السلطة تجرب وصفة "العنف المادي" ينطلق الإيمان بنجاعة السلاح الأمني، في أحيان كثيرة، من الاعتقاد بأن المواجهة بين طرف يحمل السلاح، ولديه إمكانيات إيقاع العنف المادي والاعتقال وحجز الحرية والملاحقة، وطرف ليس لديه هذه الأسلحة، هي معركة محسومة دائماً لصالح الطرف الأول. ومن ثمة، يسود الاعتقاد بأننا بواسطة القمع والزجر والتشدد الأمني والغلو في استعمال القوة والتعويل على العنف المادي، نستطيع إخماد أي حراك جماهيري كيفما كان حجمه وظروفه وحيثياته وسياقه، وأن الحسم يمكن أن يتم في أجل محدد، وتعود الأمور إلى مجراها. الحكومة شريك في المقاربة الأمنية في المغرب يتصور البعض، ربما، أن حركة 20 فبراير قد وُوجهت، من طرف النظام، بكثير من التساهل غير المبرر، وأنه لم تكن هناك ضرورة لتقديم التنازلات الكبرى التي قدمها النظام، لأنه كان في مستطاعه السيطرة على الوضع دون حاجة إلى تلك التنازلات، وأنه جرى استعظام قوة وحجم هذه الحركة. وبالتالي يتصور البعض أن أخذ العبرة مما جرى، في سياق ما سمي ب "الربيع العربي"، يقتضي ممارسة خطط استباقية وإعداد السبل التي تسمح بإطفاء أية حركة مستقبلية في المهد. ومن ثمة أصبح، ربما، الهاجس لدى الكثيرين في مراكز القرار، ألا يواجه المغرب، مستقبلاً، حركة مماثلة لحركة 20 فبراير. وفي حالة ما إذا ظهرت مثل هذه الحركة يجب ألا تبدي الدولة، حيالها، أي وجه من التساهل أو التراجع أو الاعتراف بشرعيتها. حكومة السيد سعد الدين العثماني تبنت، رسمياً، من خلال ناطقها الرسمي، ما يسمى بالمقاربة الأمنية، ولا يمكن لها أن تدعي في يوم من الأيام، أن ما جرى من قمع ومس بالحريات وتنكيل بالمواطنين، في منطقة الريف، كان مفروضاً عليها، بل هي شريك في تبني تلك المقاربة. وهكذا، أشار الناطق الرسمي باسم الحكومة، إلى أن خطة النظام واضحة في ما يتعلق بالتعامل مع حراك الريف، وهي تنطلق من وجود ثلاثة مسارات: هناك المسار الأمني، حيث يقوم رجال الأمن بمباشرة النهوض بكل الالتزامات المفروضة عليهم لضمان الاستقرار والأمن والطمأنينة وسلامة الممتلكات والأشخاص. وهناك المسار القضائي، حيث عُرضت الحالات على القضاء، وهو الذي سينظر فيها، وسيمنح البراءة لمن يستحقها، وسيدين كل من ثبت في حقه اقتراف جرائم، وأن ما يمكن أن تضمنه الحكومة هو تأمين شروط المحاكمة العادلة، وفي ظل هذه الشروط لكل شخص الحق في أن يتمتع بكل الأدوات القانونية التي تسمح له بإثبات براءته والدفاع عن نفسه. وهناك المسار الثالث، وهو المسار التنموي، حيث تباشر الحكومة، بشكل حثيث وبصورة استثنائية وبإيقاع خارج عن المألوف، التصدي لكل المشاكل وإيجاد الحلول والسهر ليل نهار على تطبيق البرامج التنموية المتعلقة بالمنطقة، ومحاولة الاستجابة لمطالب ساكنتها. وهكذا يظهر بأن التسليم بالسير المتوازي للمسارات الثلاثة، ومحاولة