يجتاز المغرب اليوم وسائر الوطن العربي ونحن على أبواب العشرية الثالثة من الألفية الثالثة مرحلة دقيقة في مساره الحديث، فتطور الأوضاع في الوطن العربي والمغرب على وجه الخصوص عقب الربيع العربي، الحراك الذي طرح نفسه منذ البداية كتحدي أمام النخب، يجعلنا نسائل اللحظة التاريخية التي نمر بها وكل التراكمات التي حققناها إلى اليوم، ذلك أن هذا التطور كان منذ لحظة البداية حصيلة تفاعلات أوضاع داخلية ارتبطت كإرهاصات لتحولات الوضع الدولي في الفترة نفسها. إن هذا التطور الذي حصل قد بلغ الآن بلا شك مرحلة الإنفجار الشامل، اقتصاديا وسياسيا وفكريا، ذلك أننا نوجد الآن في المرحلة التي يدل فيها كل شيء دلالة واضحة قاطعة على أن مواصلة السير بنفس المعطيات والعلاقات والرؤى السابقة لم يعد ممكنا. فالأزمة القائمة والراهنة من جملة تلك الأزمات التي تتقلص فيها الاختيارات إلى اختيارين لا ثالث لهما، فإما الغرق في الأزمة وبالتالي دخول مسلسلات الفوضى والتفكك والإندثار، وإما تجاوزها إلى وضعية أسلم وأرحم في أفق التفكيك الواعي والهادف للوضعية القائمة المأزومة، وكذا الشروع في سبيل بناء جديد بمنطلقات وتحيزات واضحة واستشرافات رحبة وفي سبيل الخروج من ضيق الفساد إلى رحابة الإصلاح. وإذا كان هذا التطور يحيلنا ضرورة على الحاجة إلى الإصلاح وسردياته، فالأخير هو الأخر يحيلنا ضرورة على الثقافة، ومنه إذا كان لنا أن نأخذ بمعطيات عالمنا الراهن فإن المعطى الذي يفرض ذاته في سياق الإصلاح هو المسألة الثقافية التي لم تعد في الظل، فسواء شئنا أم أبينا تطفو الأخيرة على السطح لتفرض ذاتها كتحدي حقيقي أمام إرادة الإصلاح، أو على الأقل تزاحم وتضايق على هذا السطح غيرها من المعطيات. وهذه المسألة الثقافية هي الأخرى ارتبطت بداية وبداهة بوضعية وموقع النخب كفاعلة مجتمعية في حدث الإصلاح، بحيث وجدت نفسها -منذ البداية وبغض النظر عن التباس علاقتها مع حدث الإصلاح- مطالبة بتحليله وقراءته، خاصة بعد الحراك الشعبي الذي عرفه الوطن العربي والمغرب بشكل خاص ومختلف، والذي قدم نفسه كتحدي فكري أمام عجز النماذج التحليلية عن تفسيره. ذلك أن الحديث عن سرديات الإصلاح والبناء بعيدا عن نخبة حقيقية تكون فاعلة في صلب النقاش العمومي لا في هامشه، هو عين العبث ومن قبيل صب الماء على الرمل. فالخطاب الإصلاحي وثقافة الإصلاح لا تبلور مثنه ولا تحمل لواءه إلا النخب، فهي المطلوب منها التوجيه والضبط في اتجاه تكوين خطاب تقدمي يصب في مسار الإصلاح السياسي الذي بدأه الوطن منذ لحظة اشتعال فتيل الحراك العربي. ووقوفا على مفارقة الإصلاح الذي بدأ زمن الربيع العربي هي بالذات ترتبط بأزمة تفكيك المقولات السابقة لهذه اللحظة، وبالتالي أزمة التوصيف الثقافي لسؤال الإصلاح الذي تعكسه ضرورة مستوى النخبة من خلال تجسيد خلفية التدافعات التي يصنعها حراك المثقفين تفاعلا مع الإصلاح الذي يكثفه الصراع بين نموذجين من المواقف والمواقع والحجج، ما يطرح علينا العديد من الأسئلة المؤرقة. من بين تلك الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح في خضم هذا النقاش، هو سؤال الموقف الهوياتي وبالتالي أفق استكمال التوافق من أجل استمرار الإصلاح. وحينما نتحدث عن سؤال الثقافة في حدث الإصلاح –كواحد من تجليات السؤال الهوياتي- لا نتحدث عن الأمر من باب الدخول في مطارحات فلسفية تقودنا إلى طرح ما الثقافة، بقدر ما نتوسل من خلال ذلك محاولة الكشف عن تمحلات الازمة الثقافية في حدث الإصلاح، وذلك في سبيل امتلاك وجهة نظر متحيزة أساسا. كما