ليست المؤسسسات والتنظيمات مجرد هياكل إدارية لتجميع الأفراد وضبطهم ، بل هي صورة عن وظائف هذا التجمع و غايات وجوده . فيمكن ان يكون التنظيم إطارا لحشد و توجيه وتجدد الطاقات نحو تحقيق المشاريع المفترضة في أصل نشوء هذا التجمع ، أو هيكلا جامدا يحطم الإرادات و يهمش الطاقات و يستبعد الكفاءات و يستعبد الحريات ، ومن ثم يتحول الى مرتع لنشوء الآفات الحزبية ، و انتشار الإنحرافات النفسية و الاجتماعية ، و أداة للتسلق و الصراع على مواقع التنفذ و الإسترزاق . تتمثل شروط كفاءة التنظيم وكفايته في قدرته على استيعاب التنوع و الاختلاف ، وتوظيف الطاقات و تطوير القدرات ، وتجنب أشكال الإنسداد التي تنتج عدم عدم استجابته السريعة للتحولات التي تحدث بداخله و بوسطه الخارجي . ومن ثم فهو مدعو باستمرار للملائمة بين قدراته و الإمكانات التي تسمح بها ظروف عمله ، على ضوء الغايات الأساسية التي وجد من أجلها . ولهذا كله فالأشكال التنظيمية (القوانين و المؤسسات) هي منتجات اجتماعية يدبر بها الناس و ضعيات العمل الجماعي في ظروف محددة . كما ان الخلاف حولها لا يكون مجرد نقاش نظري قانوني ، وإنما هو خلاف حول رهانات متعارضة ، او مصالح متناقضة . وأول ما يدرس الطالب في كليات الحقوق هو ان القوانين رغم نزوعها أحيانا للتعبير عن مثل اخلاقية ، إلا انها تبقى صورة عن الواقع الإجتماعي وعن وضعية موازين القوى في لحظة إنشائها . وسواء كانت هذه القوانين تهم التنظيمات او الدول ، فهي موضوع صراع مستمر يعكس تطلعات القوى المختلفة ورهاناتها ، ولذلك كانت المطالبات بتعديل الدساتير و القوانين التنظيمية و القوانين الانتخابية و قوانين الحريات العامة في قلب الصراع السياسي مع مراكز السلطة والنخب المحافظة و تجمعات المصالح ، أي في قلب معركة النضال الديمقراطي. يخلط بعض الناس خطئا أو عمدا بين مبدأ الشرعية القانونية و المؤسساتية في التدبير الجماعي ، و بين ما ينتجه الإنسان من اجتهادات شكلية في تنزيل المبدأ . فالاول يمكن اعتباره الأساس النظري و الأخلاقي للتعاقدات الجماعية ، وبديله هو الفوضى واللانظام او العنف ، و الثاني مجرد تفاهمات ظرفية قابلة للتغيير و حكمها هو حكم الوسائل التي يجب ألا تصبح عوائق أمام الغايات . و من ثم ينبغي ان تتطور لتواكب متغيرات الواقع وإكراهاته و حجم التنظيم وطموح أفراده ، وإلا اصبحت بحكم تجاوزها سلاحا في يد المحافظين يديمون بها أوضاعا غير قابلة للإستدامة ، أو اختيارات لم تعد قادرة على كسب مشروعيتها بالإقناع ، فيفرضونها مؤقتا بالشكلية القانونية والمؤسساتية ، ولكنهم يفقدون اهم عناصر قوة في التنظيم الانساني و هي وضوح الفكرة و الإستعداد الطوعي للتضحية من أجلها . تختلف التنظيمات الطائفية التي تعتمد الهوية أساسا للإنتماء إليها عن التنظيمات الوظيفية التي تبحث عن الفاعلية والكفاءة . فالاولى تفضل معيار التشابه بين الأفراد و التمايز عن المجتمع ، وكانها تروم إنشاء مجتمع بديل أو محضن مختلف يحفظ للناس خصوصيتهم و يحمي فرادتهم ، ويجذب الآخرين تباعا للإلتحاق بالطائفة . والثاني يبحث عن طرق الولوج الى المجتمع وإقناعه بمشروع تغيير مشترك على أساس تحقيق مصالح واضحة تنتهي بتعاقد عملي ،أي أنها تريد قيادة المجتمع في مشروع التغيير وليس تغيير المجتمع . و يقتضي ذلك توفر كفاءات و قدرات تنظيمية وتواصلية وتدبيرية و نخبا تمثل الفئات المختلفة في المجتمع وحدا أدنى من التوافق الفكري الذي لا يستدعي الإنتماء الى منظومة ايديولوجية . إختار حزب العدالة والتنمية ، كغيره من الاحزاب الإيديولوجية ، نموذج التنظيم المركزي الهرمي . وهو