الإيحاء بعدم وجود تناقض بينها، هو دليل على تورط الحكومة في تبني وتزكية المقاربة الأمنية، لأن القول بعدم وجود أي شذوذ في اجتماع المسارات الثلاثة، هو تجاهل لكون المطلب المركزي للحراك اليوم، هو إطلاق سراح كافة المعتقلين، وهو محاولة لإضفاء الشرعية على عمليات غير مشروعة، من وجهة نظر المعايير الحقوقية المعتمدة عالمياً، لأن قمع حراك سلمي هو مساس بحق أساسي من حقوق الإنسان ونعني به الحق في التعبير والتنظيم. تريد المقاربة القمعية التمييز بين قيادة الحراك، ومطالب الحراك، فهي تعتبر أن هذه المطالب يجب أن يسقط منها مطلب الإفراج عن المعتقلين. وذلك لأن مطالب الحراك يمكن أن تكون مشروعة، ولكن الحراك، في جميع الأحوال، غير مشروع. وعدم شرعية هذا الحراك يجب أن يؤدي ثمنها قادة الحراك. وقمع هؤلاء القادة هو درس لكل مغاربة المناطق الأخرى، فالنظام يريد أن يعطي بقادة الحراك المثال للجميع. في الأنظمة السلطوية، عموماً، يخضع الأمنيون، بأجهزتهم المختلفة، لعدة تداريب وتقنيات تمكنهم من مواجهة الانتفاضات الشعبية، حتى ولو كانت سلمية. يتم تطوير تأهيل تلك الأجهزة للنجاح في تشتيت المظاهرات وإطلاق الصفير، ودس المخبرين بالمئات وسط المتظاهرين لتحديد العناصر الواجب اعتقالها واستدراجها إلى النقط التي يتم إلقاء القبض فيها عليها، واحتجاز أفواج من النشطاء والمتظاهرين يومياً، وكتابة محاضر، وتهديدهم بالسجن إن هم عادوا إلى التظاهر، ووضع عربات للأمن في مختلف الأزقة على أساس تفريق كل شروع في التجمع، ومراقبة الدور السكنية التي يخرج منها المتظاهرون، وفك أواصر الارتباط بينهم، ومراقبة الاتصالات الهاتفية والإلكترونية بين النشطاء، وبينهم وبين الغير، والتدخل، تقنيا، لتعسيرها ولتخفيض صبيب الأنترنيت إلى أدنى مستوى، في المناطق المعنية، واحتلال الساحات التي يمكن أن يتجمع فيها المحتجون، وعسكرة المدن، وسد المنافذ المؤدية إليها، والتسييج المسبق للساحات التي يمكن أن تُستعمل في الاعتصامات والاحتشادات، والتهديد المستمر للعائلات، والتلويح بمتابعات بتهم خطيرة، وافتعال اصطدام مع السكان لترهيبهم خارج أوقات التظاهر…إلخ. وفي المغرب، لاحظنا، بمناسبة حراك الريف، اجتماع العديد من القرائن التي تفيد، ربما، بأن المعتقلين تعرضوا للتعذيب، وجرى تجريدهم من ثيابهم وتصويرهم في أوضاع مهينة، وإساءة معاملتهم، وإساءة معاملة أقربائهم، والتضييق على نشاط هيئة الدفاع، وتعمد تكسير الأبواب أثناء الاعتقالات، وإلحاق أضرار بالأماكن التي يتم فيها اعتقال النشطاء، والمتابعة بتهم جاهزة بناءاً على محاضر اعتمدت على قرائن واهية وتوسع غير مستساغ في تفسير وتأويل النصوص، والتعامل مع متظاهرين سلميين كما لو كانوا مجرمين قتلة وسفاكي دماء وقادة عصابات إجرامية وقطاع طرق، واعتبار تفعيل عدد من الحقوق، بمثابة مس بسلامة الدولة