أنه حينما نتحدث عن التحيز فنحن نقصد أساسا دراسة وتحديد عناصر التميز في المواقف الإصلاحية، وبالتالي دراسة المناهج الثقافية في المجال التداولي العربي. ولمعرفة تحيزات الثقافة العربية الكامنة في كل منهج إصلاحي، حيث أنها وإن بدت على أنها محايدة فهي على عكس ذلك، إذ تعبر في الغالب عن مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي تحدد مجال الرؤية وطريقة البحث، كما تقرر بشكل قسري ومسبق تلك النتائج. وفي اعتقادي أن هذا التحيز حتمي، لارتباطه ببنية العقل ابتداء ولأنه لصيق باللغة المرتبطة ضرورة بالوعي الثقافي الذي تجسده الحضارة، وهي مرتبطة بصميم المعطى الإنساني - أي مرتبطة بإنسانية الإنسان- كونه كائن غير طبيعي، بحيث لا يرد إلى قوانين الطبيعة العامة ولا ينصاع لها، فكل ما هو انساني يحوي أساسا قدرا من التفرد والذاتية ومن تم التحيز، كما عالجه عبد الوهاب المسيري في موسوعته "إشكالية التحيز"، ولهذا جانب الهوية حاضر حضورا هاجسيا عند الإنسان سواء باعتباره ذاتا فردية أو باعتبار الذات الجماعية التي ينتمي لها. غير أن هذا التحيز وإن كان حتميا فهو غير نهائي، وهو بالنسبة لي ليس بعيب أو نقيصة، بل هو عين التكمل والتفرد والاختيار الانساني المتميز، ومعنى أنه ليس نهائي هو أنه ليس بنهاية المطاف، حيث يمكن تجاوزه. إذ النهائي أساسا هو الإنسانية المشتركة والقيم الاخلاقية الانسانية، غير أنه لا يمكن التحقق بالأخيرة إلا من خلال المرور بمحطة التحيز حتى لا تكون النهاية مفروضة كأمر واقع وحتى نكون مشاركين فيها، فتصبح تبعا لذلك ملكنا كما هي ملك غيرنا. وهذا التحيز معقول ومرتبط أساسا بنسبية ويراعي خصوصية الثقافات الانسانية ومنطلقاتها النظرية والعقدية، وكذلك يراعي نظرتها للكون والإنسان. وهنا تطرح ضرورة البحث عن البديل الإصلاحي من خلال نموذجنا الحضاري والثقافي النابع من تراثنا الذي هو مجمل تاريخنا الحضاري، والذي لا يعني أساسا استنساخ ما عاشه المتقدمين من أسلافنا كما لا يعني أيضا نسخ ما راكموه. فالتحيز يجعلنا ننطلق دائما من الإنسان ابتداء بمنهج غير مادي توليدي لا تراكمي، وهو لا يعتمد تلك النظرة الضيقة التي تفرض أن ثمة نقطة واحدة تتقدم نحوها كل الظواهر وكل البشر وكأن هناك أمة واحدة ومعرفة واحدة في سياق التفاعل مع ما هو معولم بنموذجه التحليلي المعتمد. وهذا الأمر يفرض ذاته علينا لطبيعة المسألة الثقافية التي تكتسي أهمية خاصة هنا في عالمنا العربي وفي مختلف الجهات والأقطار الأخرى، فما من بلد في عالمنا اليوم إلا ويعاني بصورة ما وبهذه الدرجة أو تلك مظهرا أو عدة مظاهر تدخل في تكوين هذه المسألة أو تشكل إحدى تجلياتها، حتى أصبح من الجائز القول بأن المسألة الثقافية بمعناها الواسع واللامحدود هي اليوم المحرك للتاريخ -التاريخ المعاصر والراهن- وهذا ما يعنيه تحديدا. أما طبيعة الحركة واتجاهها ومسارها ومدى توافقها أو تناقضها مع حركة التاريخ الحقيقية فهذه مسألة أخرى، المهم هو أن تلاحظ أن للمسألة الثقافية في جدورها الاجتماعية والسياسية دورا بارزا أساسي غير ثانوي. ولعل الفكرة التي كانت السائدة إلى عهد قريب والقائمة على تراتبية الأدوار بين الاجتماعي والسياسي والثقافي قد انقلبت، فلم نعد نتحدث عن هذه التراتبية التالية : " اجتماعي؛ سياسي؛ ثقافي". فقد انقلبت الأمور بشكل عكس تمام، وهذا يعني أن العلاقة بين الفعل والانفعال بين هذه المستويات هي على الرغم من تداخلها وجدلية علاقتها يتجه التأثير فيها بصورة إجمالي من العلاقة (إقتصادي/إجتماعي) إلى المستوى