تابعتُ بعضاً من النقاش الذي تفضّل بطرحه إخوة وأخوات بحزب العدالة والتنمية بخصوص البت في مقترحات تعديل النظام الأساسي للحزب، معتبرين أن هذا التعديل يؤول بالأصالة للمؤتمر الوطني، وأنه ليس للمجلس الوطني أن يصادره هذا الحق. باعتبار أن المؤتمر الوطني هو أعلى هيئة تقريرية، ولا يجوز ل"الفرع/الأدنى" أن يحول دون ممارسة "الأصل/الأعلى" لحقوقه التقريرية. مباشرةُ بعض الأصدقاء، الذين أشرف بالعمل معهم بالحزب، للتبشير بهذه الدعوى والدفاع عن هذه القراءة، دعاني إلى أن أتفاعل معهم بالقدر الذي أحسب أنه سيُسلط شيئا من الضوء على ما أُثير بهذا الصدد، وما يُعتقد أنه بيضات في النظامين الأساسي والداخلي تفتح المجال لإعمال اجتهادات وتأوّل تأويلات من باب ترميم فراغ نظامي أو قانوني أغفله واضعو هذين النصين. وأحسب أن هذا النقاش هو من بين أحد التمارين الديمقراطية المهمة التي وجب التفاعل معها بكل أريحية، والاستماع للاستدراكات المُثارة والتعاطي معها في إطار من الاحترام الواجب لاختلاف الرأي والاجتهاد. وبداية، لزمني إثارة الانتباه إلى بعض المحددات المنهجية التي وجب احترامها عند التصدي للإشكاليات القانونية التي قد تُثار بشأن تفسير بعض النصوص القانونية أو بإسناد بعض الحقوق لجهات بعينها دون غيرها، والتي منها على سبيل الإجمال: أ. أن الفهم القانوني السليم يستدعي قراءة متكاملة كليّة للنصوص والمقتضيات القانونية وفق منطق يستجمع معظم مضامينها ويستعرضها أفقيا، باعتبار أن إجماع الكلام أولى من إهماله؛ ب. الحذر من "الاستدعاءات الجزئية" و"القراءات التبعيضية" و"التفسيرات الموضعية" التي تحتجّ بالمادة أو المادتين في إقصاء لمواد أخرى قد تكون ذات صلة دون مبرر معقول، تجنّباً للسقوط في محذر الاقتطاع والاجتزاء، من باب ".. ويل للمصلين .."؛ ج. مراعاة العلاقات التركيبية المتداخلة بين الفصول والمواد، فبعضها يُفصّل مُجمل البعض، وبعضها يُقيّد عموم البعض؛ د. أن التقليد الغالب في الصياغات القانونية هو أن النصوص الأساسية، من قبيل القانون الأساسي، تأتي عامة مُخفّفة من كل بُعد إجرائي ونزوع تفصيلي، بما يحفظ لها استمرارية أكبر في الزمن. في مقابل إحالة المقتضيات التفصيلية والتفسيرية والمسطرية إلى الأنظمة الداخلية واللوائح التنظيمية، التي تتولى الترتيب الدقيق والتقنين الجزئي لتفاصيل الحياة التنظيمية؛ ه. غالب الأمر أن تعديل النصوص القانونية ذات الطابع التنظيمي والتفصيلي تكون سهلة يسرة، كما هو الشأن بالنسبة للنظام الداخلي للحزب واللائحة الداخلية للمجلس الوطني؛ في مقابل أن تعديل الأنظمة الأساسية تكون مثقلة بالإجراءات المتعددة والأنصبة المهمة وتداخل الهيئات المتنوعة، حفاظا لها على استدامة أكبر واستمرار أطول، وضمانا لكل العناصر التي من شأنها أن تساهم في ترشيد وعقلنة هذه الخطوة المصيرية في حياة التنظيمات والهيئات. أولا: بخصوص الاختصاص بالصفة التقريرية من عدمه ذهب بعض الإخوة إلى أن المؤتمر الوطني هو صاحب الحق الأصيل في تعديل النظام الأساسي من باب صفته التقريرية، وهو كلام صحيح بالعموم والإجمال. ولكن الأمر يستلزم تفصيلا مهماً، ذلك أن إثبات الصفة التقريرية