ومؤامرة تستهدف أمنها، وإثقال ملفات المتابعة بعشرات الفصول القانونية المستند إليها في تحديد التهم، وتسويد عشرات الصفحات وحشوها بالعشرات من التصريحات والخطب، المعتمد عليها بشكل يحمل على الاعتقاد أننا ربما عدنا إلى الماضي، بحيث يصبح كل خطاب معارض ومنتقد للسلطة أساساً للمتابعة الجنائية -في أية لحظة- ودليلاً على وجود نية تآمرية، وكل احتجاج أو غضب يمكن -في أية لحظة- أن يجري –بسهولة– تأويله –رسمياً- على أنه نشاط واقع تحت طائلة المتابعة الجنائية. عقاب جماعي؟ المهم أننا نحس اليوم كما لو أن المقاربة "الأمنية" المعتمدة تتحول شيئاً فشيئاً إلى نوع من العقاب الجماعي بسبب الحراك، وأن هذا الأخير يتحول إلى خطيئة تفرض على مقترفيها تطهير أنفسهم وأجسادهم من دنسها والقيام بمجموعة من الحركات والطقوس والأفعال التي بإمكانها، وحدها، أن تثبت عودتهم إلى جادة الصواب. فكل من له علاقة بالحراك يجب أن يؤدي الثمن إما في الحال أو في الاستقبال، ومبادرة مثل مبادرة الحراك لا يمكن أن تمر بدون عقاب أو مساءلة، لأنها في العمق تمس بمقومات النظام العائلي الذي يمثل أساس العلاقة بين الحاكمين والمحكومين في المغرب. ويمكن أن يتأخر العقاب، ففي حالة حركة 20 فبراير، لاحظنا أن رموز الحركة، بعد مضي مدة من الزمن وخسوف الحركة، تُوبع عدد منهم بجرائم الحق العام، ونتساءل هل الصدفة وحدها هي التي صنعت كل تلك المتابعات؟ الحراك، إذن، هو بمثابة عقوق يجب أن يقابله جزاء، وإيقاع الجزاء لا يعني أنه لن يكون هناك عفو، لأن النظام العائلي ينطوي، أيضاً، على وجه للرأفة والرحمة والعفو. ولكن توقيت ذلك العفو، يجب أن يعود إلى رب العائلة وليس إلى غيره، وأن لا يُفرض عليه. هناك، حتى الآن، معتقلون بالمئات، وتَمَّ تسجيل حالتي وفاة. وحسب جهات إعلامية وحقوقية ومصادر من العائلات فإنه يوجد ضمن المعتقلين قاصرون أو مصابون بأمراض خطيرة. هناك قرابة أربعمائة معتقل متابعين بجنح أو جنايات، بعضها يصل إلى عقوبة الإعدام، لكن السلطات الحكومية لا تقدم، معطيات إحصائية دقيقة عن مجموع عدد الذين احتُجِزُوا أو استُنطقوا أو وُضِعُوا تحت الحراسة النظرية ثم أفرج عنهم، أو عدد الذين لم يُفرج عنهم أو مجموع عدد الذين أصيبوا في الحراك. هناك الآلاف من الأفراد الذين ينتمون إلى عائلات المتابعين والمعتقلين والمصابين، وجميعهم يعتبرون أنفسهم مظلومين، وبأن الدولة أجرمت في حقهم، ولم تنصفهم، ومارست إضراراً بحقوقهم، وأنها مسؤولة عن معاناتهم. هناك أحكام صدرت ضد العشرات من النشطاء، منها حكم ضد ناشط وصل إلى 20 سنة سجناً، وهذا الحكم يفيد بأن السلطة تريد أن تؤكد للناس بأنها يمكن أن تصل إلى المدى الأقصى في العقاب، وأن سلمية الحراك لا يمكن أن تشفع للنشطاء الذين قادوا الحراك أو شاركوا فيه. سلمية الحراك ليست لعنة أحكام القضاء