متطابق الى حد كبير مع التجارب التنظيمية للحركات الدعوية ، التي كانت تستقطب الناس على أساس القرب من نموذج عقائدي وسلوكي محدد و جاهز ، نمطته أدبيات التدين السلفي الذي كانت في وقت ما تصارع التدين التقليدي . ولذاك فهي تنظيمات تقوم على أساس الوحدة الهوياتية و ليس على أساس الكفاءة الوظيفية . وتحول هذا الجسم التنظيمي فجأة الى قاعدة للحزب السياسي دون ان يحدث أي فرز على مستوى الإستعداد او القدرة او التكوين للقيام بالوظائف الجديدة . وإذ لم يكن مطلوبا من عضو الحركة أن يمتلك كفاءات معينة و لا مهارات خاصة ، سوى التطابق مع النموذج المذكور ، فقد أصبح العديد من الأفراد مجرد أرقام في الهيئة الجديدة ، أو امتدادا للحركة داخل الحزب تختلط لديه المواقع و الأدوار. شخصت و ثيقة المؤتمر السابع مساوئ هذا النموذج التنظيمي بالقول " النموذج الهرمي المركزي يؤدي تلقائيا الى إعادة تمركز الإختصاصات و المبادرات في يد الهيئات التنظيمية التنفيذية رغم الصلاحيات المخولة للهيئات المجالية ، وضعف الهيئات الوسيطة الكفيلة بتكملة أداء الهيئات التنفيذية ، وبطء عملية إفراز و تأهيل القيادات الحزبية ، وكل هذا يؤدي الى تمركز شديد للقرار الحزبي ، وضعف في الهيئات الوظيفية و قلة في فضاءات الحوار والتفاكر الداخليين ". يؤدي نموذج التنظيم الهرمي إلى عدم التوازن بين قدرة الحزب على التوسع القاعدي و بين قدرته على تمكين أفراده من التدرج التنظيمي و الترقي في الكفاءة و الأداء بسبب الإنسداد في المسالك التنظيمية ،و تركيز المسؤوليات و تعدد المهام ، و بطئ عمليات الإستيعاب الوظيفي . مما يدفع بكثير من الكفاءات الشابة الى مغادرة الحزب و البحث عن فرص أفضل للفعل الحر و المتخصص ، بدل انتظار لحظات عمل دورية رتيبة مثل الحملات الإنتخابية و مهرجانات التعبئة . ينحصر النقاش و التداول السياسي في مثل هذه الحالة لبعض المؤسسات المركزية التنفيذية خصوصا(الأمانة العامة) . أما المؤسسات التداولية (المجلس الوطني) فلا تستدعى إلا لتضفي المشروعية على القرارات الجاهزة ، وفي محطات متباعدة ، نظرا لطبيعة تكوين أفرادها و اهتماماتهم التي تتراوح بين المهام التنظيمية أو التدبيرية ، وتترك لبقية الهيئات المجالية مهمة التتبع اليومي المغرق في التفاصيل . ولذلك أشارت وثيقة المؤتمر السابع الى ضرورة " تحويل الحزب من خلال مؤسساته الى فضاء حقيقي للنقاش السياسي و إبداع الأفكار و السياسات القادرة على تطوير وتأطير أداء مناضلي الحزب ….". التنظيم صورة عن المشروع و تجسيد له . و حين تنحصر وظائف الحزب في التنافس على المواقع الإنتخابية ، ويصبح الموقع الإنتخابي مدعاة للحظوة التنظيمية و الإجتماعية و عنوانا للنجاح ، يتوقف الافراد تلقائيا عن تطوير قدراتهم في مجالات أخرى و تحقيق ترقيهم بالكسب المعرفي المنتج للأفكار ، او الكسب العملي المنتج للخبرات و المهارات ، مادام ذلك غير مطلوب أصلا ضمن اهتمامات الحزب و لا مخططاته . و يغلب على الإهتمام حينئذ البحث عن مسالك الولوج الى المواقع الإنتخابية و التدبيرية . وبما أن الفرص في هذا المجال محدودة ، فإن ذلك يفتح الباب لكل الآفات الحزبية مثل الكولسة و الإستقطاب الحلقي حول الاشخاص و الصراعات التافهة و المؤامرات . وترتفع أسهم القادرين على اللعب في مثل هذه الأجواء ، والحريصين على تعويض عجزهم وقلة بضاعتهم باصطناع وسائل قوة بديلة مثل تجميع الأتباع و افتعال المعارك والخصومات و الولاء لبعض المسؤولين، والحرص على صناعة صورة وهمية بوسائل مختلفة والترويج لها . وفي مقابل ذلك يحس المخلصون بعدم الرغبة في التورط في هذه الأجواء