيها، وقد عزز الباحثون هذا الطرح، ففي عام 1945م وضع "دي توليدو" نظريةُ هي أساس الدراسات النفسية الجنائية وهي نظرية التكوين الإجرامي أو الاستعداد السابق في النفس البشرية والتي انتهى فيها إلى وجود تفاعل نفسي داخلي لدى الإنسان، هذا التفاعل يفسر النزعة الإجرامية لدى بني البشر، وأن الجريمة هي وليدة شذوذ غريزي، فهذا التفاعل بين كل المكونات التي ذكرناها أعلاه وممارسة فعل العنف على أرض الواقع هو الذي نسميه إجراما، وقد عبر القرآن الكريم تعبيرا دقيقا عن فعل الإجرام عندما اعتبر أن ما توعد به فرعون السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام، هو إجرام إذ يقول سبحانه على لسان فرعون والسحرة " قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴿71﴾ قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿72﴾ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿73﴾ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ﴿74﴾ " (طه)، فعلى المستوى الفكري فإن فرعون قد كفر بدعوة موسى إلى توحيد الله، أما على المستوى السلوكي فإن ما توعد به فرعون السحرة إجرام، ولذلك كان الإجرام هو تفاعل الفكر مع السلوك، الفكر المنتهي الذي يحاصر في الزاوية ولا يعود قادرا على الإقناع فيتخذ من الإجرام والعنف أداة من أدوات الإقناع الإكراهي وفرض إرادة طرف غصبا على الأطراف الأخرى. محفزات لنبذ العنف: إذا كنا عرضنا في الفقرات السابقة المداخل الفكرية والنفسية التي نراها سببا في ظاهرة العنف والإجرام، مستعرضين بعض المحفزات لنبذ العنف وإقرار منهج السلم ولو بشكل ضمني غير واضح، فإننا من خلال هذه الفقرة سنحاول أن نبرز بعضا مما أسميناه محفزات لنبد العنف وذلك من خلال أربع محفزات أساسية على شكل عوارض. – نبد العنف هو انتصار على الشهوة وتحرر من عقدة القوة، وهو أيضا انتصار على الكيان الخسيس في الإنسان. – نبذ العنف هو انتصار على التمركز حول الذات و انفتاح على الآخر بشكل سليم، وقدرة على التفاعل الإيجابي مع بني البشر بمختلف أفكارهم وحضاراتهم وهو انتقال من فكرة الفرقة الناجية إلى فكرة الإنسانية الناجية. – نبد العنف وإقرار السلم هو بداية التأسيس لمجتمع العلم والتقدم والاستقرار والخروج من مجتمع العنف والجهل والتخلف والاضطراب. إن أساس تقدم المجتمعات اليوم ورقيها رهين بقدرتها على إقرار منهج الحوار والتفاكر الجماعي في القضايا والإشكالات المطروحة عليها اليوم، وقدرتها على إقرار مبدأ التعايش السلمي والتوافق الخلاق، فعالمنا اليوم هو بحاجة إلى الحوار المنتج للعمران عوض العنف المؤدي لخراب الديار والدمار، فإما الحوار أو خراب الديار كما قال محمد جلال كشك، وإما السلم أو الفناء، وما هذا المقال إلا محاولة من المحاولات الكثيرة التي تنبه الأمة خاصة والبشرية عامة بأن المسار الذي ينبغي أن نخطه اليوم هو مسار يؤسس للحوار والسلم، عوض مسار العنف والإرهاب والتطرف الذي تعاني منه البشرية اليوم، وبقي أن نشير إلى نقطة مهمة حتى لا نقع في الميثالية الزائدة، أن العنف ووسائل العنف وممارسة العنف في أي مجتمع هي سلطة يجب أن تبقى محفوظة للدولة العادلة في إطار تعاقد يربطها مع شعبها من أجل ممارسة العنف المقنن الذي يضمن حالة السلم والاستقرار. وعود على بدء أقول أن إيماننا برحمة الإسلام وسماحته ورفقه وكل قيمه وأخلاقه التي بني عليها، لا يساوي شيئا إلا إذا أخرجنا هذه القيم والأخلاق من دائرة الاعتقاد إلى دائرة الواقع والممارسة، وهذا الإيمان لا يكون سليما إلا إذا استطعنا من خلاله مواجهة ما يعرض علينا في مسارنا النهضوي من فتن بمنهج وسلوك ينسجم مع جوهر ديننا وقيمنا ومبادئنا الذي يعتبر السلم والسلام واحدا منها.