يضجّ دعاة التطرف الديني ويقوى شغبهم على المجتمع وتعلو صيحاتهم مع كل رأس سنة ميلادية، وكلما ازداد صراخهم تزايد إقبال الناس على الاحتفال برأس السنة الملعونة، الدعاة المتشدّدون لا يفهمون، والتيار المحافظ لا يستوعب ما يجري، كيف لا يخاف الناس من النار ؟ ومن عذاب القبر ؟ ولماذا يصرون على الاحتفال بشراء الحلويات والشيكولاطة لأطفالهم في العلب الملونة ذات الألوان الزاهية المحرّمة ؟ وكيف يقومون بزيارة أقربائهم وأصدقائهم دون أن ينتبهوا إلى أن الدعاة لم يحللوا لهم ذلك ولم يسمحوا به ؟ بل إن بعضهم يقيم الحفلات الموسيقية الراقصة، دون أن يدرك أن ذلك من الفواحش العظمى التي تلقي بصاحبها إلى التهلكة ؟ المرشدات في مساجد وزارة الأوقاف يبذلن قصارى جهودهن لجعل النساء يكرهن الحلوى والشيكولاطة، ويمنعن أفراد عائلاتهن من شرائها، ويصل بعضهن إلى حدّ الهذيان في وصف النار وما سيقع للذين يحتفلون بهذه المناسبة التي ليست من تقاليدنا وعاداتنا الأصيلة، بل إن بعضهن يقعن في أوضاع كاريكاتورية مضحكة عندما يطالبن النساء بشيء غريب وسريالي: "أيتها الأخوات شراء الحلوى في هذه المناسبة حرام لأنها تشبّه بالكفار، ولكن انتظرن فقط مرور يوم واحد ويمكنكن شراء الحلوى الحلال في اليوم الموالي". إنها معركة مجيدة مليئة بالتضحيات من أجل قضية نبيلة: منع الفرح والاحتفال، وعزل المجتمع عن العالم الذي يغرق في المرح والسعادة خلال أعياد الميلاد. هذه محاولة لشرح ما يجري في أذهان الدعاة وما يجري في المجتمع، إذ يتعلق الأمر في الواقع بثقافتين مختلفتين، ثقافة الموت وثقافة الحياة: يقع الدعاة في خطأ وقع فيه من قبلهم رجال الدين المسيحيون، حيث عملوا طوال القرون الوسطى، أي لما يقرب من 15 قرنا، على جعل المجتمعات المسيحية تعيش جنازة يومية، فالبؤس والفقر والجهل وانتشار الظلم والاستبداد السياسي، أوضاع لا تتطابق مع الفرح والاحتفال بل مع المناخ الجنائزي والعبوس، وكان هناك من كان يرى في حركة الجسد أثناء الرقص تحررا قد يؤدي إلى انعتاق شياطين التمرد وبروز الثورات الاجتماعية، وكان هناك من كان يقول إن المسيح لم يضحك أبدا، وأن الضحك فجور ومروق من الدين. كما كان رجال الدين يشعرون بسعادة غامرة عندما يعود إليهم الناس في كل شيء، حتى في الأعياد حيث يجتمع الجمهور للصلاة في الكنائس والاستماع إلى خطب الرهبان ورجال الدين المليئة بالتهديد والوعيد، وأحيانا ما يبكي الناس جماعيا بسبب الخوف من العقاب. ما حدث بعد بروز الدولة الحديثة وانتهاء عهد الحجر والوصاية الدينية على عقول الناس هو أن الفرح والاحتفال لم يعد تحت الرقابة، بل صار أمرا عفويا مرتبطا ببداهة الحياة وخيراتها، وقد التحق رجال الدين أنفسهم بالحفلات حتى لا يبقوا معزولين. في المغرب نعيش وضعية مفارقة، نحن في نصف دولة حديثة ونصف تقليدية، إذ لم يكتمل بعض تطورنا نحو استكمال مقومات الدولة الحديثة بسبب استمرار بعض مظاهر التقليد، سواء في الدولة أو في المجتمع، بل إن حكامنا أصروا على تمديد الفترة الانتقالية هذه فعمل الراحل الحسن الثاني على التمسك بمظاهر التقليد التي كانت زائلة وتأبيدها لكي يظل سلطانا