فينزوون أو يغادرون في صمت . وبذلك يتحول الحزب من جاذب للكفاءات إلى نابذ و طارد لها . دور الحزب السياسي في بلد مثل المغرب ،ليس هو المشاركة في تدبير الشأن العام أساسا ، لان ذلك يفترض وجود فرصة حقيقية لتولي السلطة ، وبناء دستوريا و مؤسساتيا يمكن من تطبيق السياسات ، و حرية في تكوين التحالفات و تشكيل الأحزاب . والحال أن مركز القرار يوجد خارج العملية الإنتخابية ، فان ذلك يقتضي ترتيب العلاقة بين و ظيفتي المشاركة السياسية و النضال من اجل إرساء القواعد الديمقراطية لهذه المشاركة . ما يعني حتما جعل المشاركة السياسية مدخلا للنضال الديمقراطي ، مادامت شروط التفويض السياسي غير مكتملة . وليس افتعال التعارض بين النضال السياسي الذي هو الأصل و اعتباره معيقا للمشاركة السياسية التي لم تتوفر ضماناتها ، و التضحية بالأصل من اجل الفرع (دعوى عدم الصدام مع الدولة لحماية تجربة المشاركة). إن هذه الوظيفة التاريخية للأحزاب السياسية في البلدان التواقة الى التغيير ، تخرج بها من نطاق ونموذج الأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية المنحصر في الممارسة الإنتخابية المباشرة . وتفرض في المقابل القيام بمجموعة من الأدوار التي تسند التغيير السياسي و تعطيه مقومات الصمود ، و تحشد طاقات المجتمع الذي فقد الثقة في السياسة أصلا ليعيد التصالح مع مفردات القوانين و المؤسسات و الصبر على النضال السلمي المتدرج بدل الركون الى الحلول الجاهزة ذات الطبيعة الإنسحابية او التدميرية . ولذلك تمتد مجالات العمل السياسي الى تأسيس الثقافة السياسية ، و تكوين النخب ، و تقوية الروابط الإجتماعية المدنية ، و الحس الجماعي التضامني ، و صياغة البدائل الفكرية و الإقتصادية التي تتجاوز الوصفات التقليدية للمؤسسات الدولية ، و التفكير في المسارات الإستراتيجية المتكاملة لعملية التغيير. وتقتضي مواجهة هذه التحديات الخروج من النموذج التنظيمي الحالي إلى إطار اكثر مرونة و انفتاحا ، يتجاوز الحالة التي يستتبع فيها التنظيم المركزي مؤسساته الوظيفية مثل الدكاكين الملحقة التقليدية (النقابة – الشبيبة – الجمعية النسائية – الجمعية الحقوقية …)، وهو النموذج الذي كرسته التجارب اليسارية، إلى أطر تنظيمية موازية ذات استقلالية مقدرة ووظائف متنوعة ، تستوعب الإهتمامات و المواهب المختلفة ،وتسمح بالترقي الوظيفي المرتبط بتراكم الخبرة و المهارة ، و توفر للحزب الكفاءات اللازمة لتولي مهام التدبير او الاستشارة و التفكير. وللمجتمع قيادات ميدانية مرتبطة بشأنه اليومي و حاضرة في مناشطه المختلفة . وحينئذ سيتجاوز الحزب حالة الإنسداد التنظيمي ، والعجز الفكري ، والعقم في الكفاءة و الإبداع ، و تراكم و تركز المسؤليات . يقاس النجاح السياسي للحزب ليس فقط بحصيلته الإنتخابية التي قد تكون مجرد نتاج ظرفي لعوامل معينة ، بل أساسا بقدرته على تمثيل الشرائح الإجتماعية المختلفة ، واستيعاب الكفاءات و القيادات المجتمعية ، وتكوين النخب التي تمتلك شرعية الإنجاز الميداني . وهذا لا يتأتى إلا بتوفر الجرأة اللازمة على خيار الإنفتاح ، وما يقتضيه من مرونة فكرية و تنظيمية لا تتناسب مع بقايا التفكير الطائفي المتردد ، أو الحرص على استدامة الوجاهة الحزبية والخوف من تبعات المنافسة على المواقع . ولقد أشارت وثيقة المؤتمر السابع الى ذلك بالقول " لا يمكن أن يتقدم الحزب بمهامه ورسالته بكفاءة واقتدار في ضوء موقعه الجديد ،دون أن يتحول إلى مشتل للقيادات السياسية ، ولا يمكن بدعوى مخاطر الإختراق الوصولي ، وضعف التدرج النضالي ، أن يتم إغلاق الحزب أمام الكفاءات " . ولا