في بداية الطريق… عندما تتأمل واقع الأمة اليوم، تلاحظ تكالب الأعداء عليها من الداخل والخارج، فلا تكاد ترى في أفق هذا الواقع سبيلا واضحا للخروج من هذه الأزمة، فتجد البعض يبحث عن المعجزات التي ستغير الحال، فيطالبون بالرجوع إلى عصور النور ويحاكمون واقع الأمة بالماضي، وعندما يعجزون عن تحقيق أهدافهم فإنهم يلجئون إلى أحاديث الفتن ونظرية المؤمراة لتبرير العجز الفكري والجمود الحضاري، وهذا حال بعض شيوخ الأمة اليوم، فما وصلنا إليه اليوم فبما كسبت أيدينا، وبما نؤمن به من فكر لا ينسجم مع مرجعيتنا الإسلامية في جمالها الحقيقي، ودائما نطرح سؤالا جوهريا لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ وللبحث عن الإجابة سنجد مؤلفات عديدة في هذا الموضوع، لكن دون إمكانية تنزيلها على أرض الواقع، والاكتفاء بترديد بشارات النصر وأن الله وعدنا بذلك دون جد واجتهاد… بعد لحظة شرود… وحيث يرضى العقل بالوضع الراهن على اعتبار أننا في نهاية الزمان، وأن الأحوال ستزداد تعقيدا وتأزما، وبالتالي فلا أمل في أي تحرك لتخليص واقعنا مما فيه من التخلف الحضاري والاستلاب الثقافي والتبعية الاقتصادية والأمية والفقر، وعلينا أن نستسلم لقضاء الله في التحول من سيء إلى أسوأ، فمقاومة هذا القدر محال، فهي إرادة الله الغالبة في زعمهم، ويحلمون بالتمكين لهذه الأمة، وهنا يستشهدوا بمجموعة من الأحاديث والآيات المبشرات، التي تبشر بنصر الأمة لكن دون بذل أي جهد في التقدم العلمي والتطور الصناعي والقدرة على الإبداع والجودة والإتقان… في منتصف الطريق… الأمة اليوم في حاجة ماسة إلى عودة صادقة واعية للدين تضمن بها الحصول على كل أدوات الفعل الحضاري، لتحقيق الشهود على كل الأمم كما استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم، فعندما خاطبه الله عز وجل (اقرأ) لم يحصر فعل القراءة في حدود دائرته فقط، فقد دعا كل أصحابه للقراءة وقال لهم (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)، وخير مثال حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه إلى اليمن قال صلى الله عليه وسلم: يا معاذ كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضى بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يُرضي رسول الله. والشاهد عندي هنا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه على الجد والاجتهاد، فلنعلم جيدا أن أمر الأمة لن يستقيم إلا تربية الأجيال على أن طلب العلم من الضروريات التي لابد منها كالأكل والشرب، وعلى حكومات الأمة أن تخصص ميزانية كبيرة من المال من أجل العلم وتشجيع الطلاب على البحث والإبداع، هذا إن كانت لدى أهل الحل والعقد رغبة في ذلك. في فترة استراحة… ومن أدوات الفعل الحضاري العدل والمساواة داخل أفراد المجتمع، صحيح أن الأمة اليوم تملك مؤسسات عديدة ومنها القضاء الذي يجب عليه أن يحق الحق ويبطل الباطل، وينصر المظلوم ويردع الظالم، فعندما لا يمارس هذا القضاء وظيفته التي وجد من أجلها، فلاشك أن الأمة ستعيش الأزمات التي سبق أن ذكرت من تخلف وفقر… وإن سمح لي القارئ(ة) فيمكن أن نختزل أدوات الفعل الحضاري في الكليات الخمس التي جاء من أجلها الشارع، وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ويتوقف عليها وجودهم ونجاتهم في الآخرة، وإذا فقدت هذه المصالح الضرورية اختل نظام الحياة، وفسدت مصالح الناس، وعمت فيهم الفوضى وتعرض وجودهم للخطر والدمار والضياع والانهيار. وتنحصر مصالح الناس الضرورية في خمسة أشياء وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، أو النسب، والمال، قال حجة الإسلام الغزالي: (ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يُفوِّتُ هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة)، فكيف نتقدم والعديد من شباب الأمة يحارب الدين باسم الحداثة، وانتشار القتل وهدر الدماء بين المسلمين باسم الدين، وعقل المسلمين مخرب بأنواع الخمور والمخدرات…؟ إذن فعلى قادة الأمة أن يعيدوا النظر في هذه المقاصد الضرورية الخمسة فلا يمكن أن يتحقق لهذه الأمة الشهود الحضاري بدون مراعاة هذه المصالح. ومع ذلك لابد من انتزاع اليأس من النفوس، وتنزيل السكينة في قلوب المؤمنين لدفعهم للعمل والأمل، ذلك العمل الذي يحول المبشرات إلى ممكنات، ونقل الأمة من طور الحلم والانتظارية إلى الأمة الشاهدة التي تلعب دور الفاعل وليس المفعول به. أثناء العودة من العمل … فعندما ننظر إلى الصحابة الكرام مثلا سيدنا عمر في اجتهاداته، كيف فهم الواقع وعطل مجموعة من النصوص ولم يكتفي بسطحية الفهم للنص الشرعي، والتابعين الذين سلكوا نفس الطريق، إلا إن توقف الأمر عندنا فروجنا لمجموعة من المفاهيم من قبيل (لا اجتهاد مع وجود النص)، و(وسد باب الاجتهاد) والجمود على المنقولات وتعطيل ملكة التفكير، والوقوف عند نصوص