تقليديا وحاكما أوحدا للبلاد، وعيا منه بأنّ مسلسل التحديث لا بد في النهاية أن يجعل الوعي الديمقراطي في المجتمع أكثر انتشارا. وقد ساهم التعليم بشكل كبير في ترسيخ السكيزوفرينيا وازدواجية النظرة، ونتج عن ذلك تجاور أنظمة قيمية متعددة، وتجاور أشكال السلوك والوعي المتناقضة، والتي قد نجدها أحيانا لدى الشخص الواحد نفسه. ويخطئ الدعاة عندما يلجون إلى موضوع رأس السنة الميلادية من باب تحريم "التشبه بالكفار" لأنهم لم ينتبهوا إلى أمرين: أن التشبه المذكور يطال جميع المجالات بدون استثناء، مظاهر اللباس والأكل والقوانين والعمل ونظم العلاقات والفضاء العام ومناهج التفكير والبحث العلمي والمعدات التكنولوجية وهندسة المباني والحدائق والإيقاعات الموسيقية، في كل مناحي الحياة يوجد تشبه ب"الكفار"، لأننا على مدى قرون طويلة عشنا في سبات عميق نجتر فيه فكرا عقيما ومحنطا، وخلال ذلك كان العالم يقفز قفزات عظمى في مدارج الحضارة. ومن جهة أخرى أن الاحتفال برأس السنة الميلادية لم يعد في العالم كله أمرا خاصا بأتباع دين معين أو بشعب بعينه، وذلك بسبب الأسلوب ومظاهر الاحتفال التي ترافقه، والتي تم فيها اختراع الكثير من المباهج والأساطير التي لا علاقة لها بأي دين من الأديان، وإنما هي ابتكار من أجل الفرح والاحتفال، تعولمت بالتدريج وتبنتها الشعوب التي لم تجد فيها أي ضرر بل على العكس رأت فيها مناسبة للفرح والانتماء إلى العالم. السؤال المطروح هو لماذا يمرّ رأس السنة الهجرية دون أن ينتبه إليه الناس في مجتمعنا كما يهتمون بالاحتفال برأس السنة الميلادية أو الأمازيغية ؟ من المعلوم أن الكثير مما يُحتفى به فيما يخص التقويمات إنما هو محض مواضعة واصطلاح بين الناس، أي اتفاق يكتسب سلطته عبر السنين بالتداول، ويبتكر خلاله الناس الكثير من العادات والتقاليد التي يكرسونها لجعل المناسبة فرصة للفرح والاحتفال ، من هنا أنواع الأكلات والحلويات والرقص والموسيقى كما هو الشأن في العيدين المسيحي والأمازيغي، بينما يكتفي المسلمون بالتذكير بهجرة النبي وبالغزوات والحروب التي تلت ذلك، والدعوة إلى التعبد في المساجد، وهو نفس ما كان يقوم به المسيحيون في العصور الوسطى، الاحتفال بعيد ميلاد المسيح في الكنائس. لم يبتكر المسلمون عادات مرحة أو أساليب للفرح والانبساط والإقبال على الحياة، كما فعلت مختلف شعوب العالم على هامش أعياد دينية قديمة أعرق بكثير من الأعياد الحالية، ولهذا لا يلقى رأس السنة الهجرية نفس الاهتمام من الناس رغم الدعاية الرسمية في وسائل الإعلام ورغم دعاية التيار المحافظ، علاوة على أن التقويم الهجري لا يعتمد في الحياة اليومية إلا بشكل ثانوي جدا. المطلوب في اعتقادي من الدعاة والفقهاء عوض الانتقام من المناسبات الشعبية الأخرى، والتهريج بتحريمها، أن يعملوا على ابتكار طرق أخرى دنيوية وإنسانية للاحتفال غير التذكير بالهجرة والغزوات والحروب، غير أن هذا الابتكار بحاجة إلى أمر أساسي لعله ثورة حقيقية في الفكر والوجدان، ألا وهو أنسنة الدين كله وجعله في خدمة الإنسان، وهذا بحاجة إلى تحرير الدين من وصاية "الإكليروس" الوهابي والإخواني.