الثقافي، فتحدد شكل العلاقات وينبري لنا فيها الوعي السياسي والاجتماعي. وهذا الانقلاب الذي حدث في مجال العلاقة بين هذه المستويات الثلاث -والذي يجسد تراجع الخطاب المعبر عن المسألة الاجتماعية لحساب الحساسية الثقافية- لم يعد ينظر إليه اليوم على أنه حدث عارض يمر سريعا كما تمر الموضة، بل غدى موضوعا ملحا في الأنساق الاجتماعية. وأهميتها بالنسية لي لا تكمن في مظاهر تجلياتها في الانساق الاجتماعية بقدر ما تبرز أهميتها كادراك جمعي يفرض ذاته في ضرورة الإصلاح، فيحدد اتجاهه ومساره ومنهجه، ما يجعلنا تبعا لذلك ننتبه لمسألة غفلنا عنها كثيرا وهي منهج الإصلاح وسلوكه ومنطلقاته والأطروحات الفاعلة في مساره. وبالتالي يفرض الامر ذاته كتجاوز للوقوف عند مسألة ضرورة الإصلاح وكفى، بحيث لم يعد بالإمكان الحديث عن الإصلاح باعتباره اجراءات وأفعال مبتورة من وعاء ثقافتها الحضارية، فقد صار من الضروري الحديث عن امتلاك منهج إصلاحي متحيز لثقافة البيئة المراد اصلاحها، ويراعي مكونات هويتها. وفي هذا الصدد ننطلق نحو مساءلة كل التراكمات التي راكمناها على مدى قرن من الزمن مساءلة ثقافية أساسا، وذلك في محاولة الخروج بتوصيف ثقافي للمعضلة والأزمة التي نعيش فيها، وبالتالي الخروج من المسألة بمطارحات ومصادرات أولية متحيزة للمسألة الثقافية وتكون منطلق فعل الإصلاح الذي نحتاج لا الذي نريد. ومن هذه المنطلقات نسائل السياسة في المغرب والتحديث والمؤسسات والنخب والثقافة السياسية وارتباطاتها الميثولوجية وأطروحات الإصلاح السياسي الموجودة في الساحة، كما نسائل الحاضر والتاريخ وارتباطاتهما الحضارية وتفاعلهما مع الأخر الخارجي، وكذلك نسائل الفكر المعاصر ونسائل الإنسان ونسائل الهوية وارتباطاتها السلوكية ومعطياتها المعرفية. وكل هذا تفعلا مع سؤال الريادة ومطلب السيادة، ذلك أن الحديث عن المقومات الداخلية لا يمكن أن تصح بدون التركيز على المقومات الأساس التي تبلورت في مرحلة التأسيس واستمرت منحفظة في رحم كل المقاربات القومية، ذلك أن فكرة الإصلاح في هذه المرحلة ليست نسقا إيديولوجيا واضح المعالم محدد البرامج بقدر ما أنه نزعة حكمها في أساسها مطلبان كما يقول الأستاذ فيصل البقالي. أحدهما ريادي يطرح سؤال النهضة في واقع متخلف، والأخر سيادي ارتبط بطرح سؤال الإستقلال أو التحرر في مقابل الارتهان والتبعية. كما أنه مرتبط بسبيل التحقق بالفطام الأساسي للانتقال من منطق المبايعة القائم على الانتماء للحظتين زمنيتين كتناقضتين –واحدة أصيلة والأخرى معاصرة- إلى منطق المواطنة القائم على الانتقال إلى الحداثة السياسية المتحيزة لثقافتنا وعمقنا الحضاري أساسا وابتداء، ولكن ليس كما يقاربه عبد الله العروي. إن كل هذا ارتبط بنقاشات النخبة العربية في هذه اللحظة السياسية، فتلك النقاشات تخص أساسا علاقة الماضي العربي البعيد والحاضر الأوروبي القريب، والذي يفرض نفسه حاضرا للعالم أجمع. وهذا عين ما تلخصه حالة الانشطار التي تطبع الواقع العربي الراهن، الفكري منه والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، والتي تجعل منه واقع يتنافس عليه ويصطدم فيه ويتصارعه صنفان من المعطيات، صنف موروث من ماضنا وينتمي يجملته إلى حضارة القرون الوسطى، وصنف وارد ووافد من حاضر غيرنا وينتمي بكليته إلى حاضر العصر الحديث. وإن الذي يضفي الطابع الاشكالي في أزمة الانشطار هذه هو كونها تعكس ليس صراع القديم والجديد فقط بل صراع الذات والغير أي الأنا والأخر، بحيث أن القديم ينتمي إلى الأنا بينما الجديد ينتمي إلى الأخر.