البشارات دون العمل بالأسباب، في مقابل ذلك نجد الصحابة والتابعين كانوا يعون أحاديث المبشرات جيداً، وكانوا يتمنون أن يكونوا أداوت في تحقيق العزة للإسلام، فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية، فلم يجعل المسلمون من البشارة تكأة للقعود والاتكالية على الغير والخلود للراحة وأن النصر قادم لا محالة، بل كانوا يسعون لأن يكونوا هم الجنود الذين يسوقون إلى الأمة تلك البشارات عملياً، ففتح القسطنطينية لم يكن بالخمول والاعتماد على نص الحديث الذي قال فيه رسول الله: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) رواه الإمام أحمد في مسنده. ثمانية قرون من المحاولات حتى حضي محمد الفاتح بشرف الفتح. وأحاول أن أشاركك أخي وأختي القارئ(ة) تفاصيل كتابة هذا المقالة التأملية وذلك بالإشارة إلى الفواصل التي تتخللها، فقد كان بإمكاني عنونة كل محور من محاورها وهذا الفعل ليس بصعب، لكن أن تشارك القارئ(ة) همومك في إخراج فكرتك يكون له طعم خاص، فهذا الموضوع استحوذ على فكري، وصرت أفكر في نسج هذه التأملات في كل مكان… في شارع من شوارع العم سام … فلابد من الإشارة إلى أن هذه الأفكار تكون مستفزة للبحث، فالتفكير في الحديث السابق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل منى أفتح بابا من أبواب تاريخ الأمة من أجل محاولة فهم واقعنا المعاصر، وأنا في الطريق أحاول التفكير مليا في حديث رسول الله، فلاشك أن بشارة فتح القسطنطينية كان انجازا تاريخيا كشف لنا بأن الأمة كانت تعيش في تلك الفترة لحظة الوعي الحضاري حيث فكر وخطط محمد الفاتح في كيفية الفوز بتلك البشارة، وأنا في الطريق حاولت أن أرسم في مخيلتي هذه الخلاصة من خلال هذا الحدث التاريخي: التقوى والورع من أهم مقومات نجاح الأمة، وهنا لابد لك أخي وأختي القارئ(ة) من الاطلاع على سيرة محمد الفاتح حتى تدرك كيف انتصر … رسم الأهداف والاجتهاد في التخطيط من أجل التنفيذ، وهذا ما يجب أن تكون عليه الأمة، ليس مجرد تخطيط البرامج دون التفكير في تحقيق الأهداف. القوة والعزيمة والاعتزاز بالانتماء للدين، فقد قيل عن محمد الفاتح رحمه الله أنه قال: (إن لي قلبا كالصخر لا يهدأ ولا يلين حتى أحقق ما أريد)، والبحث في تاريخ محمد الفاتح يجعلك تكتشف أن الأمة كان فيها رجلا عظيما أو كما قال رسول الله (فلنعم الأمير أميرها). لاشك أن هذا الحدث التاريخي له علاقة بما تعرفه تركيا من قوة وتقدم، والمتتبع للشأن التركي سيلاحظ أن القائد أردوغان يحاول إحياء العثمانية من جديد… وجهة نظر … لا يكفي أن نجزم بحتمية الانتصار، بل من الضروري أن نوضح كيف نحقق الانتصار، فلولا أن الله قيض للقسطنطينية عقولاً فطنة، تستحثها البشارات، ويستهويها صنع الخطط وصياغة التصورات لما تحققت تلك البشارات. ولولا المحاولات الدؤوبة وحضور التوكل بمعناه الصحيح، لما تُوجت مسيرة الفتح الإسلامي بذلك الفتح العظيم. إن الأمة اليوم في أمس الحاجة لأن تحسن التعامل مع النصوص المبشرات، فلا تبسطها متوهمة أنها ستتحايل على الواقع، كأن تقول إذا امتلأت المساجد سيفتح الله علينا، فالله لن يعطينا إلا بقدر جهودنا، ومن ظن أن الله سيمنحه أقطار السماوات والأرض لمجرد أنه طيب القلب حسن النية فقد غره الغرور، فالله لا يعطي من يخلد للخمول والكسل، وإنما ينعم بنصره على أولي الأيدي والأبصار العاملين، يقول الله عز وجل:(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنين، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة)، فكفنا من البكاء على الماضي والركون للحاضر والتوكل على المستقبل باسم المبشرات، فنريد العمل والعمل من أجل النهوض الحضاري، وبعث الحياة في هذه الأمة، فسلاحنا هو الاعتماد على الله، والإحسان في التخطيط والتنفيذ الدقيق لما جاءت به الشريعة مع مراعاة مصالح وواقع الأمة. وفي الختام من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سنن تشكيل الوعي الحضاري لهذه الأمة سنة الأخذ بالأسباب، ولذلك يجب على العاملين في حقل التمكين لدين الله من فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع، ومحاولة التغيير الذاتي وهنا أدعوا القارئ(ة) لقراءة كتاب المفكر علي شريعتي (العودة إلى الذات)، والعمل بسنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى، وهو الأمر الذي خلق له الإنسان، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض، وله وجدت الجنة والنار، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية، ولا يجب أن نكتفي بدراسة ومعرفة بشارات النصر التي جاءت في نصوص الوحي، دون فهم مقصد الدين في ذكرها، ومن أسباب التمكين لهذه الأمة الاهتمام بالجانب العملي والمعرفي وتشجيع شباب الأمة، واستثمار الموارد البشرية للأمة فيما يعود بالنفع على الإنسانية. والله تعالى أسأل التوفيق والسداد للبشرية جمعاء.