للمؤتمر الوطني بمقتضى المادة 23 من النظام الأساسي، لا تقتضي بالضرورة نفي هذه الصفة على غيره من الهيئات. ولذلك حرص النظام الأساسي على أن يُرتّب لهيئة أخرى هذه الصفة وهي المجلس الوطني، الذي يتمتع بدوره، حسب الفصل 27 من ذات النظام، بهذه الصفة، فهو أعلى هيئة تقريرية بعد المؤتمر. وفي هذا الإطار، وفي ما له علاقة بالمؤتمر الوطني، وزّع النظام الأساسي بين المؤتمر والمجلس المهام والأدوار، فأوكل للمؤتمر حق المصادقة على النظام الأساسي وتعديله (المادة 23)، في حين أسند إلى المجلس الوطني حق المصادقة على جدول أعمال المؤتمر (المادة 27 دائما). بمعنى أن المجلس الوطني يُدقّق ويَحصر مواد جدول الأعمال التي تُعرض على أنظار المؤتمرين للمصادقة، باختلاف مضامينها وصيغها، ومنها ما سيُعدّل من القانون الأساسي، عند الاقتضاء، كلاًّ أو بعضاً أو ما لا يُقترح تعديله. وهو ما يندرج ضمن المهام التقريرية الموكولة للمجلس الوطني، ولا يمكن أي جهة أخرى فردا أو هيئة، دون المجلس الوطني، أن تطرح أي نقطة في جدول الأعمال، ما دام أن النظام الأساسي لم يخولها هذا الحق ولم ينظم مسطرتها أو يُحلها على نص قانوني آخر. ثانيا: بخصوص تعديل النظام الأساسي ومسطرته أما بخصوص النظام الأساسي، ومع الإقرار بأن حق "المصادقة عليه" أو "المصادقة على تعديله" يؤول للمؤتمر الوطني، إلا أن ذلك لم يُترك دون توضيح لمنهجيته، وإنّما تكلّف كل من النظامين الأساسي والداخلي بتوضيحه. فالنظام الأساسي، في فصله 23، يتحدث فقط عن مصادقة المؤتمر على النظام الأساسي أو المصادقة على تعديله. والمصادقة، كما يذهب إلى ذلك فقهاء القانون، إجراء يأتي بعد استكمال تنفيذ مجموع إجراءات أخرى، يأتي هو لختمها والتصديق عليها. وقد تكفلت المادة 100 من النظام الداخلي بتعداد مختلف هذه الإجراءات المسطرية، حيث تقول: "يتم اقتراح النظامين الأساسي والداخلي، والمساطر التي لم تختص الأمانة العامة في النظام الأساسي باقتراحها، بمبادرة من أحد الأطراف التالية: – الأمانة العامة باقتراح من الإدارة العامة؛ – مكتب المجلس الوطني؛ – عضو المجلس الوطني؛ يعتمد المجلس الوطني مقترح تعديل النظام الأساسي، ويقدم بشأنه مشروعا إلى المؤتمر الوطني المنعقد في دورة عادية أو استثنائية. تنظم هذه المبادرات وفق مقتضيات ينص عليها في اللائحة الداخلية للمجلس" وهو ما أكدته المادتين كن المادة 89 و90، إذا نصتا على ما يلي: "المادة 89: طبقا لمقتضيات المادة 100 من النظام الداخلي يتم تعديل النظام الأساسي والنظام الداخلي واللائحة الداخلية، والمساطر التي لم تختص الأمانة العامة في النظام الأساسي باقتراحها، بمبادرة من أحد الأطراف التالية: الأمانة العامة باقتراح من الإدارة العامة؛ مكتب المجلس؛ عضو المجلس. يتم تعديل النظام المالي واللائحة الداخلية حسب نفس المقتضيات أعلاه؛يحيل مكتب المجلس المشاريع المقدمة على لجنة الأنظمة والمساطر التي يتولى رئيسها رفعها إلى المجلس بعد المصادقة عليها." ثم المادة 90 التي نصت على أن: "تتم المصادقة على المقترحات المقدمة بأغلبية المصوتين. وبناء على مقتضيات المادة 100من النظام الداخلي، يعتمد المجلس