ها قد أهلنا شهر ربيع الأول بهلاله، وفاحت روائح أيامه العطرة بذكرى مولد رسول الهدى والنور محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله. واستعد المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بالاحتفال بمولده الشريف وكل يجتهد لإحياء ذكراه بترديد ما نظمه من شعر ومدح لبيان خصاله ومكارمه وأفضاله. لكن حين يطرح السؤال التالي على المسلمين اليوم: لماذا الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف؟ فإننا حتما لن نجد جوابا واحد على ذلك السؤال ،بل نجد اجابات متعددة منها: - نحتفل بالمولد النبوي لأننا مسلمون، ونحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ - نحتفل بالمولد النبوي لأننا وجدنا آباءنا ومجتمعنا يحتفل به، وإننا على ذلك الأمر سائرون؛ - نحتفل بالمولد النبوي لأحياء ذكرى النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم و تذكير الناس به حتى يتبعونه ويقتفون أثره؛ - الاحتفال بالمولد النبوي هو مناسبة دينية ،اجتماعية ،ثقافية و اقتصادية في المجتمع صارت عرفا ضمن التراث الشعبي لا يمكن الاستغناء عنه. غير أن هناك من يجيب على السؤال السالف الذكر كالتالي: الاحتفال بالمولد النبوي هو بدعة محدثة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولا على عهد الصحابة رضي الله عنهم ولا على عهد التابعين وتابعيهم ،وهم حتما كانوا أشد الناس حبا وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الناس اقتفاء لأثره ،واتباعا لسنته ،واحياء لدينه ،ودفاعا عنه ممن أتوا بعدهم في القرن الثالث الهجري إلى غاية زمننا هذا. فكيف تغيب فكرة و أهمية الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف عن أولئك القوم، من الصحابة والتابعين وتابعيهم رضي الله عن الجميع. مع معرفتنا لمدى حبهم وتعظيهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفها من أتى بعدهم من المسلمين وهم دونهم في محبته وتعظيمه وإجلاله صلى الله عليه وآله وسلم؟ هل في الأمر استدراك من الأجيال المتأخرة عن الجيل الأول من المسلمين؟، أم فيه سوء فهم، أم ماذا؟ ثم يضيف أصحاب الاعتراض على المحتفلين بالمولد النبوي الشريف فيقولون، لا شك انه ثمة أسبابا وراء ابتداع الاحتفال بذكرى بالمولد النبوي الشريف ،ربما نعرف بعضا منها وقد لا نعرف البعض الآخر ،بعيدا عن كل دعوات الحب والتعظيم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم الزائفة. خاصة حين نقارن حال هؤلاء المحتفلين، من حيث مدى تمسكهم بدين الإسلام ،و إقامة شرائعه و مبادئه ،في مختلف مظاهر حياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية بما كان عليه من سبقهم من الرعيل الأول من المسلمين. والحال أننا نجد أن هؤلاء المحتفلين غارقين في العديد من المخالفات الشرعية. إذ أن الكثير منهم لا يحافظ على الصلوات، منتهك للمحرمات. واقع في مظاهر الشرك المختلفة من دعاء الأموات من الصالحين من دون الله، والاستغاثة بهم والاستنجاد بهم في قضاء الحوائج ،ودفع المضار،وجلب المنافع. ثم إن من أبرز مظاهر عدم تعظيمهم الفعلي لقدر النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم تواطؤ الكثير منهم على تعطيل شرعه، وتغيب سنته في التحاكم عند الاختلاف والتنازع في الأمر. وتحكيمهم بدل ذلك القوانين الوضعية، والأهواء المختلفة المحدثة بدعوى أن شريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المستمدة من القرآن والسنة لم تعد صالحة في زماننا الحاضر،لكونها قديمة ولا تجيب على مقتضيات المدنية المعاصرة. ناسبين بذلك، القصور إلى دين من يحتفل هؤلاء بذكرى مولده الشريف ،مع اعتقادهم أن الله قد بعثه رحمة للعالمين ،وأن كتابه وسنته وشرعه صالحين لكل زمان ومكان. أوعلى الأقل، هذا ما يتم تدريسه في المدارس والجامعات وغيرها من المعاهد المتخصصة. كيف يمكن أن نصدق ،يضيف أولئك المعترضون ، أنكم تحبون وتعظمون قدر النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم ترون وتسمعون كل يوم ،وخاصة حكامكم من الملوك والرؤساء ،أن الصحف اليمينية الأوربية المتطرفة تسيء صباح مساء لنبيكم. بنشر الصور المسيئة لشخصه الكريم ،في نفس الوقت الذي أنتم فيه تحيون ذكرى مولده في كل سنة تعظيما منكم لقدره كما تزعمون؟. كيف أن أحدا من حكامكم المبجلين لم ينبس ببنت شفه ،أو يعترض ،أو يلوح حتى بقطع العلاقات الدبلوماسية ،والاقتصادية و التجارية ،ولو في أدنى مستوياتها الممكنة ،مع دول لم تتوقف يوما الكثير من صحفها اليمينية المتطرفة ،بل وتابعتها في ذلك الكثير من الصحف الأوربية الأخرى المختلفة ،بدعوى أنها تناصر حرية الفكر والتعبير في بلدانها " الحرة " و"الديمقراطية" ، بل وقد أصبحت اليوم تقلدها في ذلك حتى صحف وأقلام ضالة ممن يتكلمون لساننا ويدعون أنهم يدينون بديننا ويعيشون في أوطاننا من بني جلدتنا. لم يتوقفوا أولئك جميعا عن الإساءة لنبيكم ورسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم الذي انتم تحيون ذكراه كما تزعمون في هذه الأيام؟ فهل تحسمون أمركم أيها المحتفلون بذكرى المولد النبوي الشريف وتتخلوا عن تناقضكم المستمر هذا ،وتعلنوها صراحة: إما أنكم تحبون نبيكم ،فتتجهون إلى الاحتفال الحقيقي بذكرى المولد الشريف المتمثل في الإتباع القويم للهدي النبوي الكريم في مختلف مجالات حياتكم المعاصرة. فتنصرون دينه وتنشرون سنته ،وتنافحون عن مقام النبي الكريم بمواجهة كل من تسول له نفسه المس بشخصه الشريف أو الاستهزاء بدينه وسنته مهما كان مقامه أو علت رتبته. أو أنكم تستمرون في ذلك التمسح الكاذب برسول الله صلى الله عليه وسلم ،وادعاء محبته الزائف بجعل مناسبة ذكرى مولده الشريف مناسبة للولائم والمهرجانات ،ونظم الأشعار والأمداح التي لا تتجاوز حناجركم حتى يستبدلكم الله بأقوام آخرين يحبهم ويحبونهم. أقوام يوقرون نبيه ، ويعزرونه وينصرونه، كما وقره ، وعزره ،ونصره الذين من قبلكم حتى أظهر الله دينه على غيره من الأديان والملل ،وبدد بنوره ظلمات الجهل والظلم الطغيان.