يعود رفض الإنفتاح الى العقليات المحافظة و الخوف من مخاطر الإختراق التي ترتبط بأصل التكوين الإيديولوجي للحزب ، أو خشية تكرار تجارب حزبية مشابهة فقط ، بل يعود جزء منه الى تشكل بعض النخب داخل الحزب، لم تصل الى مواقعها إلا بمبررات الأقدمية التاريخية ، أو بقايا التجربة الدعوية ، أو فراغ المواقع الذي يفرض ملأها بمن حضر. و تخشى هذه النخب من أية منافسة تطيح بها فتلجأ الى ضبط القاعدة التنظيمية و التحكم في لوائح العضوية من أجل ضمان الولاءات التقليدية ، ويمكن أن يفسر ذلك ايضا حالة الجمود القانوني وعجز الهيئات التمثيلية وانعدام النقاش السياسي او الفكري . وقد حذفت فقرة من مشروع وثيقة المؤتمر السادس تعبر عن ذلك بوضوح بالقول " لقد كشفت تجربة الحزب ان سقوف و فضاءات الإستقبال واطئة نسبيا ، بل يخشى أن يكون بطئ التوسع التنظيمي محكوما أحيانا بالخوف على المواقع التنظيمية و المنافع المادية والمعنوية التي تجلبها المسؤوليات الإنتخابية والتدبيرية على المستوى المحلي أو الوطني ". إن المخاوف المتوقعة من الإنفتاح التنظيمي لا يمكن أن تقارن باية حال مع المخاطر المؤكدة من حالة الإنغلاق المفضية الى كل أشكال التعفن و الركود . والضمانة الأساسية لذلك هو فتح مجال الحوار حول الافكار والإختيارات ، ومجال التنافس في فرز الكفاءات و القدرات . وحينئد سيمتلك الحزب قدرة ذاتية على التخلص من الإنحرافات و تقويم الخلل . لقد مر حين من الزمن على الحزب ، لم تكن فيه أسباب الفرز السياسي قائمة نظرا لاجتماعه على شعارات عامة ، ولم تكن مواقع الحزب منفذا للمصالح و المكتسبات . فكان إنتخاب المسؤولين والهيئات يمر في اجواء حماسية لا خلاف ولا تنافس فيها ، وحان الوقت لكي يشعر الأعضاء بقيمة إختياراتهم ، ويحرصوا على تفويض من يمثل تطلعاتهم ، و يدققوا في المصادقة على القوانين و المساطر التي تحدد مستقبلهم و مصيرهم ، و لن تنضج الإختيارات السياسية بعدئذ إلا حين يتوقف التفويض على بياض، والتصويت لأعتبارات غير الكفاءة و التمثيلية . لا تملك القوى المحافظة مشروعا للمستقبل ، لانها تنتمي – بطبيعتها – الى الماضي . ولا رصيد لديها سوى الخوف من التغيير في المواقع او المواقف ، فهي تعرف ما لا تريد ولكنها لا تعرف ما تريد. وتستطيع أن تفرمل التحول في محطات معينة بما تملكه من أسباب القوة المتبقية ، ولكنها لا تستطيع إيقافه دائما . وهي أيضا ضرورة تاريخية ، لأنها تفرض على القوى المجددة أن تقوي أسباب وجودها وانطلاقها ، و تكشف مكامن قوتها و ضعفها ، وتجبرها على بلورة وتوضيح مواقفها ، وعلى تنظيم صفوفها ، وتحميها من الثقة الزائدة و الخلود الى الراحة. تبين وثيقة المؤتمر السابع أهمية الحرية الداخلية بالقول :" على التنظيم الحزبي أن يعمق قيم الحرية والديمقراطية لدى مناضليه ، إذ لا يتصورعقلا أن يقود حزب شعبه وأمته نحو التحرر والإنعتاق ومعانقة فضاءات الحرية الرحبة و تحجيم شر الإستبداد ، إن عجز هو عن إشاعة الحريات الفردية والجماعية ، وعن بسط الحرية للمناضلين جميعهم ، بما يضمن تفتيت وتحجيم مداخل و منابت الإستبداد المتأصل في الأنفس أفرادا ، والعمران البشري جماعات و مؤسسات". وإذ يتبين من خلال ما اقتطفناه من فقرات تدل على مستوى النقاش الذي كان قد بدأ ولم يستكمل ، يتبين كذلك مستوى التراجع و الإرتداد الذي لن تخفيه التوافقات الظرفية وتأجيل عمليات الحوار الواسع و العميق ، ومحاولة حماية ما يمكن اعتباره مكتسبات سياسية . وإذا خلا المؤتمر من إمكانيات التطوير الفكري و السياسي و عمليات التجدد التنظيمي ، فلن يكون سوى فرصة لملأ المقاعد الشاغرة .