المتتالية، ومهما بلغت من القسوة، فهي لن تكون كافية لإثبات عدم سلمية الحراك، لأن هذه السلمية قد أثبتها الواقع من خلال التغطيات الوافية في الفضاء الأزرق، ويتابعها العالم أجمع. إن الاحتجاج السلمي في حد ذاته يجب – في الأصل – أن ننظر إليه على أنه مفخرة للمغرب وللمغاربة، لأنه يدل على أنهم قادرين على التعبير بطريقة حضارية عن مطالبهم، فهو بالتالي ليس لعنة. خلال ثورة ماي 1968، بفرنسا، قال ديغول" إني فخور بشباب فرنسا"، كذلك كان يجب على المسؤولين أن يفخروا بشباب الحراك. لكن النتيجة العملية المترتبة عن المقاربة الأمنية هي في نهاية المطاف، إلغاء لحق التظاهر -من الناحية العملية- رغم التنصيص عليه في الدستور. وحسب هذا المنطق، فأقصى ما يمكن أن يُسمح لنا به، هو التعبير عن مطالبنا بواسطة تقديم عرائض أو ملتمسات أو كتابات تُوَجَّهُ إلى السلطات العليا فقط، والمشاركة في الانتخابات. حتى إبداء التشكي عبر الأنترنيت فهو غير مقبول في بعض الحالات. قد يُقال إن هناك إجراءات قانونية يجب أن تسبق التظاهر، وإن العقاب والمتابعة تنصب على عدم التقيد بالمسطرة القانونية، ولا تستهدف تجريم الفعل في حد ذاته. لكن الواقع العملي يثبت بأن السلطة في المغرب لا تبدي موافقتها -في الكثير من الأحيان- إلا إذا كان موضوع المظاهرة أو المسيرة لا يزعجها ولا يقلقها ولا تجده مناهضاً لاختياراتها وقراراتها وبرامجها وميولها، بمعنى أن الحق في التظاهر يصبح أسير مزاج السلطة، إن شاءت أفرجت عنه وإن شاءت أبقت عليه قيد الاحتجاز والأسر. وذريعة رفض طلب التظاهر جاهزة، باستمرار، وهي المس بالأمن العام، وبالتالي يصبح التظاهر الاحتجاجي، الذي يأخذ مسافة من السلطة وأفكارها ولا يشاطرها النظر في العديد من القضايا والرؤى والاختيارات، محط رفض رسمي بسهولة كبيرة. وإذا كان الناطق الرسمي باسم الحكومة، يعتبر بأن من حقه أن يتحدث عن شروط المحاكمة العادلة، فمن قام بتجريد الزفزافي من ثيابه، وبث تلك الصورة المهينة؟ الرجل موجود، أثناء التصوير، بين يدي مؤسسات الدولة، وهي مسؤولة عن كل ما يتعرض له. ولماذا لم يُفتح تحقيق في تصريح لسيليا (سليمة الزياني) بأنها، أيضاً، تعرضت للتصوير وهي عارية؟ ألا يجرنا ذلك إلى تذكر الفصل 32 من مشروع دستور 1908، الذي نُشر في (لسان المغرب)، والذي أصر واضعوه على تجريم عملية تجريد الأسرى من ثيابهم وإرسالهم عراة، وهي عادة كانت معروفة، آنذاك، وانتبه محررو المشروع إلى ضرورة وضع حد لها ومساءلة كل من يرتكبها. وهل من المنطقي أن نستهين بتوصل المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى أن المزاعم بالتعذيب لها أساس من المصداقية، وباعتراف وزير حقوق الإنسان بأن عمليات اعتقال عدد من النشطاء صاحبتها أعمال عنيفة من قبيل كسر الأبواب وإتلاف بعض التجهيزات في الأماكن التي تمت فيها الاعتقالات، وأنه "تم إصلاح الأبواب المكسورة"! وعلى هامش قمع الحراك في الريف، لُوحظ أن الجو العام الذي خَيَّمَ على البلاد أصبح ممهوراً بالكثير من العمليات القمعية في مناطق مختلفة، وفي مناسبات وأوضاع مختلفة. لُوحظ مثلاً بأنه أصبحت هناك استهانة بحياة بعض السجناء المضربين عن الطعام، كحالة الغازي خلادة (سجن بني ملال) وذلك، ربما، لعدم التشجيع على ممارسة هذا الشكل الاحتجاجي، وسُجِّلَتْ حالات وفاة في ضيافة الشرطة كحالة إلياس الحنفري بآسفي. وبرزت العديد من مظاهر التشدد الأمني، كما وقع في واويزغت حيث، تَمَّ مثلاً، هدم خيمة للعزاء، وتعرض بعض الحقوقيين والمحامين لعمليات صفع وضرب في الشارع العام أمام أنظار الجميع، ونَفَّذَ ذلك ممثلون للقوات العمومية، بكل طمأنينة، كما لو أنهم قد أخذوا الضوء الأخضر للتصرف على هواهم، وبدون أية قيود. وتَقَرَّرَ أن يُرْفَقَ قرار منع مسيرة 20 يوليوز بضجة كبرى وتهويل لفكرة المسيرة واعتبارها ضارة بالاستثمار وبالسياحة وبالاقتصاد في المنطقة، في محاولة لإفشالها. فكيف يُعقل أن مسيرة سلمية ستمتد لمدى ثلاث أو أربع ساعات، فقط، في مسار محدد ومرسوم مسبقاً، والتي تأتي بعد "هدنة" دامت لعدة أيام، يمكن أن تكون لها كل هذه الآثار الكارثية المتحدث عنها، بينما العسكرة اليومية، ونصب الحواجز، وإنزال أفراد من القوات العمومية بعرباتهم في الأزقة حتى الصغيرة منها، ومنع سيارات الأجرة من العمل وإيصال المسافرين إلى المدينة، وتفريق أي اجتماع بين أفراد محدودين ليل نهار، كل هذا يتم بدون أية آثار؟ والحقيقة أن المسيرة تهدد السياسة ولا تهدد السياحة. تهدد سياسة الحاكمين في البلاد، وتحكم عليها، وتطالب بتغييرها. أما السياحة، هناك، فأهل الريف ونشطاء الريف أحرص على سلامة الأوضاع الاقتصادية بمنطقتهم، ولهذا يريدون لهذه الأوضاع أن تتقدم حتى تتاح لهم ظروف تحسين معيشتهم. إن الدافع الحقيقي لمنع مسيرة 20 يوليوز، هو قناعة أصحاب قرار المنع أن المسيرة كانت ستكون حتماً ناجحة وحاشدة، فتظهر للعيان هزيمة المقاربة القمعية. واصطلت الصحافة بنار القمع، أيضاً، فَسِيقَ إلى المحاكم عدد من مدراء وأصحاب المواقع والمدونات، وعلى رأسهم حميد المهداوي، الذي صرحت زوجته أنها كانت تنتظر اعتقاله، ولكنها، فقط، لم تكن تعرف الموعد والطريقة. وتَمَّ الانتقال من متابعته والحكم عليه بناءاً على تصريحات اعتبرت محرضة على التظاهر، إلى متابعته بجريمة عدم التبليغ عن مؤامرة تستهدف الأمن الداخلي، وفق منطق أصبح يعتبر بأن أسهل شيء يمكن أن يقع اليوم في المغرب هو تدبير مؤامرة؛ بينما يقتضي النظر القانوني السديد، قبل المتابعة بمثل هذه التهمة، التحري عن مدى توفر الشروط المادية التي تثبت جدية المؤامرة المفترضة، وإلا أصبح كل شيء مؤامرة، وغدى كل تصريح طائش أو غاضب أو مكالمة هوجاء دليلاً على قيام