الوطني مقترح تعديل النظام الأساسي ويقدم بشأنه مشروعا إلى المؤتمر الوطني المنعقد في دورة عادية أو استثنائية." ومن خلال هذا الاستعراض للمادة 23 من النظام الأساسي، والمادة 100 من النظام الداخلي، والمادتين 89 و90 من اللائحة الداخلية للمجلس الوطني، يتضح التكامل في توزيع الأدوار بين هيئتي المؤتمر والمجلس الوطنيين الذين يتمتعان بالصفة التقريرية. حيث يترتب أمر تعديل النظام الأساسي في مراحل ثلاثة، اثنين منهما يختص بهما المجلس الوطني، والثالثة الختامية يختص بها المؤتمر الوطني: 1. مرحلة الاقتراح: أي التقدم ب "مقترح تعديل" النظام الأساسي، تتقدم به جهات ثلاث إلى المجلس الوطني كما هو مبين أعلاه؛ 2. مرحلة الاعتماد: أي صياغة "مشروع تعديل" النظام الأساسي، بعد مصادقة المجلس الوطني عليه بأغلبية المصوتين؛ 3. ثم مرحلة المصادقة: وهي المرحلة التي يختص بها المؤتمر الوطني للمصادقة على مشروع التعديل الذي رفعه المجلس الوطني. والحال، أنه خارج نطاق هذه مسطرة تعديل النظام الأساسي، بما هو أمر يُعدّ مشروعه المجلس الوطني ويحسم أمره المؤتمر الوطني، لا توجد مسطرة أخرى تتيح مسلكا آخر غير ذاك. ولعلّه من العبث، ما دام أن فعل العقلاء منزه عن العبث، أن يتم مناقشة مقتضى تعديل نص من نصوص النظام الأساسي في الأمانة العامة لوحدها، ثم في لجنة الأنظمة والمساطر لوحدها بعد أن يتقدم عضو من أعضاء المجلس الوطني بهذا المقترح، ثم يناقش لمرة ثالثة بمناسبة انعقاد المجلس الوطني لاتخاذ القرار فيما سيُرفع مما لن يُرفع بشأن مقترحات تعديل النظام الأساسي. ثم نأتي فيما بعد ندعو إلى رفع كل ما حاز موافقة المجلس الوطني مع ما لم يحز موافقته إلى المؤتمر الوطني. وليس من النافلة في القول، بأن هذه المنهجية وهذا المسلك يسنده الجاري من العرف القانوني وتواثر معهود العمل التنظيمي إبان تنظيم حزب العدالة والتنمية لمؤتمراته التي وصل عددها الثماني دورات. وكما هو معلوم فللعرف سلطانه وإلزاميته كالمقنن تماما، فالمعروف عرفا كالمنصوص نصا والمشروط شرطا. والأكيد أن هذا العرف قد استكمل شروطه المادية تكراراً، وشروطه المعنوية إقراراً.. ثالثا: بخصوص تفسير النظام الأساسي والحسم في الخلاف فيه هذا، وقد تنبّه النظام الأساسي لحدوث الخلاف في تفسير مقتضيات النظام الأساسي، حيث أكد في مادتة 104 على أن: "تتولى الأمانة العامة تفسير مواد النظام الأساسي". وأنه في حالة نشوء نزاع بهذا الصدد يمكن "إحالة الأمر إلى هيأة التحكيم الوطنية التي تبت فيه نهائيا". كما قد تنبه النظام الداخلي، في مادته 26، لما يمكن أن يُثار من قضايا من قبيل هذه الإشكالات، حيث ضمّن من بين الصلاحيات الموكولة للجنة رئاسة المؤتمر "البت في القضايا الطارئة خلال انعقاد المؤتمر الوطني". وبعد هذا كلّه، وبعد استنفاذ كل هذه الخطوات، يصبح الأمر ملزما للجميع وفقا لما جاء في ديباجة النظام الداخلي التي تؤكد في بندها 3 أن "الرأي حر والقرار ملزم"، بحيث يجب على الهيئات أن تفسح المجال الأعضاء لإبداء آرائهم بحرية، بحفظ شرطين اثنين، أن يكون التعبير عن الرأي قبلاً ثم في إطار المؤسسات. والله من وراء القصد وهو يهدي سبل السلام