كثر الحديث في الأيام القليلة الماضية، على إثر حادثة مصرع الشاب محسن فكري رحمه الله عن الفتنة، وقد راجت هذه الكلمة، في سياق الدعوة إلى الاحتجاج على "الحكرة" وضد الشطط في استعمال السلطة، واستخدمت من طرف بعض النخب التي كانت ضد التحريض على الاحتجاج خارج أي سقف قانوني وسياسي، وفي المقابل اعتبر الطرف الداعي للاحتجاج، أن استخدامها على خلفية ممارسة حق التظاهر السلمي، مصادرة لحق من الحقوق المكفولة دستوريا، ومنهم من اشتط في الهجوم على المستخدمين للكلمة ووصفهم بالمنافقين والمتخاذلين والموالين للمخزن... لذلك، جدير بنا معرفة مفهوم كلمة الفتنة ودلالاتها، والبحث في السياق الثقافي والتاريخي الذي أنتجها، ومقارنتها بالسياق المعاصر.. لفظة فتنة لغة: مِن فتَنَ يفتِن، فِتْنَةً، فهو فاتن، والمفعول مَفْتون. ويقال فتَن معارِضَه: عذّبه ليحوِّله عن رأيه أو دينه. وتعني كذلك الاختبار والابتلاء... واصطلاحا: يقال نشر الْفِتْنَةَ بَيْنَ النَّاسِ: مَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِن اخْتِلاَفٍ فِي الرَّأْيِ يَجْعَلُهُمْ يَتَطَاحَنُونَ وَيَتَقَاتَلُونَ .ويقال هُمْ فِي فِتْنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ: فِي اضْطِرَابٍ وَتَهَوُّرٍ... وفي السياق الديني الإسلامي، لها دلالات كثيرة، منها الامتحان والابتلاء والإضلال واختلاط الحق بالباطل والقتل...قال تعالى محذرا من الفتنة: (واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة، واعلموا أن الله شديد العقاب) سورة الأنفال الآية 25. فتنة: هنا تعني اختبار ومحنة، ففيه تحذير من الله تعالى لعباده المؤمنين، أن يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي، بل تعم الجميع، وفقما جاء في بعض التفاسير.. وقياسا على الدلالات والمعاني السابقة، وانتقالاللسياق العربي المعاصر، فإن الذين يستخدمون مصطلح فتنة، فإنما يقصدون به المحنة والاضطراب والتطاحن، وفي سياقنا المغربي، وخاصة في علاقة بحادثة "صاحب الحوت" الأليمة، فإن من استخدم لفظة فتنة، خاصة من النخب المثقفة، لم يكن قصده مصادرة الحق في التظاهر السلمي، باعتباره حق دستوري يدخل في إطار الحريات العامة، وإنما كان القصد هو التحذير من الدفع بالشارع الغاضب نحو المجهول، لتحقيق أغراض سياسية، لا علاقة لها بقضية المواطن المغربي الراحل محسن فكري، ولا بالاحتجاج ضد "الحكرة" كما روجوا لذلك "دعاة الفتنة".. ولأن استغلال أطراف سياسية لمأساة إنسانية من أجل تصعيد وتوسيع دائرة الاحتجاج، من دون تقدير للمخاطر التي قد تحدث عند وقوع انفلات أمني وخروج الشارع عن السيطرة، ما يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات لا تحمد عقابها، ستأتي على الأخضر واليابس، ولن يبق مجال حينذاك لإخماد الفتنة، وما يحدث في دول الجوار العربي ليس ببعيد عنا.. إن استخدام لفظة الفتنة لا يرمي إلى تخويف الناس من ممارسة حقهم في الاحتجاج المشروع، ولا إلىتبرير واقع سياسي وحقوقي بئيس، يكتوي منه كل المغاربة، وإنما تقدير للمخاطر التي تحدق ببلادنا من كل جانب، والأوضاع الاجتماعية المتردية التي يمكن أن تؤدي في أية لحظة إلى الانفجار.. في البلاد العربية قامت الأنظمة السياسية المستبدة بالهيمنة والتحكم في كل مفاصل الدولة، وربطت مصيرها بمصير الدولة، حتى إذا انهارت الأنظمة، سقطت الدولة معها، متمثلة لمقولة " أنا ومن بعد الطوفان"، وهذا ما بات واضحا في الدول العربية التي شهدت ثورات على أنظمتها.. وبالتالي ليس من السهل إسقاطنظام استبدادي، حتى لو سقط رأسه، لأن النظام متغلل في دواليب الدولة، وهذا ماجعل البعض يستخدم عبارة "الدولة العميقة" للدلالة على سيطرة النظم الاستبدادية على الدولة، فالنظام عندما يستشعر الخطر سيخرج كل ما لديه من قوة ووسائل الدمار والقتل، ليحافظ على كيانه من الانهيار..بالإضافة إلى أن هذه الأنظمة لديها ارتباطات ومصالح متبادلة مع دول خارجية تقدم لها الحماية والدعم، وخاصة الدول الغربية .. بناء على ذلك، من الغباء السياسي التفكير في تغيير الأنظمة عن طريق المراهنة على الشارع، لأن ذلك سيؤدي حتما إلى الفتنة والاضطرابات والتطاحنات والحروب، وانهيار الدولة، وكل الانتفاضات الشعبية التي مرت في الدول العربية، كان مصيرها الفشل، لأنها تعرضت للقمع الوحشي، الذي ذهب ضحيته عشرات الآلاف من المواطنين الأبرياء، من دون أن يقدم القتلة والجلادون إلى المحاسبة.. ولم يتغير شيء في الواقع السياسي لهذه الدول. قد يقول قائل: وما العمل؟ هل نبقى صامتين وخاضعين ومستسلمين لهذا الواقع البئيس؟ في تقديري الحل هو الضغط والنضال بالوسائل المشروعة، من أجل الدفع بالدولة للقيام بالإصلاحات والتغييرات اللازمة، وهذا يتطلب بالأساس وجود نخبة سياسية ومثقفة لها وعي بدقة المرحلة، وعزم على تجاوز الصراعات الهامشية، القائمة على أساس إيديولوجي أو عقائدي، وإيجاد آلية للعمل والتنسيق في جميع القضايا المجتمعية.