مؤامرة. أسباب المقاربة الأمنية هذه المقاربة الأمنية (أو بعبارة أصح : المقاربة القمعية) لم تأت عفواً، بل جاءت ثمرة عدة عوامل لعل أهمها هي: أولاً: وجود ثقة شبه مطلقة في قدرة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على الحسم الميداني وإنهاء الحراك في أجل معقول. لقد ساد التصور، ربما، أن الأجهزة المذكورة، بما تتوفر عليه من تأهيل وتدريبات وترسانة من الأدوات والهياكل البشرية والمهارات والخبرة التي اكتسبتها في اختبارات سابقة، لن تفشل في مهمة القضاء –بسرعة- على الحراك وفرض العودة إلى وضع ما قبل الحراك، أي إلى وضع ما قبل موت محسن فكري. ثانياً: بعد أن وصل الحراك إلى مدى معين، ساد بعض الأوساط الرسمية اعتقاد بأن هيبة الدولة قد مُسَّتْ، وأنه يجب أن يكون هناك رد في المستوى على هذا المس. لقد برزت، بمناسبة الحراك، ظاهرة الخطابات والرسائل الجديدة الموجهة إلى رئيس الدولة، وهي خطابات ورسائل غير مألوفة في أسلوبها، وهو الأسلوب الذي اعْتُبِرَ بأنه ينطوي على قدر كبير من التطاول. والحقيقة أن المطلوب -بكل بساطة- في نظرنا، هو إعادة تحديد مفهوم هيبة الدولة، وتحديد مفهوم الاحترام الواجب للملك. فتجاوز سقف الصراحة الذي كان معمولاً به في الماضي لا يعني التقليل من الاحترام، فقد كان من الأجدر، في رأينا، أن تُعتمد قراءة إيجابية تنطلق من أن وجود فائض في الصراحة التي يتوجه بها المواطنون إلى ملكهم، أحسن من وجود خصاص في هذه الصراحة، مادامت الصراحة تمكن الملك أكثر من معرفة مكامن الخلل في سير دواليب الدولة وتسمح له بتقدير أدق للأوضاع وخطورة المشاكل القائمة. ثالثاً: الاعتقاد بأن "المقاربة الأمنية" هي أمضى سلاح لمنع انتشار العدوى. لقد اعتبر البعض أن أي تساهل أو تسامح مع حراك الريف، سيشجع المناطق الأخرى على فعل الشيء نفسه، والنزول للشارع بكثافة، ومطالبة الدولة بإصلاحات عميقة، وممارسة الضغط عليها، وإجبارها على تغيير كثير من المنطلقات التي صارت عليها منذ زمان، وربما فتح إمكانات لانتفاضة وطنية عارمة. إذا تأملنا الواقع كما هو، نلاحظ، اليوم، أننا أمام حراك محلي وتضامن وطني، ولسنا أمام حراك وطني. فما تَوَفَّرَ في حراك منطقة الريف من عناصر، لا يمكن أن يجتمع –بسهولة- في مناطق أخرى من البلاد. والذي جعل حراك الريف يصل إلى ما وصل إليه من زخم جماهيري كاسح، يعود إلى اعتبارات جهوية، وتاريخية، وثقافية وسياسية. محلياً، توصل نشطاء الريف إلى دفتر مطلبي متوافق عليه، ولكن، وطنياً، ليس هناك، حتى الآن، إمكانات حالية وجاهزة لبلورة دفتر مطلبي وطني واضح ومتوافق عليه، يمكن أن يسمح بانطلاق زخم جماهيري يستوعب الكتلة الحرجة من الجماهير، كما أن دينامية الحراك أفرزت حَمِيَّةً محلية كان لها دور جوهري في الحفاظ على تلاحم وتماسك الساكنة بالمنطقة. الحلقة الأولى الحلقة الثانية